بسم الله الرحمن الرحيم(1)
المقدمة:
صفحة ٢
الحمد لله الذي جعل علماء العترة للحق علما، وجعلهم سفنا للنجاة [من الأهوال](2) وعصما، وأبقاهم حفاظ الكتاب وتراجمه، ورقى الجهل الذي هو الداء الدوى(3) ومراهمه، فهم عند كل بدعة يكاد بها الإسلام يظهرون الحق، ويعلون، وينورونه، ويعلنون، ويردون عنه كيد الكائدين، وزيغ المبطلين، وانتحال الجاهلين، فهم على ذلك بوعد الصادق المصدوق لا يزالون على الحق ظاهرين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله وصفيه، وحبيبه، ونجيبه، ونجيه الذي اختاره على علم، وزينه بالكمال والحلم، فلم يزل مصفيا لشرائع الإسلام لكل وارد، صادعا بالحق في كل المصادر والموارد، حتى إذا أكمل الله به الدين، ورجحت من الحق الموازين، ندبه الله إلى قربه فانتدب، وأحب له دار الجزاء ونعم ما أحب، بعد أن أو ضح المحجة، وصرح الحجة، وقام خطيبا يوما بعد يوم في ملأ بعد ملأ، وقوم بعد قوم، في ذلك يقول ما رواه مسلم في صحيحه، والترمذي، وأحمد في مسنده، والطبراني في الأوسط، وأبو يعلى، والحاكم في المستدرك من ثلاث طرق، قال في كل واحدة منها: صحيحة على شرط الشيخين، ولم يخرجاه - يعني من تلك الثلاث - وابن عقدة في الموالاة، والطبراني في الكبير والضياء في المختارة، وأبو نعيم في الحلية، وعبد بن حميد بسند جيد، وأبو موسى المدني في الصحابة، والحافظ أبو الفتوح العجلي في كتابه الموجز في فضائل الخلفاء، وابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه بسند جيد، والدولابي في الذرية الطاهرة، والبزار، والزرندي الشافعي، وغيرهم بألفاظ مختلفة متفقة المعاني: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني(1) أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض))(2). إلى غير هذا الحديث مما طار كل مطار، وملأ النواحي والأقطار، فحفظت العترة الزكية ما استحفظت، وأحسنت الخلافة فيما عليه استخلفت؛ فهم علماء الملة الأعلام، وهم الملوك و(هم)(3) الحكام، وهم أهل العهدة في الإقدام والإحجام، ولذلك كان التجديد لأديان هذه الأمة من خصائصهم، ومن شأن المجدد لصنعة من مضى أن يكون هو العالم بمقدمات الصنعة وموادها، بحيث يرضاه الصانع الأول خليفة، وذلك فيما أخرج أبو إسماعيل الهروي من طريق حميد بن زنجويه، قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: يروى(4) في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ((إن الله يمن على أهل دينه من رأس كل مائة سنة برجل من أهل بيتي يبين لهم أمر دينهم))(5)، ورواه العلامة السبكي من طريق أبي هريرة، (وأبو نعيم)(1)، وذكره الجلال السيوطي في منظومته، قال: وهو قوي، وفي مرقاة الصعود وغيرها أيضا، وكان أيضا خاتمة الأئمة الذين تملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا منهم؟ وتنقطع في وقته المقالات إلا مقالته، وتضيع الدلالات إلا دلالته، وذلك آية (بينة)(2) وبرهان ظاهر أن مذهب أهل البيت هو المذهب، ولو لم يكونوا هم الأمناء والخلفاء لأعيى الخطب في حل مشكل ما رواه البخاري في صحيحه: ((لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم(3) اثنان)) ولهذا، أعوزت المسالك من تصدى لشرح البخاري حتى هدي لذلك الشيخ ابن حجر في فتح الباري، فإنه قال ما لفظه: ويحتمل أن يكون بقاء الأمر في بعض الأقطار دون بعض، فإن البلاد اليمنية وهي النجود فيها طائفة من ذرية الحسن بن علي لم تزل مملكة تلك البلاد معهم من أواخر المائة الثالثة، إلى أن قال: فبقي الأمر في قريش في قطر من الأقطار في الجملة، إلى آخر كلامه، ولو لم يكن العترة في هذه المثابة لكان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قد تركنا في طخياء مظلمة نتهارج، ونتفانى - والعياذ بالله - بغير هدى ولا كتاب منير، ولم يصدق قوله - عز وجل -: ?اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي? (المائدة: 3)، ولا قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ((ما عملت(4) شيئا يقودكم إلى الجنة إلا وقد دللتكم عليه))، وأي ضيعة؟ والله يصون مقامه أعظم من أن تبقى هذه الحنيفية بغير أعلام هدى، يدعي كل أحد أنه الحافظ لها والحائط لأكنافها، وهم مع ذلك شاهرو سيوف المخاصمة، ومشرعو سهام المكالمة، في التخطية والتصويب، والتصديق والتكذيب، قد تفرقوا فرقا كثيرة وادعى البعض أنه صاحب السنة والجماعة، وخصمه صاحب البدعة والفرقة، ولم يكن المسمى بهذا الاسم المستحق له مجهولا عند العلماء، ولا متروكا عن البيان، بل قد بينته الأخبار، فروى أبو داود: ((من أحب حسنا وحسينا وأباهما وأمهما كان معي في الجنة، ومات متبعا للسنة)) (1).
