من حديث النفس
الناشر
دار المنارة للنشر والتوزيع
رقم الإصدار
الثامنة
سنة النشر
١٤٣٢ هـ - ٢٠١١ م
مكان النشر
جدة - المملكة العربية السعودية
تصانيف
وهو أسرع الناس إلى المزاح والفكاهة، وأضيقهم بمجالس الجد، وأبعدهم عن تكلف الوقار واتباع «الرسميّات»؛ فلا يكون في مجلس إلاّ حرّكه بحديثه وإشاراته ونكاته، وأفاض عليه روح المرح والودَّ الخالص. ولكن موجة من الحزن المفاجئ قد تطغى على قلبه في أشد الساعات سرورًا وأكثر المجالس طربًا، فإذا هو حزين كئيب، قد ضاق بالناس وتبرّم بمزاحهم وهزلهم، وغدا راغبًا في الجِد محبًا للوقار، متلبسًا بالصرامة والحزم، منصرفًا عما كان فيه منذ لحظة واحدة؛ لا يعرف الناسُ (ولا يعرف هو) ماذا أصابه فنقله من حال إلى حال.
تغلب عليه العاطفة حينًا فيمسي أرق الناس شعورًا وأرهفهم حسًا، يرى المشهد الجميل من مشاهد الكون، أو يسمع النغمة العذبة الشجية، أو يقرأ البيت الغزلي الرقيق أو القصة العاطفية المحزنة، فتوقظ في نفسه عالَمًا من الذكريات، فيخفق لها قلبه ويهفو لها فؤاده، ويحس بها تلذعه لذعًا، وتفيض على نفسه شعورًا طاغيًا بحب مُبهم غامض لا يجد طريقًا ينبعث منه، فيزلزل كيانه زلزلة كما يزلزل البركانُ الأرضَ إن لم يجد فوّهة يندفع منها، ويدعه شخصًا متهافتًا، لا يقوم إلاّ على أعواد من العواطف الرقيقة المتداعية (١).
ويسيطر عليه العقل أحيانًا فيحتقر العاطفة ويدعو إلى أدب قوي نافذ، ويسخر من الحب ويهزأ بالعاشقين، ويزدري هذه القصص وهذه الأشعار التي كان يرقص لها قلبه وتفيض لها
_________
(١) هذا شيء قد كان وزال.
1 / 106