حمدان بن عثمان خوجة
المرآة
تقديم تعريب وتحقيق
د. محمد العربي الزبيري
منشورات ANEP
1 / 1
سلسلة التراث:
صدر عن نفس المجموعة
• مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي لمالك بن نبي
• الليلة المتوحشة لمحمد ديب
• ليل الإستعمار لفرحات عباس
• وجهة العلم الإسلامي لمالك بن نبي
• نصوص مختارة لعبد الحميد بن باديس
• Le miroir، hamdan Khodja
• La nuit coloniale، Ferhat Abbas
• lettre aux français، Emir Abdelkader
• Les Mémoires de Messali Hadj، Messali Hadj
• L'avenir de l'Islam et autres écrits. Si M'hamed Benrahal
• Lettre au Président Wilson et autres écrits. Emir Khaled
• Visages d'Algérie، Assia Djebar
• L'Algérie. Civilisations anciennes du Sahara، Abdelaziz Ferrah
• L'Etoile Nord-Africaine، collectif
• OEuvre poétique، Bachir Hadj Ali
• El Fuldj، captif des Barbaresques، Chukri Khodja
• Les poèmes de Si Mohand، Mouloud Feraoun
• Les conditions de la renaissance، Malek Bennabi
1 / 2
تصدير
وأنا أطوي كتاب حمدان خوجة ـ[المرآة]ـ وهو الأول ضمن سلسلة من عشرة كتب كانت محطات في تاريخ الفكر السياسي في بلادنا منذ أن أرخى عليها (الليل الإستعماري) سدوله، عشرة كتب بادرت المؤسسة الوطنية للإتصال والنشر والإشهار مشكورة بمناسبة الصالون الدولي العاشر للكتاب، بإصدارها مجتمعة في إطار الإحتفال بالذكرى الخمسين لثورتنا التحريرية الوطنية، اعتراني تأثر كبير من حيث أنني مواطن جزائري ورئيس الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية لكن كذلك من حيث أنني مسلم محب للإنسانية، يعتقد الإعتقاد الراسخ أن الثقافات والحضارات على تنوعها العجيب، تنبجس من منبع انساني واحد. وتمثل جوانب مختلفة للحضارة الإنسانية الشاملة، وتستطيع بالتالي، مهما كانت الصعوبات، التحاور فيما بينها.
إن كتاب ـ[المرآة]ـ هو بالفعل الوثيقة الوحيدة ذات الأهمية الموضوعة من قبل جزائري، التي وصلت إلينا والتي تشهد على الكارثة التي أوقعها الاحتلال الفرنسي على الجزائر العاصمة وما جاورها، بعد استسلام الداي حسين ورحيله إلى المنفى من قبل حتى أن يتخد التدخل الفرنسي شكل استراتيجية غزو استدماري ممنهج لبلادنا.
1 / 3
لقد سلم كتاب ـ[المرآة]ـ من التدمير والتخريب الشاملين اللذين طالا تراثنا قاطبة بما في ذلك، بل وخصوصا، تراثنا المكتوب، لأن حمدان خوجة نشره بباريس باللغة الفرنسية سنة ١٨٣٣، إنه كتاب يمكن، بل يجب قراءته بصفته شهادة على الغزو الإستدماري وإدانه لما كان عليه منذ مهلته الأولى: أي عملية إبادة للحضارة والتمدن لا يمكن أن تنجح إلا بفناء ساكنة الجزائر وإبادتها.
إلا أنه لا ينبغي قراءة كتاب ـ[المرآة]ـ بصفته بيانا مناهضا للاستعمار وكفى.
فبالنسبة لهذا الكرغلي المنتمي الى الأقلية الحاكمة التركية، الذي سافر إلى أوروبا والذي كان يحسن الفرنسية والانجليزية، إذا كان الاحتلال الفرنسي أمرا سلبيا على الإطلاق، فإن الإطاحة بالداي حسين. بفعل الاجتياح العسكري الفرنسي، يمكن أن تكون لها آثار إيجابية من حيث أنها تفتح المجال أمام إمكانية تحديث المجتمع الجزائري وانبعاثه وفق نمط الدولة الوطنية.