صفحة ٥
وفي ((الكشاف)) عند تفسير قوله تعالى: ?قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى? (الشورى: 23)، وروي أنها لما نزلت قيل: يا رسول الله، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: ((علي وفاطمة وابناهما))(2) ثم ساق الكلام حتى قال: وروي أن الأنصار قالوا: فعلنا، وفعلنا كأنهم افتخروا، فقال عباس أو(3) ابن عباس: لنا الفضل عليكم، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأتاهم في مجلسهم فقال: ((يا معشر الأنصار، ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي)) (4)؟ فقالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي))؟ فقالوا: بلى يا رسول الله. قال: ((ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي))(5)؟ فقالوا: بلى يا رسول الله. قال: ((ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي؟ قالوا: بلى يا رسول الله))، قال: ((أفلا تجيبونني))؟ قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: ((ألا تقولون: ألم يخرجك قومك فآويناك؟ أو لم يكذبوك فصدقناك؟ أولم يخذلوك فنصرناك))؟ قال: فما زال يقول حتى جثوا على الركب، وقالوا: أموالنا ومافي أيدينا لله ولرسوله فنزلت الآية))(1) وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ((من مات على حب آل محمد مات شهيدا، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفورا له، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة، ثم منكر ونكير، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان(2) إلى الجنة، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة))(3) انتهى. فتدبر قوله: مات على السنة والجماعة.
وروى ابن يزداد في المصابيح، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: الجماعة ما وافق طاعة الله، وإن كان رجلا واحدا.
صفحة ٦
وسأل ابن الكوا أمير المؤمنين - عليه السلام - عن السنة والبدعة والجماعة والفرقة؟ فقال: ((السنة ما سنه محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، والبدعة ما خالفها، والجماعة جماعة أهل الحق وإن قلوا، والفرقة متابعة أهل الباطل وإن كثروا)) وفي الجامع الكبير للجلال السيوطي من طريق وكيع أن عليا - كرم الله وجهه - كان يخطب فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني من أهل الجماعة؟ ومن أهل الفرقة؟ ومن أهل السنة؟ ومن أهل البدعة؟ فقال: ((ويحك أما إذا سألتني، فافهم عني ولا عليك أن تسأل عنها أحدا بعدي، فأما أهل الجماعة فأنا ومن اتبعني وإن قلوا، وذلك الحق عن أمر الله وأمر رسوله، وأما أهل الفرقة فالمخالفون لي ولمن اتبعني وإن كثروا، وأما أهل السنة فالمتمسكون بما سنه الله لهم ورسوله وإن قلوا، وأما أهل البدعة فالمخالفون لأمر الله وكتابه ورسوله، القائلون برأيهم وأهوائهم وإن كثروا، وقد مضى منهم الفوج الأول، وبقيت أفواج، وعلى الله قصمها واستئصالها عن حدبة الأرض)).
صفحة ٧
وروى ابن حجر الهيثمي الشافعي، عن أحمد بن حنبل أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال لعلي - كرم الله وجهه -: ((أنت أخي، وأبو ولدي، وتقاتل على سنتي)) (1) انتهى. وأخرج الدار قطني في الفضائل عن معقل بن يسار، قال: سمعت أبا بكر يقول: علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - عترة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أي الذي حث على التمسك بهم، وعلي هو يعسوب المؤمنين، وهو رأس أهل البيت المطهرين؛ ولهذا قد روى ابن عقدة الحافظ أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - لما وصى بأهل البيت في أحد ألفاظ الحديث المتقدم فسره بعلي - كرم الله وجهه - وأقامه للناس، ولا ريب أن أهل البيت لا يخالفونه، ويحرصون(2) على الرواية عنه والانتماء إليه، وأما العامة فلا تخصصون(3) مقامه تخصيصه، وإن ادعوا قيامهم بحقه فدعوى عاطلة عن البرهان، بل قام البرهان من فعلهم على خلاف دعواهم.
صفحة ٨
فإن قائلهم يقول: لو شهد علي في باقة بقل ما قبله، وجمهورهم إن لم يكونوا أجمعين يزنونه بميزان معاوية الطليق، ولا يجعلون لعلي - كرم الله وجهه - مزية، بل قالوا: كلاهما في الجنة، وهي شهادة منهم لغير مدعي، فإن معاوية لا يساعدهم على ذلك، فكيف بعلي - كرم الله وجهه - وكيف يساعدهم معاوية وخطباؤه يشهرون اللعن لعلي - عليه السلام - على آلاف من المنابر؟ وكيف يساعدهم علي - كرم الله وجهه - وهو يقنت في صلاته بلعن معاوية؟ فهذه الطوائف زادت في معاداة علي - كرم الله وجهه - على معاداة معاوية له، فإنهم صوبوا معاوية في جميع معاداته لعلي، فكانوا شركاءه فيما صنع، وزادوا على (1) ذلك بإرغام أنف أمير المؤمنين - صلوات الله عليه، وصانه عن الإرغام - بأن قالوا: عدوك الذي لعنته، ولعنك من أهل عليين، من الذين أنعم الله عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين. ولقد أحسن كرم الله وجهه في جوابه على من انتحل هذه المقالة في زمانه، فإنه حكى الماوردي صاحب (أدب الدين والدنيا) من الشافعية أن رجلا قال لأمير المؤمنين - كرم الله وجهه -: أنا أحبك، وأحب معاوية، فقال له - عليه السلام -: ((إذا أنت أعور، فإما أحببتني وكنت صحيحا، وإلا أحببت معاوية وكنت أعمى))، أو كما قال، فهي رواية بالمعنى.
