والطبائع الأربع فهي أضداد متنافية، وهي في صلاح الأجسام متكافية، لأن الحر والبر ضدان، وكذلك الرطوبة واليبس مختلفان، وكذلك الاختلاف دليل على حكمة صانعها، إذ جعل كل طبيعة يصلح بخلاف ما تصلح له الآخرى، وإلا فما الذي جعل البرد والحر مختلفين؟! دون أن يكونا جميعا مؤتلفين؟! وما الذي خص أحدهما بالتبريد والاجماد؟! وخص الآخرى بالحرارة والاتقاد؟ وما الذي خالف بين اليابس والرطب فاختلفا؟ دون أن يتفقا ويأتلفا؟! وما الذي خص أحدهما بالرطوبة واللين؟ دون أن يكونا على اليبس مجموعين؟! فالموجود من الأجسام كلها لا يصح وجوده إلا يابسا أو رطبا حارا أو باردا؟! ولو بطلت الطبائع من الجسم لما كان موجودا!! كما لا يصح وجود محدث عدمت حركته وسكونه، لأن الموجود صفة لا يصح مع بطلانها كونه، ولو عدم الحيوان طبائع الحركة، لكان ذلك له من أعظم التهلكة، وكذلك القول في الأشجار المغتذية، أنها لا تتم إلا بطبائع الأغذية، وليست الطبائع بفاعلة للحكمة والتدبير، ولا هي بعالمة بعجائب التقدير، وإنما هي حكمة من حكم رب العالمين، ودلالة عليه بجميع المخلوقين.
وأصل الحكمة عند جميع أولي الألباب، فإنما هي إصلاح الأسباب بالأسباب، فلما وجدنا الأشياء مصلحة بطبائعها، دلنا الإصلاح على حكمة صانعها، لأن الطبائع جعلت لمنافعها، فعلمنا أن المتفضل عليها بنعمها، حي عالم بضعف أجسامها، لأنه لو كان ميتا جاهلا بفاقتها، لما اهتدى إلى الصلاح قوام حياتها، لأنا نجد الموت والجهل يوجبان الفساد، ولا يدركان تدبير أمور العباد.
والدليل على أصول هذه الفروع، أن الموت وقع على الجميع، وللجميع نهاية وغاية.
صفحة ١١٩