إن مسعى حمدان خوجة وفكره السياسي في مجملهما. إلى غاية ذهابه إلى المنفى باسطنبول سنة ١٨٣٦ والتحاقه بالرفيق الأعلى سنة ١٨٤٢، كان يرومان تحقيق هدف ذي أبعاد ثلاثة، إعادة رسم استقلال الجزائر على أساس إقامة دولة وطنية ومباشرة حوار مع فرنسا يضع حدا لمواصلة حرب الإبادة ومباشرة تحديث المجتمع الجزائري.
إن حمدان خوجة، بعيدا عن بعض ما نشهده حاليا من تخوفات وتشنجات، لا يخشى التحديث هذا، خاصة عنى المستوى الفكري والسياسي، بل إنه ينشده، ويتطلع إليه ولايعتبر تحقيقه صعبا مستعصيا: (وفي أثناء رحلتي إلى أوربا، درست مبادئ الحرية الأوروبية التي تشكل أساس الحكم التمثيلي والجمهوري، ووجدت أن هذه المبادئ كانت تشبه المبادئ الأساسية لشريعتنا إذا استثنينا فارقا بسيطا في التطبيق، وعليه فكل من يدرك الشريعتين إدراكا صحيحا يستطيع الموافقة بينهما.
1 / 4
لم يمتد العمر بحمدان خوجة حتى يشهد تجسيد الهدف الثلاثي الأبعاد هذا للجزائر، فجهوده في سبيل ترقية الوحدة الوطنية بإصلاح ذات البين بين أحمد باي، باي قسنطينة، والأمير عبد القادر باءت بالفشل، شأنها في ذلك شأن الحوار مع السلطات الفرنسية. لقد تعين مرور ١٣٠ سنة من الإبادة ومن إعادة تشكيل عموم مجتمعنا على وقع توالي ضربات النظام الاستدماري كي تبثق أفكار حمدان خوجة النيرة أخيرا وتخرج من حجب ظلام (الليل الاستدماري). فقبلت الدولة الفرنسية، في مارس ١٩٦٢، على أسس أخرى وبعد معاناة طويلة. قبلت على مضض الاعتراف بسيادة الدولة الوطنية الجزائرية واستقلالها. منصفة حمدان خوجة ضد الجنرال كلوزيل وصوت التحديث السلمي والإرادي ضد التحديث الحربي والإبادي.
رجاؤنا هو أن يملأ، في ٢٠٠٥. صوت حمدان خوجة الأسماع في ضفتي البحر الأبيض المتوسط.
عبد العزيز بوتفليقة
1 / 5
مقدمة
هل تتجدد مصائب القرن السادس عشر في القرن التاسع عشر؟ إن كل ما وقع في الجزائر، منذ ثلاث سنوات، يفرض علي واجبا مقدسا يتمثل في التعريف بالوضع الحقيقي لهذا البلد قبل الغزو وبعده، وذلك لألفت انتباه رجال الدولة الى هذا الجزء من العالم، ولأقدم لهم ما لدي من معلومات وأنورهم حول بعض النقاط التي لا شك أنهم يجهلونها. أفعل ذلك لعلهم يبدون عطفهم على الجزائريين عندما يرون أوضاعهم.
وبسرد الشرور التي تعرض لها أبناء وطني، فانني أريد، كذلك، أن أرفع من معنويات بعض المساكين. ومن الصعب جدا أن أجد، في مسألة الجزائر، جانبا إيجابيا بالنسبة للأهالي. إنني لا زلت أبحث بدون جدوى عن مسليات لهؤلاء السكان. فمصالحهم مجهولة، وآمالهم مغيبة، ولا شفقة عليهم ولا رحمة ولا عدالة، وبالتالي، فإنني أتساءل لماذا تزعزع بلادي في جميع أسسها وتصاب في جميع مبادئها الحيوية. وإلى جانب ذلك أنظر إلى الأوضاع التي توجد عليها دول أخرى مجاورة لنا، فلا أرى أية واحدة
1 / 7
منها مجبورة على تحمل ظروف مشابهة للظروف المفروضة علينا: إنني أرى اليونان تساعد وتتكون على أساس متين بعد أن فصلت عن الامبراطورية العثمانية، وأرى شعب بلجيكا يفصل عن هولنده بسبب بعض الاختلاف في المبادىء للسياسية الدينية، وأرى، جميع الشعوب الحرة تهتم بالبولونيين وباسترجاع سيادتهم، كما أنني أرى الحكومة الإنكليزية تخلد مجدها بعتق الزنوج، ويضحي البرلمان البريطاني بنصف مليار للمساعدة على ذلك العتق، وعندما أدير البصر إلى بلاد الجزائر، فإنني أرى هؤلاء السكان المساكين يرزحون تحت نبر الاستبداد معرضين للإبادة ولجميع آفات الحرب وتلك المظالم كلها التي ترتكب باسم فرنسا الحرة.