صفحة ٩
وقد قال الحكماء: صديق عدوك عدوك، وليت شعري ما أبقى القوم لما رواه مسلم في صحيحه من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - لعلي: ((لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق)) (1) من معنى، وما أبقوا للحديث المتقدم المشتمل على التوصية بأهل البيت من معنى أيضا(2) مع تظاهر طرقه ووضوح معاني ألفاظها، مع حاجة كل فريق منهم إلى نصرة إمامه برواية لا تصح، أو برواية لا ظهور لها في ذلك الإمام، أو بكثرة الأتباع، كما حكى نجم الدين البغدادي في ((شرح الأربعين النووية)) أنه رأى كتابا لبعض الحنفية في مناقب أبي حنيفة - رضي الله عنه - وافتخر فيه بكثرة الأتباع وجلالتهم، ثم قال معرضا بباقي المذاهب(3):
صفحة ١٠
أولئك أصحابي فجئني بمثلهم... إذا جمعتنا يا جرير المجامع ثم ساق البغدادي كلاما غريبا من هذا القبيل حتى قال ما لفظه: وحتى جعل كل فريق يروي السنة في تفضيل إمامه، فالمالكية رووا: ((يوشك أن يضرب الناس الإبل فلا يوجد عالم مثل عالم المدينة)) (1)، قالوا: وهو مالك. والشافعية رووا: ((الأئمة من قريش، وتعلموا من قريش، ولا تعلموها، وعالم قريش يملأ الأرض علما))، قالوا: ولم يظهر من قريش بهذه الصفة إلا الشافعي. والحنفية رووا: ((يكون في أمتي رجل يقال له: النعمان(2)، هو سراج أمتي، ويكون فيهم رجل يقال له: محمد بن إدريس هو أضر على أمتي من إبليس)). والحنابلة رووا: ((يكون في أمتي رجل يقال له: أحمد بن حنبل يصبر على سنتي صبر الأنبياء)) أو كما قال ذهب عني لفظه. انتهى ما أردت نقله من كلام نجم الدين البغدادي، وهو رجل جليل، ترجم له الأسيوطي، وعدله من التصانيف مختصرا (الروضة) في الأصول، و(شرح الأربعين)، و(شرح التبريزي في مذهب الشافعي)، وغير ذلك، مات في رجب سنة عشر وسبعمائة، ومثل ما ذكره بل أضعافه قد ذكره الجويني، ولو لا خوف الإطالة لذكرت بعض ما قال.
وأما الاستقصاء فهو يخرج بنا عما أردناه، فإنه صنف كتابا على أبواب الفقه في إظهار عوار مذهب الإمام أبي حنيفة، وقد أجاب عليه بمثل ذلك من الحنفية الشيخ الكردي، ولقد تكلم الجويني بمثالب للإمامين مالك وأبي حنيفة، لا يجوز تقليدهم معها، والله يصونهم عنها، وليس هذا من غرضنا، لكن الحديث (ذو)(3) شجون.
صفحة ١١
ولما اطلعت فيما يسره الله لي من المطالعات على ما وضعه كل فريق لجماعته من التراجم البسيطة وغير البسيطة، وقد كان لأهل البيت من ذلك أكثر مما للفقهاء، فإن كل إمام داعي من أئمتهم له في إمامته وصفاته الخلقية والخلقية مجلدات تساوي السيرة التي اعتنى بها ابن هشام، بل ربما كان للإمام ثلاث سير يعتني بها ثلاثة من العلماء، ولكن الزيدية - كثرهم الله - اقتصروا على هذا النوع في ذكر علمائهم، ورأوا أن العناية بالمتبوع تغني عن التابع، فإن رؤساء الأمة هم دعاة آل محمد - صلوات الله عليه وعليهم - فاقتصروا على ذلك، ووقع الإخلال بذكر جماعة من العلماء النبلاء أهل الكمالات في العلميات والعمليات ممن تشد إليهم الرحال (وتثني(1) عليهم الخناصر عند تعداد الكملة من الرجال)، مع أنهم ليسوا كغيرهم بل لهم مقام أجل إذ هم الأتباع الموافقون لآل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - في الأقوال والأفعال.
وقد روى الحسين - عليه السلام - عن جده - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما رواه الطبراني في (الأوسط): ((الزموا مودتنا أهل البيت، فإنه من لقي الله - عز وجل - وهو يودنا دخل الجنة بشفاعتنا، والذي نفس محمد بيده لا ينفع عبدا عمله إلا بمعرفة حقنا)).
