مجموع كتب ورسائل الإمام الحسين بن القاسم العياني

الإمام الحسين بن القاسم العياني العياني ت. 404 هجري
172

مجموع كتب ورسائل الإمام الحسين بن القاسم العياني

ثم اعلم - أكرمك الله بهدايته، وأتم عليك ما أولاك من نعمته - أن الهجرة واجبة على جميع المكلفين، لا يعذر الله في تركها أحدا من المخلوقين، ولها وجوه وأبواب وسنذكرها، ونشرحها بعون الله ونفسرها، ولا يجوز لأحد أن يهجر ويباين قبل الدعاء إلى الرحمن، ولا تكون الهجرة إلا بعد البيان، والتلطف والبر والإحسان، وقد روي عن النبي صلوات الله عليه أنه كان يقرب الناس ويدنيهم إليه، ويلطف بهم ويفرش ثوبه لهم لتكمل الحجة بذلك عليهم، وليستعطف قلوبهم بإحسانه إليهم، وفي ذلك ما يقول الله عز وجل فيما أوحى إلى رسوله ونزل: { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } [النحل:125]، وقال: { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم }[فصلت:34]. فإذا فعل ذلك وقربهم بالموعظة الحسنة إلى ربهم، فهو مستوجب لإحسان الله وثوابه، ناج عند الله من سخطه وعذابه، فإن هم أجابوا إلى ما دعا إليه، فقد وجب حقهم على الله وعليه، وكان له عند الله كأجر كل من أجابه، وزاده الله على أجره وأثابه، وينبغي له حينئذ ألا يحملهم فوق طاقتهم، ولا يكلفهم جميع الشرائع في آخر ساعتهم، لأن الطبيب لا يحمل على المريض ما لا يطيق، ولا يكلفه من الأدوية ما لا يليق، وإن أبوا إلا التمادي في الضلال، واتباع الكفرة الفجرة الجهال، وجب عليه الإعراض عنهم، والتنحي بجهده وطاقته منهم، وينبغي له إذا هجرهم ألا يفحش في كلامه لهم، إلا أن يطلبوا قتله فيدفعهم، وإن أمسكوا عن قتاله قطعهم، ولم يجز له بعد المقاطعة أن يحل معهم، وإن نابذوه في دينه نابذهم، ولم يجز له أبدا أن يخضع لهم، وحرمت عليه مكاينتهم، ولم يجز له أبدا مقاربتهم، وإن أقروا بفضله عليهم، فلا بأس بالبر والإحسان إليهم، ولا يحرم عليه الانتفاع بهم، إذا كان ماقتا لهم في فعلهم، داعيا لهم طول دهره إلى ربهم، وكان مع ذلك لا يركن إليهم، ولا يأكل شيئا من ذبائحهم، ولا يجيز شهادتهم، ولا يجيب دعوتهم، وكان يكتمهم أسراره، ويحمل عندهم أموره وأخباره، ففي أولئك ما يقول الله سبحانه، وعز عن كل شأن شأنه: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين }8{إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } [الممتحنة:8 - 9]. ففرق عز وجل بين هؤلاء الفاسقين، وبين هؤلاء الظلمة المحاربين، وإذا أعرضت عن الفاسقين وعن قربهم، واستغنيت في ساعات حوائجك عنهم، فإعراضك وموعظتك حجة لله عليهم، إذ أنت مع ذلك لا تركن إليهم، وإن هجرتهم على فسقهم، ولم تستغن في حوائجك بهم، فذلك جائز لك غير حرام عليك، حتى يرجعوا صاغرين إلى الله وإليك، ويجب على المسلم في والديه، إذا لم يقبلا من الحق ما في يديه، أن يتباعد منهما بجهده، وكذلك من خالف الحق من أهله وولده، غير أن الله سبحانه أوجب للأبوين من الكسوة والنفقة إذا كانا فاسقين، ما لم يوجب لغيره مما من الأقربين، ولم يحكم به لسواهما من المخلوقين، ويجب على الرجل في زوجته إذا لم تقبل إلى الحق، ولم ترجع من المحال إلى الصدق، أن يهجرها مليا من الدهر أو يطلقها، ولا يحل له أبدا أن يدنو منها، إلا أن تتوب إلى الله من العصيان، وتقبل صاغرة إلى طاعة الرحمن، ويجب عليه في بنيه أن يؤدبهم، ويستقبل بالنصفة قلوبهم، ويحبب إليهم الدين ويقربهم، فإن أبوا إلا عتوهم وكفرهم، وجب عليه أن يبعدهم ويهجرهم، وهذا جواب ما سألت عنه من ولاية المسلمين، وعداوة أعداء الله المجرمين، والحمد لله رب العالمين، وصلواته على خاتم النبيين، وعلى آله الطاهرين وسلم.

- - -

كتاب

التوفيق والتسديد والآداب

كتاب التوفيق والتسديد والآداب

فأول ما سألت عنه التوفيق والتسديد وما حقيقتهما ومعناهما؟

والجواب في ذلك: أن التوفيق والتسديد، هما العون من الله والتأييد، فمن أعانه الله على طاعته، ووفقه لمرضاته، فقد وفقه لهداه، وسدده لسبيل تقواه، ولن يوفق الله أبدا من عصاه، وأعرض عن الله واتبع هواه، ثم يقال لمن زعم أن الله وفق العصاة قبل توبتهم، وسددهم في حال معصيتهم: أخبرنا أيها الجاهل عن التوفيق والتسديد، والعون من الله والتأييد، أهما مكافأة للعبد على طاعته، أم عون للفاسق على معصيته، أم تأديب من الله على غفلته، لما علم من إنابته ورجعته.

فإن قال: إنهما زيادة من الله للموقنين، ومكافأة لعباده المؤمنين، فقد أصاب في قوله... إلى قوله: وأصل التوفيق مأخوذ من السداد، وأصله الحق والصدق والرشاد... إلى قوله: وأعلم يا أخي - زادك الله علما، ونجانا وإياك من العمى - أن التوفيق هو التسديد، وهو الهدى من الله والتأييد، وهو زيادة من الله للمهتدين، وإرشاد منه لعباده الراشدين، فمن قبل عن الله الهدى، وشكره على نعمه الابتداء، زاده هدى إلى هداه، وبصره وآتاه تقواه، وأول توفيق الله وتسديده، وعونه للمؤمنين وتأييده، أن يبصرهم معالم دينهم، ويزيدهم في علمهم ويقينهم، ويعينهم بلطفه على جهاد أنفسهم، وأول خذلان الله لأعدائه تركه لهم على ضلالهم، واستدراجه إياهم بإغفالهم، فإذا خذلهم بالترك والإغفال، لم يصيبوا رشدا في حال من الأحوال، ولم يزالوا مرتطمين في الضلال... إلى آخره.

وسألت عن الشجاعة والجبن، أهما من الله تركيب في الأجسام، أم هما اكتساب من العباد؟

واعلم يا أخي أن الشجاعة على وجهين، وكذلك الجبن أيضا على معينين:

فمن ذلك شجاعة المتعبدين.

وشجاعة من لا يعقل من المخلوقين.

صفحة ٢٥٦