وعلى الرغم من أن عددا كبيرا من الكتاب قد نشروا مؤلفات عن الجزائر فإن معظمههم لم يعالج هذه المسألة إلا من زاوية المنافع المادية في البلاد. هذا بقطع النظر عن الطرق التي اتبعها السادة الولاة للحصول على تلك المنافع.
هذا هو الجانب الذي اهتممت به في كتابي، وأعتقد أن السلطات الفرنسية قد تصرفت بكيفية تتعارض كليا مع المبادىء التحررية ومع الإحسان الذي كان من حقنا أن ننتظره من حكومتها. ولقد شذ السيد بيشون عن قاعدة هؤلاء الكتاب.
إن معرفتي لأنحاء هذا البلد ووضعي الاجتماعي في مدينة الجزائر قد مكنني من تقديم صورة صادقة، كما أنني اعتمدت في ذلك على معرفتي لأحوال الإنسانية بصفة عامة.
إن مسألة الجزائر مسألة خطيرة لأنها تخص حياة أمة بأجمعها، تتكون من عشرة ملايين نسمة، وهي الآن، من سوء الحظ، في نقصان يتزايد من يوم لآخر بسبب الحرب، والبلاد يقودها الظلم والطغيان مند ثلاث سنوات.
1 / 8
ورغبة مني في القيام بالمهمة الخطيرة الملقاة على عاتق المؤرخ الحقيقي:
تلك المهمة التي ما زال لم يضطلع بها أي واحد من المؤلفين الذين كتبوا عن إيالة الجزائر، وعزما مني على عدم إخفاء أي شيء، بعيدا عن الزعم بأنني أكتب أحسن من غيري، ولكنني مقتنع من أن لفرنسا رجالا لن بهملوا، لاكتشاف الحقيقة، أية وسيلة تقدم لهم ونمكنهم من التأمل في عواقب تجاوزات السياسة، ومتأكد من أن هؤلاء الرجال المعتبرين سيهتمون أساسا بمجد الأمة الفرنسية وذلك بالقضاء على جميع الأعمال المنافية لذلك المجد الذي يجب أن تهتم به فرنسا كل الاهتمام لكي تحظى بثناء الأجيال المقبلة. على هذا الأساس، فإنني أتوجه خاصة لهؤلاء الرجال الذين يضحون بسعادتهم لإسعاد الآخرين ولمضاعفة العلاقات الاجتماعية وتدعيمها.
إن المدنية الحقة لا تكون بالكلام فقط، ولا يمكن أن تطبق إلا بواسطة أناس مجربين يميزون بين احترام الإنسان ومصالحهم.
ومن جهة أخرى، فإنني أجنبي ولا أريد أن أعرض نفسي لانتقاد السوقة أو الفضوليين، خاصة وأن واجبي يتمثل في قضية مقدسة لها علاقة بسعادة الإنسانية. إنني لست مرتاح البال، بل على العكس فإن مصائب بلدي تقلقني باستمرار، ولقد كنت في كثير من الأحيان، وأنا أسجل تلك المصائب، أجبر على التوقف عن الكتابة لأترك المجال لدموعي تنساب. وعلى الرغم من أن كتابي رواية تاريخية، فإنه قد كتب ليقرأه أشخاص من ذوي الرحمة والإحساس.
لقد قال أحد الفلاسفة: (إن كل جملة تصاغ بعبقرية تدل في نفس الوقت على الجوهر وعلى مساوىء الإحساس، إن الإنسان الذي يقلقه الحب
1 / 9
يكون ملكا لشعوره، ولا يهتم على الإطلاق بالكيفية التي يعبر بها عما يخالج نفسه: إن التعبير الأكثر بساطة هو قبل كل شيء ذلك الذي يفهمه).
وإذن، فإن هناك موضوع آخر يشغل بال الناس في هذه الدنيا، وهو الخلاف الموجود بين الديانات والعادات والقوانين. فلا ينبغي أن يندهش القارىء لتنوع الأخلاق والتقاليد في مختلف المقاطعات التي تكون إيالة الجزائر كالصحراء والتل والجبال والمدن. ولو أننا نزور جزءا من سويسرا، أو إيطاليا، أو المجر، وألمانيا، فإننا سنجد في تلك البلدان، أيضا، تنوعا كبيرا حتى فيما يخص القوانين.