صفحة ١٢
وعن أبي رافع - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال لعلي - رضي الله عنه -: ((أنت وشيعتك تردون علي الحوض رواء مرويين مبيضة وجوهكم، وإن عدوك يردون علي الحوض ضمأى مقبحين)) (1) أخرجه الطبراني في (الكبير) من حديث محمد بن عبدالله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده، وفي بعض الروايات: ((وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا))، ومن حديث علي - رضي الله عنه -: ((إن الله قد غفر لشيعتك ومحبي(2) شيعتك)).
وروى المحب الطبري عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - : ((لا يحبنا أهل البيت إلا مؤمن تقي، ولا يبغضنا إلا منافق شقي)).
وروى ابن عدي في الكامل عن أنس، عنه - صلى الله عليه وآله وسلم-: ((أحبوا أهل بيتي، وأحبوا عليا، من أبغض أحدا من أهل بيتي فقد حرم شفاعتي)).
وروى البخاري مرفوعا: ((حب آل محمد خير من عبادة سنة))، وعن علي - كرم الله وجهه (في الجنة)- (3) ورواه أيضا معاوية، وهو عجيب منه قال - صلى الله عليه وآله وسلم - : ((حبي وحب أهل بيتي نافع في سبعة مواطن أهوالهن عظيمة)) ذكره الديلمي في (الفردوس)، وذكره ولده أيضا.
صفحة ١٣
وروى القاضي عياض في (الشفاء): ((معرفة آل محمد براءة من النار، وحب آل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - جواز على الصراط، والولاية لآل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أمان من العذاب))، وعن علي صلوات الله عليه، قال - صلى الله عليه وآله وسلم - : ((يرد أهل بيتي ومن أحبهم كهاتين السبابتين))، ذكره المحب الطبري. وعن زين العابدين أنه قال: من أحبنا نفعه الله بحبنا ولو أنه بالديلم، أخرجه الجعابي في (الطالبيين)، وعن ابن عباس - رضي الله عنه - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: ((أنا شجرة، وفاطمة حملها، وعلي لقاحها، والحسن والحسين ثمرها، والمحبون أهل بيتي ورقها، هم في الجنة حقا حقا)) (1)، أخرجه الديلمي، وعن علي - صلوات الله عليه - رفعه: ((يا علي، إن أهل شيعتنا يخرجون من قبورهم (يوم القيامة)(2) على ما هم من الذنوب والعيوب وجوههم كالقمر ليلة البدر)) (3) الحديث رواه السخاوي. وعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ((من مات على حب آل محمد(4) مات شهيدا، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفورا له، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا))، وفيه: ((مات مؤمنا مستكمل الإيمان))، وفيه: ((بشره ملك الموت،، ومنكر ونكير))، وفيه: ((يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها))، وفيه: ((فتح له في قبره بابان إلى الجنة))، وفيه: ((مات على السنة والجماعة))، وفيه: ((من مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة وبين عينيه آيس من رحمة الله)) أخرجه الثعلبي.
ولأحمد في مناقبه عن الحسين - عليه السلام -: ((من دمعت عيناه فينا قطرة آتاه الله - عز وجل - الجنة)) والأحاديث في (هذا)(1) المعنى كثيرة، ومن ذلك عن علي - عليه السلام - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: ((من أحبنا بقلبه، وأعاننا بيده ولسانه كنت أنا وهو في عليين، ومن أحبنا بقلبه، وأعاننا بلسانه، وكف يده فهو في الدرجة التي تليها، ومن أحبنا بقلبه، وكف عنا لسانه ويده فهو في الدرجة التي تليها)) (2)، رواه نعيم بن حماد.
وعن أبي هريرة قال(3) - صلى الله عليه وآله وسلم - : ((خيركم خيركم لأهل بيتي من بعدي)) (4) رواه أبو يعلى، ورجاله ثقات.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال(5) - صلى الله عليه وآله وسلم - : ((إن لله - عز وجل - ثلاث حرمات فمن حفظهن حفظ الله دينه، ومن لم يحفظهن لم يحفظ دنياه ولا آخرته))، قلت: وماهن؟ قال: ((حرمة الإسلام، وحرمتي، وحرمة رحمي)) (6)، أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط، وأبو الشيخ في الثواب.
صفحة ١٥
وعن علي - كرم الله وجهه-: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : ((من لم يعرف حق عترتي والأنصار والعرب فهو لأحد ثلاثة: إما منافق، وإما لز نية، وإما امرؤ حملت به أمه في غير طهر)) (1) أخرجه أبو الشيخ في الثواب.
وعن الحسين - عليه السلام -: ((من والانا فلرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - والى، ومن عادانا فلرسول الله صلى الله عليه /8/ وآله وسلم عادى)).
وعن عبد الله أظنه الكامل - عليه السلام -: (كفى بالمحب لنا أنسه إلى من يحبنا، وكفى بالمبغض لنا بغضا أنسه إلى من يبغضنا) رواه الجعابي.
