ودليل آخر
أن حركتهما فيما مضى لم تكثر إلا بعد قلتهما، وقلة الحركة تدل على أوليتها، وتخبر بقضا جميعهما بنهاياتها، وانقطاع أولها وآخرها بغاياتها، لأن أحد الحركة لم يعدم إلا بعد عدم أولها، وانقطاع أكثرها وقلتها، وفنائها بعد حدوثها كلها، والحياة مقرونة بالحركات، والسكون مقرون بالممات، فكانت حياتهما مدة والمدة قد عدمت، وكانت لهما حركات فسكنت، وأعمار بعد حدوثهما انقطعت، فرحمة الله عليهما ورضوانه، وصلواته وغفرانه.
وإذا صح أن لحياتهما أولا، لم يخلوا من أن يخلقا في البدء طفلا، أو يكون جعلهما تماما كاملا، فإن كانا في بدء خلقيهما طفلين، وكان إلى التربية واللطف محتاجين، وذلك دليل على خالقهما، إذ جعلهما بعد صغرهما، وقواهما بعد ضعفهما، وكثرهما بعد قلتهما، وعلمهما بعد جهلهما، وأغناهما بعد فقرهما.
وإن كانا في بدء الأمر كاملين، وخلقا في البدء عاقلين، فإنهما في الكمال محتاجان إلى الأغذية، وأنواع المصالح المخلتفة، من المآكل والمشارب الطيبة، واللباس وأظلة الأبنية، وذلك فما لا يقدران عليه، ولا يجدان السبيل أبدا إليه، إلا بالله المنعم الواحد الخلاق، المتفضل الرازق، لأنهما في بدء خلقهما لا يدريان ما أريد بهما، ولا يكون ذلك إلا بعد تأديب مؤدبهما، وقبول إلهام معلمهما، لأنهما مع جهلهما وخبرتهما، لا يعلمان المنافع والمضار إلا بعد طول تجريبهما، والتجربة ربما كان فيها الهلاك والتدمير، وبطلان الحكمة والتدبير، فمن أجل هذا أوجبت أن يكونا معلمين، وبجميع أسباب الحكمة ملهمين.
صفحة ١٢١