وكل شعب بصفة خاصة ألا يعتقد أنه يملك أحسن التقاليد وأحسن القوانين؟ ومع ذلك فليس ثمة حتى في نظر السوقة ما هو أكثر سخرية من مثل تلك الادعاءات. وعلى من له تلك الأفكار أن يراجع نفسه ليرى أنه يهزأ بها عندما يسخر من الآخرين.
ومن سوء الحظ، فإن مثل هذا الاختلاف في العادات والتقاليد هو الذي يكون دائما في أساس احتقار الأمم بعضها لبعض، وهو أمر ما كان يجب أن يحدث لأن الحضارة لا تتمثل في كيفية الجلوس على مقعد أو على أريكة، أو في اللباس بهذه الطريقة أو بتلك، ذلك أن بعض الناس أنيقون، يترددون على الصالونات ولكنهم يشكلون، في بعض الأحيان، خطرا على الأخلاق أو على المجتمع، أما البعض الآخر فهم أناس بما في الكلمة من معنى يحتاجون في بعض الأحيان إلى من يصلح أحوالهم. وبكل تأكيد، فليست هذه هي الحضارة التي نريد إدخالها إلى إفريقيا. إن الشرقيين يعتبرون الحضارة هي اتباع الأخلاق الشاملة والعدل إزاء الضعيف والقوي على حد سواء، والمساهمة
1 / 10
في إسعاد الإنسانية التي تشكل أسرة كبيرة واحدة. ولكن التغلب على الأهواء والنزوات، وللقيام بالواجبات، ينبغي أن نستعمل جزءا من الوقت للتعرف حق المعرفة على الأسباب التي تجلب للبعض توبيخا من الناس أجمعين وتغطي الآخرين بمدح أبناء وطنهم، وكذلك للتعرف على عظمة الأمم وانحطاطها قصد اتباع الخير وتجنب الشر.
إن المجربين المتعودين على القضايا سيفهمون كما ينبغي هذا الأسلوب الفلسفي، فإلى هؤلاء الناس أهدي هذا الكتاب.
حمدان بن عثمان خوجة
1 / 11
لمحة تاريخية وإحصائية حول إيالة الجزائر
يسكن إيالة الجزائر عشرة ملايين نسمة، وتتكون هذه الإيالة من مدن، وقرى، وموانىء وأرياف. غير أن الجزء الأكبر الذي هو قاعدتها ومصدر ثرواتها يوجد خارج المدن التي يبدو أنها تكونها. ويسكن هذا الجزء أناس يطلق عليهم اسم البدو.
1 / 13
الفصل الأول
البدو وأصلهم
ينقسم البدو إلى طبقتين أو على الأصح، إلى نوعين متميزين من السكان فالذين يسكنون السهول هم العرب الحقيقيون، أصلهم من الشرق وينحدرون من قبائل عربية مختلفة. أما الذين يسكنون الجبال أو الأماكن الوعرة المنحدرة فهم البرابرة الحقيقيون أو (القبائل) الذين تختلف لغتهم عن لغة العرب. والفرق واضح بين اللغتين، فمثلا يقول البربر، للتعبير عن كلمة رجل ارغاز، ويسمون الحجر ادغاغ.
وعندما احتل بن يومي أفريقيا لاحظ أن هؤلاء السكان كانوا جهلة متزمتين محبين للحرب شجعان ولكنهم عنيدون، يعيشون مرتاحي البال لا ينشغلون بالمستقبل إلا قليلا ويتخذون من جبالهم الوعرة حصونا تحميهم من كل هجوم ولاحظ في الأخير أنهم كانوا يعيشون بطريقة بسيطة جدا، ويرتدون ملابس غاية في البساطة ولا يعرفون أي نوع من أنواع الترف ولا أي إمتياز من الامتيازات الاجتماعية.