وروى الجعابي - أيضا - عن يحيى بن زيد بن علي - عليه السلام -: (إنما شيعتنا من جاهد فينا، ومنع من ظلمنا حتى يأخذ الله - عز وجل - لنا بحقنا) والأحاديث في الباب كثيرة والقليل يدل على الكثير.
وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ((والذي نفسي بيده لا يبغضنا، أهل البيت أحد إلا أدخله الله النار)) أخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق أخرى عن أبي سعيد - رحمه الله - بلفظ: ((لا يبغضنا أهل البيت رجل إلا أدخله الله النار)) (2) وترجم عليه إيجاب الحلول في النار لمبغض أهل البيت، وفي مسند الديلمي: ((من أبغضنا فهو منافق)) (3).
صفحة ١٦
وعن الحسن بن علي - عليهما السلام - أنه قال لمعاوية بن خديج: يا معاوية، إياك وبغضنا، فإن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: ((لا يبغضنا ولا يحسدنا أحد إلا ذيد عن الحوض يوم القيامة بسياط من نار)) (1) أخرجه الطبراني في الأوسط.
وعن علي - عليه السلام - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ((اللهم، ارزق من أبغضني وأهل بيتي كثرة المال والعيال كفاهم بذلك أن يكثر مالهم فيطول حسابهم وأن يكثر عيالهم فتكثر شياطينهم)) أورده الديلمي وابنه أيضا.
وعن جابر أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: ((من أبغضنا أهل البيت حشره الله يوم القيامة يهوديا وإن شهد أن لا إله إلا الله)) أخرجه الطبراني في الأوسط والعقيلي.
وعن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: ((يا بني عبد المطلب، إني سألت الله أن يجعلكم جوداء نجداء رحماء(2)، فلو أن رجلا صفن(3) بين الركن والمقام يصلي(4) وصام ثم لقي الله (وهو)(5) مبغض لآل بيت محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - دخل النار)) أخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم(6).
صفحة ١٧
وعنه - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((من سب أهل بيتي فإنما يريد الله والإسلام)) أخرجه الجعابي في الطالبيين، وأخرج أيضا(1) ((من آذاني في عترتي فعليه لعنة الله))(2)، فدعتني الرغبة في الخبر إلى كتابة أسماء جماعة ظفرت بأسمائهم في كتب مفرقة على جهة التقريب لا التحقيق والاستقصاء، فإنه محال لكثرة عددهم مع تعدد الأزمنة، فإن الزيدية أقدم المذاهب أصلا، فإن إمامهم - عليه السلام - هو شيخ الإمام أبي حنيفة، وأبو حنيفة أقدم الفقهاء الأربعة، وبلاد الزيدية متشتتة بالعراق وهم العدد، وبالحجاز فإن بوادي المدينة المشرفة على أصل الفطرة الأولى من مذهب آل محمد؛ لأنهم في باديتهم لا يخالطون، فبقوا على /9/ صفتهم، ومنهم من هو في اليمن النجود منه والعوالي وبعض بطون تهامة كما سيمر بك - إن شاء الله تعالى - بعض أحوالهم، وأما المغرب فذكر من هنالك الدامغاني، وذكر بعض العلماء أنهم العدد الكثير، فإن(3) زيدية اليمن بالنسبة إليهم كالشعرة البيضاء في أديم الثور الأسود، هذا كلامه، فالاستقصاء محال لا سيما لمثلي، فإن التصدي لهذا الشأن يحتاج إلى همة سامية(4)، وإلى ترحل إلى مقامات أهل الإفادة، ووجدان أمهات وأسفار، وكل ذلك (عني)(5) بمراحل، غير أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: ((قاربوا وسددوا))(6) وفي أمثال العامة: (غبار العمل خير من زعفران البطالة)، ولقد حدا بي(7) إلى هذه البغية أمران:
صفحة ١٨
أحدهما: التبرك بذكر العلماء والصالحين، والتسبب للدعاء لهم ولي من الراغبين في الخير، فإن هؤلاء الأجلاء محلهم عند الله مكين، فقد روي عن بعض السلف - رحمهم الله تعالى - في تفسير ?ولله جنود السماوات والأرض? (الفتح: 4) جنود السماء: الملائكة، وجنود الأرض: الزيدية. وروي عن بعض السلف أيضا: لو نزلت رايات من السماء نزلت على علماء الزيدية. وروي أيضا فيهم: لو كان في الأرض ملائكة يمشون لكانوا علماء الزيدية، أو كما قال كل ذلك من كلام السلف الكرام - رضي الله عنهم - فهذا الأمر الأول.