1 / 15
ومراعاة لعاداتهم، اكتفى هذا الفاتح بقبولهم الدخول في الاسلام أو على الأحرى بحملهم هذا الاسم، ولم ير من حقه، لصالحهم وصالحه، أن يفرض عليهم قوانين غير قانونهم. بل ترك الناس يعيشون، كما كانوا في السابق في تعصبهم وأخطائهم، ولم يفرض القانون الذي يحرم المرأة من الميراث، ووافق على عدم إقامة الحد على الذي يخالف الشرع أو التقاليد، مع العلم أن من عادتهم في مثل هذه الحالات، اتباع قانون الجانب القوي، وهلما السلوك الذي رأى الفاتحون المسلمون اتباعه في الفترات الأولى قد جعلهم يأملون في أن تصبح هذه الشعوب مثلهم بمرور الزمن وبالتعاشر المستمر ولذلك تركوا في كل قرية عالما مستنيرا اطلق عليه اسم (المرابط) يتحتم عليه تعليل كل ما يريد منهم أن يتبنوه في صالحهم، وفي سبيل الوصول إلى سعادة مشتركة.
وعندما أراد العرب فتح اسبانيا (١)، استعملوا هؤلاء البرابرة كأداة تخدم مشاريعهم، وجعلوهم يؤمنون بأن الموت في سبيل الدين تضحية لها قيمة كبرى عند الله، كما خلقوا فيهم حقا تعصبيا ودينيا ضد جميع الذين لا يؤمنون بالإسلام، وفي نفس الوقت أظهروا لهم كل الفوائد التي تنتج عن الحرب والفتح، وعن نهب أملاك الأعداء. وما دامت هذه المبادىء لا تتنافى مع أخلاق المغلوبين، فانه كان من السهل على المسلمين أن يبقوا بينهم إلى يومنا هذا، وأن يحتفظوا بثمرة فتوحاتهم. أما مبادىء
_________
(١) وقع الفتح سنة ٧١٠ م، ولكن إمارة الأندلس لم تتكون إلا سنة ٧١٨ م. وقد ظلت تابعة للخلافة الأموية إلى أن كان عام ٧٥٦ وجاء عبد الرحمن الأول. فأعلن استقلاله عن الوطن الأم.
1 / 16
الحرب أو السلم وإنحاز المعاهدات، فإنهم لم يطلعوا عليها، خاصة وأنه لا توجد في جوارهم شعوب على دين موسى أو عيسى، بل وأنهم لم يطلعوا حتى على المعنى الحقيقي لهذه الآيات القرآنية التي تقول: ﴿وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان وقد جعلتم الله عليكم كفيلا﴾ (٢).
كما انهم يجهلون حديث الرسول الذي يؤكد أن كل عداوة ينبغي أن تنتهي بعد السلم. وأن احترام أملاك الأعداء يصبح بعد ذلك واجبا كما يجب إعطاء هذه الأملاك نفس الامتيازات التي تحظى بها أملاك المؤمنين. وأخيرا، فإنهم لا يولون أي اعتبار لغير ذلك من المبادىء التي تهدف إلى المحافطة على الجنس البشري وتحسين مصيره، وصيانة ما يسعى، عموما في أوروبا، بحرية الشعوب أو الحقوق الاجتماعية.
ومن المعلوم أننا بهذه المبادىء الأخلاقية التي هي أساس مؤسساتنا، قد صنعنا كثيرا من المعجزات وكسبنا العديد من الأنصار. وبفضل هذه الوحدة وباتباع هذه السياسة سيطر الفاتحون على جزء كبير من العالم كما يعلمنا بذلك جميع المؤرخين.
وعلى الرغم من أن الخلفاء لم يطبقوا هذه المبادىء الطيبة، وانقلبوا إلى ملوك متجبرين على الشعوب، فإننا لا نكذب في صحة مؤسساتنا الدينية. ولقد رأينا أن هؤلاء الملوك، عندما يحيدون عن هذه المبادىء، كثيرا ما يخفقون في مشاريعهم قبل تحقيق أهدافهم الحكومية التي يصبون إليها.
ومنذ ذلك الحين احتفظت هذه القبائل التي ظلت تعيش في جهل
_________
(٢) الآية ٩٨ من سورة النحل.