صفحة ١٩
الأمر الثاني: تعريف الطالب الراغب بما عليه سلفه من الكمال، فقد جعل ذلك من طرق المقلدين إلى الترجيح للأئمة، فتقليد هؤلاء الأجلاء لأولئك الأئمة أعظم دليل على فضل الأئمة، مع أنه قد توهم كثير من الجهال أنه ليس لأهل البيت ولا لشيعتهم بسطة في الحديث والتفسير والأدوات، وذلك الظان أتي من قبل نفسه، ومن جهة قصور همته، فإن القصور لا ينتج الكمال، فإنه ما من علم عقلي أو نقلي إلا ولهم فيه السابقة الأولى واليد الطولى، كما سترى نعت جماعة - إن شاء الله تعالى - بالتحقيق في اللغة، وبعضهم في الأصول، وبعضهم في التفسير، وغير ذلك من العلوم الإسلامية، فلهم مثلما لغيرهم، فإن هذه العلوم لم تختص بفريق بل كل علم له رجال من جميع الطوائف، فمنهم من له في علم واحد حظ كامل، فبرع فيه، ولم تشغله (عنه)(1) الشواغل، ومنهم من تعداه إلى ثان أو ثالث، والعلوم هبات، وكم من محقق لا يلحق، قد زاغ عن الحق، وقد قال أمير المؤمنين - كرم الله وجهه - كما رواه القضاعي: (العلم نقطة أكثرها(2) الجهل) أو كما قال. وأهل البيت وشيعتهم همهم العمل، والناس صنفان: منهم من همه الرواية، ومنهم من همه الرعاية، وقليل العلم مع العمل كثير. وهاهنا كلام /10/ نفيس ذكره الحافظ السيد محمد بن إبراهيم، وعبر عن هذا المرام بأوفى عبارة، والحق ما قال والله يحب الإنصاف، قال السيد المذكور في عواصمه ما لفظه: الإنصاف لا يشك من أنصف من نفسه، وترك العصبية في رأيه أن هذه الأمة المرحومة قد تقسمت الفضائل، وانتدبت كل طائفة منها لإتقان عمل فاضل، فأهل الأدب أتقنوا الإعراب، وأتوا في جميع أنواعه بما يأخذ بمجامع الألباب، وأهل القراءات حفظوا الحروف القرآنية وبينوا المتواتر والصحيح والشاذ في إعراب الآي السماوية؛ وأهل الحديث ضبطوا الآثار والسنن، وأوضحوا أحوال الرجال، وبينوا العلل؛ والفقهاء أوعبوا الكلام على الحوادث، وأفادوا معرفة اختلاف الأمة واجتماعها؛ وأهل الأصول ذللوا سبل الاجتهاد، ومهدوا كيفية الاستنباط، وكذلك سائر أهل الفنون المفيدة والعلوم النفيسة، وكل أبدع، وأجاد، وأحسن، وأفاد، وأكمل ما تعرض له، وزاد.
وممن ذكر هذا المعنى الإمام المؤيد بالله في كتابه في (إثبات النبوءات)(1)، والشيخ الصالح الشهرودي صاحب (عوارف المعارف)، فإذا عرفت هذا فلا يعزب عنك معرفة خصيصتين:
صفحة ٢١
الخصيصة الأولى: أن أهل البيت - عليهم السلام - اختصوا من هذه الفضائل بأشرف أقسامها وأطول أعلامها، وذلك لأنهم كانوا على ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين من الاشتغال بجهاد أعداء الله، وبذل النفوس في مرضاة الله، مع الإعراض عن زهرة الدنيا، وترك المتشابهات(1)، والاقتصاد في المأكول والملبوس، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والقيام بالفرائض والنوافل في أفضل أوقاتها على أتم هيئاتها، وتلاوة القرآن العظيم، والتهجد آناء الليل والنهار، والتحري والخوف من الله تعالى، والدعاء إلى الله - عز وجل - بالحكمة والموعظة الحسنة، وبذل النصيحة للناس، وتعليمهم معالم الهدى، والاقتصار في العلم على ما اقتصر عليه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- ،(2) وعلى ما اقتصر عليه أصحابه المشهود لهم في كتاب الله تعالى بأنهم خير أمة أخرجت للناس، وعلى ما اقتصر عليه التابعون الذين شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بأنهم من خير القرون(3)، فإن جميع هؤلاء ما تشاغلوا بالإكثار من التواليف والتفاريع وجمع الحديث الكثير، وقد قال العلماء - رضي الله عنهم -: إن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم، والإفضل للمسلمين الاقتداء بالسلف، فإنهم كانوا على طريقة قد رآهم عليها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فأقرهم عليها، والله ما يعدل السلامة شيء.
صفحة ٢٢
فنسأل الله السلامة، ولا شك أن عنايتهم بعد تحصيل ما لا بد منه /11/ من العلم إنما كانت بالجهاد وافتقاد العامة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والمحافظة على أورادهم في التهجد وقيام الليل ومناقشة النفوس وتهذيبها، وذلك أفضل مما كان عليه أكثر(1) المحدثين والفقهاء من الإخلال بكثير من هذه الفضائل الجليلة والنعوت الجميلة التي وردت نصوص الآيات القرآنية في وصف المؤمنين بذكرها، ولم يشتغل السلف الصالحون بغيرها، والذي كانوا عليه أولى من الإخلال به ، بسبب الاشتغال بجمع العلم الزائد على الكفاية، وقد نص الإمام المنصور بالله - عليه السلام - على مثل هذا الكلام في كتاب (المهذب)، واحتج بفعل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وفعل السلف الصالح، ولله دره ما كان أحسن استخراجه للفوائد من أفعال السلف الصالح وأحوالهم - رضي الله عنهم -، ثم ساق السيد محمد في هذا المساق كلاما حسنا حتى قال: وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه ذكر أويسا القرني، وأخبر أنه يشفع في مثل ربيعة ومضر، وجاء في فضله مالم يحضرني الآن، مع أن بعض أهل الحديث من أهل الحفظ الواسع والاطلاع التام على معرفة الرجال، ذكر أنه لم يرو عن أويس حديث قط، ولقد كان السلف يقلون الرواية جدا، فعن أبي عمرو الشيباني، قال: كنت أجلس إلى ابن مسعود حولا لا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإذا قال: قال رسول الله استقبلته الرعدة، وقال: هكذا أو نحو ذا أو وهذا، مع أن ابن مسعود كان من أوعية العلم وأعيان علماء الصحابة وأهل الأصحاب والتلامذة، فلم تزد مروياته على ثماني مائة حديث وثمانية وأربعين حديثا، وكذلك أضرابه من السابقين الأولين ونبلاء الأنصار والمهاجرين؛ هذا أبو ذر الغفاري الذي ((ما أظلت الخضراء أصدق لهجة منه)) (2) روى مائتي حديث وثمانين حديثا؛ وهذا سلمان الفارسي الذي قال فيه علي - عليه السلام -: (إنه أدرك العلم الأول والعلم الثاني)، روى ستين حديثا، وهذا أبو عبيدة بن الجراح أمين الأمة روى أربعة عشر حديثا، وأمثال هؤلاء السادة النجباء والأعلام العلماء الذين نص المصطفى عليه الصلاة(1) والسلام على أن غيرهم: (لو(2) أنفق مثل أحد(3) ما بلغ مد أحدهم ولا نصفه)(4)، ولقد روى أبو أسامة عن سفيان الثوري أحد أقطاب الحديث التي تدور رحاه عليها أنه قال: ليس طلب الحديث من عدة الموت، لكنه علم يتشاغل به الرجل، قال بعض حفاظ الحديث: صدق والله سفيان، فإن طلب الحديث شيء غير الحديث؛ فطلب الحديث اسم عرفي لأمور زائدة على تحصيل ماهية الحديث وكثير منها مراقي إلى العلم، وأكثرها /12/ أمور يستعف بها المحدث، من تحصيل النسخ المليحة، ويطلب المعالي وتكثير الشيوخ والفرح بالألقاب والثناء وتمني العمر الطويل ليروي، وحب التفرد إلى أمور عديدة لازمة للأغراض النفسانية لا للأعمال الربانية، فإذا كان طلب الحديث النبوي محفوفا بهذه الآفات فمتى خلاصك منها إلى الإخلاص؟ ومتى كان علم الآثار مدخولا؟ فما ظنك بعلم المنطق والجدل وحكمة الأوائل التي تسلب الإيمان، وتورث الشكوك والحيرة؟ انتهى قلت: والذي(1) اشتغل به أهل البيت - عليهم السلام - هو العلم النافع الذي روي فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: ((العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة)) (2) رواه أبو داود في سننه إلى آخر كلام هذا السيد الحافظ، وحاصل كلامه أن الأئمة اشتغلوا بالعمل، وكذلك أقوال(3) أتباعهم، فإنهم لا يجيزون التخلف عنهم، وطريقهم في الورع مشهورة حتى إن بعض المتكلمين في الرجال جعل الدليل على أن عقدة والد الحافظ أحمد بن عقدة - رحمه الله - زيدي المذهب بأنه ضاع له درهم أو قال دينار، فطلبه الحاضرون حتى وجدوه فلم يقبله، وقال: من أين لي أنه درهمي؟ أو قال: ديناري، قال: وهذا يدل على أنه زيدي المذهب، فإن هذه طريقة (علماء)(4) الزيدية، ومع هذا فلهم في العلم اليد المبسوطة.