1 / 17
مطبق، احتفظت بأفكار غالطة متزمتة، غير أن إحدى خاصيات عاداتهم هي تلك الروح الوطنية التي تتحلى بها كل قبيلة. ذلك أنه إذا ما تعرضت واحدة لاعتداء قبيلة مجاورة بدون أي سبب، فإن القبائل الأخرى تتبنى قضيتها حتى ولو عرفت أنها ستهلك وتبيد في تلك المعركة. وعليه، فإن الحروب بين هؤلاء السكان كثيرة، وأن هذه المناسبات هي التي تعودهم على المجازر، وفيها يكتسبون الشجاعة، وتبرز أبطالهم. وفيما بينهم، ان حق القرابة مقدس، كما أنهم يولون الأجنبي الذي ينضم إليهم برابطة الزواج تأييدا وحماية لا رجعة فيهما. أما السلم، فإنه يتم دائما بتدخل المرابط.
وعلى الرغم من عدم وجود قانون يسوون به خلافاتهم ويكبحون به جماحهم وعلى الرغم من أنهم لا يقبلون الخضوع لأي سلطان، فإن طاعتهم للمرابط، طاعة لا يمكن تفسيرها إذا أخذنا بعين الإعتبار الوصف السابق لطبائعهم. وأما الشيوخ، فإنه لا يكاد يكون لهم تأثير إذا قارناهم بالمرابط، وفي هذا الصدد ها هي نبذة عن جمعياتهم التي يبحثون فيها مصالحهم المشتركة.
ان هذه الجمعية تتكون من جميع رجال القبيلة، شبانا كانوا أم شيوخا.
ويبدأ الشيوخ بالكلام، فيقدمون مشاريعهم، ويعرضون فوائدها، وإذا لم تقبل هذه المشاريع بالإجماع، أو إذا وجد معارضون واحد، فإن ذلك المعارض يطلق صرخة من وسط الجمعية. وان هذه الصرخة التي يسمونها صرخة الإنذار، يعبرون عنها في لغتهم بكلمة (ويك)!. وبعد هذه الصرخة يقول المعارض بصوت مرتفع: (انظروا لهذا الرجل الذي يريد أن يدنس كرامتنا ويجعلنا من الأنذال!). وبانتهاء هذه العبارات يحدث الاضطراب وتتفرق الجمعية.
وان المرابطين الذين يقطنون بين القبائل يعلمون الأخلاق ويفسرونها
1 / 18
بقدر المستطاع وبقدر إدراك هؤلاء السكان. انهم يعلمونهم الصلاة، ويهدونهم إلى المكارم الأخلاق، ومقابل ذلك يجنون الطاعة المطلقة المحفوفة بالاحترام، وتعتقد القبائل ان كل دعائهم مقبول عند الله الذي يؤمنون بقداسته وجلاله. وهكذا، فعلى سخط أو على بركة المرابط تتوقف سعادة القبائلي الخيالية. وكل من رغب في شيء، فإنه يقدم القرابين ويتوجه إلى المرابط لكي يأمل في تحقيق ما تمنى. أما الذي تلاحقه الشرور، وتعذبه الآلام، فإن إيمانه ناقص، وانه للمذنب الذي يعاقبه الإله.
ان اسم المرابط مشتق من كلمة ربط العربية التي تعني الالتزام والتعهد، أي أن المرابط يعامد الله على ألا يتصرف إلا لما فيه خير الإنسانية.
ولذلك. فحتى بعد موتهم، يبقى هؤلاء المرابطون محل توقير دائم.
وتدفن أجسامهم في قبر يحاط بتابوت يمكن أن يلجأ إليه كل مجرم.
وبالتالي، فإن المكان يصبح موقرا إلى درجة أن الابن لا يجرأ على اقتحامه لمطاردة قاتل أبيه. وهكذا فان المرابط، وهو ميت، قد يحظى باحترام يفوق الذي كان من الممكن أن يحظى به وهو حي. وهذه القبور كثيرة جدا في إيالة الجزائر، وقد احتل الجيش الفرنسي معظمها بعد الغزو. وترك هذا التدنيس أثرا سيئا في نفوس الطبقة الدنيا. وعلى الرغم من أن بعض أبناء هؤلاء المرابطين لم يتبعوا سلوك آبائهم، وأهملوا مبادئهم فإن الشعب ينظر إليهم باحترام ولا يدعوهم بأسمائهم وإنما يطلق عليهم اسم سيدي، متبوعا باسم الشهرة أفراد العائلة.