هذا عبد السلام القزويني الزيدي ذكر ابن الدماميني الشافعي أنه جمع تفسيرا للقرآن لم يجمع في الإسلام مثله، فرغ منه في سبعمائة جزء، وسيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى -، وهذا الإمام يحيى بن حمزة تعمر نيفا على ثمانين سنة، قالوا: وعدت أيام عمره وكراريسه فأنافت الكراريس على عدتها، وفي ذلك يقول بعض العلماء:
صفحة ٢٥
لو عمره عد والتأليف منه أتى...لكل يوم كما قالوا بكراس وقال يوسف بن كنج الشافعي: إنه لا ينبغي أن يفتى في مذهب الشافعي بحضرة السيد المؤيد بالله والقصة مشهورة، وفي التحقيق أن الزيدية منتسبون إلى علي بن أبي طالب وسبطيه وأمهما لإجماعهم على أن الحق معهم، وإن انتسبوا إلى زيد بن علي - عليه السلام -، فما ذاك إلا لأنها وقعت فترة بعد قتل الحسين - عليه السلام - كادت تنسى أشهر صفات أهل البيت - عليهم السلام - وهي الجهاد، فقام زيد بسنة آبائه، فانتسب من وراؤه إليه لهذه الخصيصة، كما قال الإمام المهدي محمد بن عبد الله النفس الزكية: [فتح لنا والله زيد بن علي باب الجنة، وقال: ادخلوها بسلام آمنين] (1)، فلولا هذه لكان انتساب هذه العصابة إلى علي بن أبي طالب أولى، فإنه لا يستجيز زيد بن علي - عليه السلام - ولا غيره مخالفته، ولذلك ترى مجموعيه(2) /13/ منتسبين إلى علي - كرم الله وجهه -، وإن اختلف أهل البيت، فكما اختلف الفقهاء عن أئمتهم، بل اختلفت الأمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في التحليل والتحريم، فكما أن ذلك الخلاف لا يخرج الأمة عن كونها أمة، ولا الشافعي عن كونه شافعيا بمخالفته لإمامه، لوجه، كذلك هؤلاء، فإن الاختلاف منشؤه قواعد أصولية في ترجيح القول الأول لقوة دليله، كما قال قوم، والآخر لكونه ناسخا كما قال آخرون، ولا شك أن زيد بن علي بعد سلفه شمس العترة المضية آتاه الله مالم يؤت غيره، فهو كما قال الذهبي: جبل من علم، وكما قال هو في نفسه - عليه السلام - فيما رواه سهيل بن سليمان الرازي، عن أبيه، قال: شهدت زيد بن علي - عليه السلام - يوم خرج لمحاربة القوم، فلم أر يوما كان أبهى، ولا رجالا أكثر قراء ولا فقها ولا أوفر سلاحا من أصحاب زيد (بن علي)(1) - عليه السلام -، فخرج على بغلة شهباء وعليه عمامة سوداء، وبين يدي قربوس سرجه مصحف، فقال: (أيها الناس، أعينوني على أنباط الشام، فوالله لا يعينني عليهم أحد إلا رجوت أن يأتي يوم القيامة آمنا حتى يجوز على الصراط، ويدخل الجنة، فوالله ما وقفت هذا الموقف حتى علمت التأويل والتنزيل والمحكم والمتشابه والحلال والحرام بين الدفتين.. وقال: نحن ولاة أمر الله، وخزان علم الله، وورثة وحي الله، وعترة نبي الله، وشيعتنا رعاة الشمس والقمر)). قال الناصر للحق - عليه السلام -: معنى رعاة الشمس والقمر: (2) المحافظة على الصلاة. انتهى.
ومقام زيد (بن علي)(3) غني عن الإطناب والإكثار، وقد بسط العلماء في مصنفاتهم القول في الثناء عليه بإجماع منهم، ولو كتب ما في تأريخ الإسلام للذهبي من ذكره لخرج في مجلد.
قال في (هداية الراغبين): وفي بعض كلام الباقر دليل عظيم على علم زيد - عليهما السلام - فإن الباقر إنما سمي بهذا الاسم لتبقره في العلم، والتبقر: التوسع، فإذا اعترف الباقر لزيد بالسيادة فقد اعترف له بالزيادة(4).
قلت: يعني بقول الباقر هذا قوله فيه: (هذا والله سيد بني هاشم)، وقوله لأبي خالد وأبي حمزة: (يا أبا خالد ويا أبا حمزة، إن زيدا أعطي من العلم علينا بسطة). انتهى
صفحة ٢٧
قلت: فما ظنك برجل يقول فيه الباقر هكذا، والباقر من لا يخفى مكانه على أحد، ولقد ذكر الذهبي أن جابر الجعفي حفظ عن الباقر سبعين ألف حديث، ولنتبرك الآن بمن حضر اسمه الشريف من علمائنا، والرجاء في الله أن أقف على ما يكون به الكتاب حافلا كافلا لفوائد(1)، فإنه قد يتوهم المتوهم أني تصديت للاستقصاء، فهذا ظن معلوم البطلان، ولقد تجاسرت على هذا النقل لما رأيت لبعض العلماء من الحنفية مثله، وابتدأت بإبراهيم بن أبي الفتوح وإن /14/ لم يكن محله على قواعد أهل المعجمات، تيمنا بالفتوح (إن شاء الله)(2) الرحماني، والله المستعان.
[حرف الألف]
إبراهيم بن أبي الفتوح(3) [ - ق 8] (4)
إبراهيم بن أبي الفتوح. قال السيد العلامة يحيى بن المهدي الزيدي نسبا ومذهبا في كتاب (الصلة): (كان هذا القاضي إبراهيم - نفع الله به - من علماء الكلام المبرزين فيه المحلقين، وفي أصول الفقه والفقه والعبادة وتلاوة الكتاب العزيز. وله من الخوف والزهد والحجا مالم(5) يمكن شرحه. كان حي الإمام الناصر يوده ودا شافيا، وينشر من فضله، ويتفقد أحواله، ويعاتبه إذا طال(6) الغيبة عنه)، وكان له ولد عارف ناسك، له يد في العلوم، درس على الفقيه الإمام أحمد بن مرغم بشبام. وحكى الفقيه العابد إمام العباد إبراهيم الكينعي عن ولده محمد هذا حكاية عجيبة وكرامة لهذا ابن أبي الفتوح غريبة(7).
صفحة ٢٨