إن وجود هؤلاء المرابطين في المجتمع الأفريقي نعمة، إذ بمجرد ما لهم من نفوذ على هذه الشعوب يسكتون أسلحة الخصوم، ويمنعون إراقة الدماء. وإن سلظانهم على نفوس القبائل الجاهلة المحدودة النظر لعجيب. ويبدو أن
1 / 19
الله نفسه يرشدهم ويقودهم، وأن تصديق هذه الشعوب لهم ليبلغ درجة الضلال والعمى. وفي يومنا هذا، فإن المرابط الذي ما زال يتمتع بأكبر ثقة، والذي يكاد يؤله من طرف القبائل يدعى: سيدي علي بن عيسى، ويسكن فرومه (٣) وهو من مريدي المرابط الشهير المسمى سيدي محمد بن عبد الرحمن. ولق أحرز هذا الأخير في حياته على أكبر شهرة يمكن تصورها في الطهارة.
وانتقلت هذه الشهرة حتى إلى مدينة الجزائر وأواسط القبائل الذين يسكنونها. وقد مات هذا الشخص العجيب في نهاية القرن الثامن عشر، ودفن في الحامه (٤) وذات ليلة اختطف القبائل جثته وحملوها إلى جبال جرجرة ثم دفنوها في قرية فرومة على مقربة من فليسه (٥) غير أن المكان الذي سبق أن دفن فيه ما زال محترما. وعلى القرب منه تعود الناس أن يتصدقوا على الفقراء، فيوزعون عليهم الخبز والدراهم، أملا في أن يستجاب دعاؤهم. وإن هذا النوع من العبادة غير معقول، خاصة وإن مبادىء الدين الاسلامي لا تسمح بتأليه الآدميين. ونحن نعتقد بأن مشيئة الرحمن واحدة في الأرض وفي السماء وإن الله الموجود في كل مكان لا يمكن حصره في مكان، وإن ما نتصدق به على أمثالنا دليل على إيماننا وقبل أن نستحق نعمة الاله يجب علينا أن نعمل بما أوصانا به. ونحن نؤمن أيضا بأن أعالنا من خير ومن شر ستجازى في يوم من الأيام. وهكذا إذن، فإن الاعتقاد الشعبي إزاء المرابطين، أساسه الجهل والمبادىء الغالطة والتعصب وليس من السهل إصلاحها، غير أن المتعلمين منا
_________
(٣) قرية صغيرة تقع في ضواحي مدينة الأخضرية. وتوجد الأخضرية على بعد خمسة وسبعين كيلومترا شرقي مدينة الجزائر.
(٤) حي الحامة حاليا، ويوجد بين بلكور والعناصر في القسم الشرقي من مدينة الجزائر.
(٥) تقع شمالي شرقي فرومة على بعد حوالي ثلاثين كيلومترا من مدينة الأخضرية.
1 / 20
ورؤساء الحكومة التركية يدركونها حق الإدراك. والسياسة هي التي جعلت الآخرين يبقون على هذه المبادىء الغالطة أو يتركونها تستمر ويحترمون الأماكن التي تقدسها القبائل. وهذه المعالجة هي التي مكنتهم من الحصول على ما حطمه الجيش الفرنسي منذ أن وصل إلى أراضي الجزائر ذلك انه بدلا من أن يطبق نفس هذه المبادىء، أراد استبدالها بمادىء جديدة لتعارض تماما مع عادات وتقاليد السكان.
ولكي نعود إلى المرابط ابن عيسى ونعرف ما له من نفوذ على نفوس الجزائريين يكفي أن نقول بأنه هو نفس الشخص الذي قدم على أثر الغزو الفرنسي وساطته لإبرام السلم بين الفرنسيين والقبائل ويمتد سلطان هذا الرجل إلى مملكة تونس وله في كل قبيلة ومدينة وقرية على أرض الإيالة ممثل في المساجد يتقبل الهدايا الموجهة إليه ويجمع عشر الغلال ثم توزع هذه المحصولات على الطبقة المعوزة وتستعمل في الإعتناء بالمحلات المخصصة للضيافة.
وأينما وجد ممثل جامع توجد دار مفتوحة للضيافة يطعم فيها المسافرون ويبيتون بلا مقابل وكذلك الحيوانات التي يستعملونها والتي ترافقهم. وفي نهاية كل سنة يرسل إلى المرابط الرئيسي كل ما لم ينفق في هذه المؤسسة. ولقد اجتمعت شخصيا بهذا المرابط ووجدت فيه رجلا بسيطا، ليس له غرور، وإنما ذو بصيرة، تحدوه العواطف الإنسانية بلا تحيز، لا يملك ثروة طائلة، ذلك إنه، بعد أن يوزع الصدقات، لا يبقى له أكثر مما يقتات به. أمام بابه يوجد عدد كبير من الأجفان لإطعام ضيوفه، وكذلك أكياس من الشعير والتبن للحيوانات التي ترافقهم. وهو يستضيف كل شخص يقصد بيته. وقد أراد في ذلك الحين أن يكلفني ببيع جنان كان يملكه في مدينة الجزائر ولكنني جعلته يعدل عن هذه الفكرة حتى يتمكن بما له من نفوذ من أن يخدم المصالح الفرنسية، وربما من أن يدفع
1 / 21
بواسطة باي قسنطينة إلى إبرام صلح مشرف. وفي هذا الإطار كان الدوق دوروفيقو (٦) يعمل على أن يضمه إليه ويجعل منه صديقا له لأنه كان يريد أن يعترف له ببعض الجميل. إن المرابط الذي يعرف أغراض دينه يعرف كيف يسخر تسخيرا مثمرا وذكيا جميع الوسائل الموجودة بين يديه. إنه لن يقول للقبائل: يجب أن تطيعوا القانون، وعليكم بالاستماع إلى الموعظة وباتباعها، وإنما يقول لهم: لعن الله من لا يفعل كذا! وهكذا يجعلهم يطيعون ويحصل منهم على كل ما يريد، وإذا اقتضى الأمر فإنه يستعمل عبارات مطلقة تبدو كأوامر العلي الجبار. غير أن هؤلاء المرابطين يتصرفون بلطافة وكياسة ولا يسمحون أبدا بأي تجديد ولا يقومون بأي شيء مما يمكن أن يتعارض مع كرامة أو عادات الشعب وبهذا السلوك يحتفظ هؤلاء المرابطون بنقوذ لا حدود له.
_________
(٦) سياسي وجنرال فرنسي، اسمه الكامل: آن جان ماري روني هافري، ولد سنة ١٧٧٤ وتوفي سنة ١٨٣٣. خلف فوشي بوزارة الشرطة سنة ١٨١٠، وكان من أنصار نابليون الأوفياء. وبعد هزيمة واترلو ألقي عليه القبض في جزيرة مالطة، ثم فر من السجن إلى مدينة أزمير سنة ١٨١٦. وبعد ذلك بثلاث سنوات توجه إلى لندن، ومن هناك استطاع أن يحصل على عفو الحكومة الفرنسية واسترجاع رتبته العسكرية. وفي سنة ١٨٣١ عين قائدا أعلى الجيوش الفرنسية في الجزائر، حاول أن يتفاوض مع الباي أحمد بواسطة حمدان خوجة لكنه لم ينجح في محاولته. له مذكرات كتبها سنة ١٨٢٨.
1 / 22
الفصل الثاني
طبائع البربر وعاداتهم
يرتدي الرجال قماشا من الصوف. ولأبستهم شكل كيس مثقوب في الوسط لإخراج الرأس، وبه ثقبان آخران على الجنبين لإخراج اليدين، عرضه حوالي ذارع ويهبط إلى منتصف الساق. والقماش من الصوف الأسود، وهو من صنع النساء، وبما أن هذه الصوف لا تغسل كما ينبغي، فإنها تصدر رائحة لا تطاف عندما تبللها الأمطار، وعندئذ يصبح هذا اللباس ثقيلا جدا وهو بمثابة القميص والسروال وغيرهما في آن واحد. لكن الأغنياء منهم يضيفون لباسا آخر فوقه يسمونه البرنس، وهو دئما من نفس القماش، وشكله معروف في أوروبا وهذا النوع من الكساء يرفع ويبقى إلى أن يتساقط إربا إربا وعادة فإن برنسا واحدا يكفي لمدة حياة الإنسان لا يفارق الجسم، يتبلل وييبس على ظهر صاحبه إما بمفعول الهواء أو بفضل حرارة النار.
وتتدثر النساء في حائك يشبك بالدبابيس ويصنع هو أيضا من قماش ينسجنه بأنفسهن يكف هذا الكساء بقطعة أخرى من القماش ذي اللون الأحمر أو الأزرق عرضها حوالي أربعة أصابع وتستورد هذه الصوف الملونة من مدينة الجزائر، والمثريات من النساء يغطين رؤوسهن بقطعة من الكتان أو منديل قطني. أما
1 / 23