اللمعة البيضاء في شرح خطبة الزهراء (عليها السلام) تأليف المولى محمد علي بن أحمد القراچه داغي التبريزي الأنصاري توفي 1310 ه. ق تحقيق دار فاطمة للتحقيق - السيد هاشم الميلاني
صفحة ١
بمساعدة معاونية شؤون التعليم والتحقيق في وزارة الثقافة والارشاد الاسلامي اللمعة البيضاء في شرح خطبة الزهراء التأليف: المولى محمد علي بن أحمد القراچه داغي التبريزي الأنصاري التحقيق: السيد هاشم الميلاني الناشر: دفتر نشر الهادي مطبعة: مؤسسة الهادي طبعة الأولى: 1000 نسخة 21 رمضان 1418 ه ق إيران - قم - شارع صفائية - بلاك 759، تلفون 737001
صفحة ٢
بسم الله الرحمن الرحيم
صفحة ٣
لمحة عن حياة المؤلف اسمه ونسبه:
هو المولى محمد علي بن أحمد الأونساري القراچة داغي التبريزي الأنصاري (*)، فقيه متبحر، وعالم بارع، وله مقام منيع ويد طولى في شتى العلوم الدينية، والأونسار - بالواو والنون والسين - من قرى قراچة داغ في تبريز.
حياته العلمية:
خرج المؤلف (رحمه الله) إلى العراق، وأخذ في النجف عن الشيخ مرتضى الأنصاري أصولا، وعن الشيخ مهدي الجعفري فقها ويروي عنه بالإجازة (1).
ثم رجع إلى إيران وذهب إلى زيارة مولانا علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بعد سنة 1300 ه ق، فطلب منه الميرزا عبد الوهاب آصف الدولة حاكم خراسان البقاء هناك لترويج الشريعة ونظم أمور الأمة، فلبى المترجم له ذلك الطلب وقطن بها زمانا.
صفحة ٥
ثم هبط طهران وتصدر للتدريس في مدرسة سپهسالار مدة، تلمذ عليه خلالها كثيرون، ثم طلبه أهل تبريز فرجع إليهم وظل قائما بالوظائف الشرعية من تدريس وإمامة ووعظ وتأليف.
ومن تلاميذه في تبريز العلامة السيد ميرزا باقر القاضي الطباطبائي، كما ذكره ولده السيد محمد علي (الطباطبائي) في كتابه حديقة الصالحين (1).
أقوال أصحاب التراجم في حقه:
قال في نقباء البشر: هو الشيخ محمد علي بن أحمد الأونساري القراچه داغي التبريزي فقيه متبحر، وعالم بارع (2).
وقال محمد حسن خان إعتماد السلطنة في المآثر والآثار: الحاج ميرزا محمد على القراچه داغي من أجلة المجتهدين ومروجي الشريعة والدين، له مقام منيع ورتبة رفيعة في الفقه، والأصول، والأخبار، والعلوم العربية، والفنون الأدبية، وله تصانيف فيها غالبا (3).
وقال صاحب معجم المؤلفين: آية الله الشيخ محمد علي القراجه داغي فقيه، أصولي، متكلم، مفسر، عروضي، عارف باللغة العربية (4).
وقال صاحب ريحانة الأدب: من علماء آذربايجان، وله باع في الفقه، والأصول، والحديث، والرجال، والعلوم العربية، والفنون الأدبية، وتأليفاته خير دليل على مرتبته العلمية (5).
وقال السيد محمد مهدي الإصفهاني الكاظمي في أحسن الوديعة (تتميم روضات الجنات): كان (رحمه الله) عالما، فاضلا، ثقة، عارفا، عابدا، زاهدا،
صفحة ٦
رئيسا مشارا إليه، نافذ الكلمة، وكان للعلوم جامعا، وفي فنونها بارعا، وكانت له اليد الطولى في معرفة الأدب، والباع الممتد في حفظ لغات العرب، وكان عارفا بالتفسير والحديث والرجال، وبالجملة كان أحد الأئمة الأعلام المجتهدين، وركن العلماء العاملين، بل إمام دهره بلا مدافعة، وفقيه عصره بلا منازعة، اشتهر اسمه السامي فملأ الأقطار والأصقاع، وشاع ذكره في جميع الديار والبقاع، رحلت الطلبة من قرى تبريز إليه وحضروا عليه (1).
أولاده وذراريه:
خلف المؤلف (رحمه الله) ولدين فاضلين هما الميرزا أحمد، والميرزا محمود (2).
قال الملا علي الواعظ الخياباني التبريزي في العلماء المعاصرين: كان [الميرزا أحمد] من أعاظم علماء عصره، وأفاخم مجتهدي وقته، جامع المآثر الفاضلة، وصاحب المفاخر العالية، وكان له حظ كامل في المعقول والمنقول، واطلاع واسع في الحديث والتفسير والفنون الأدبية، وقل نظيره في قوة العقل، وسعة الخلق، وصفاء النظر، ولطف القريحة.
وكان له في تبريز مدة طويلة منصب القضاء والمحاكمة والأمور الشرعية، ولم يعترض عليه ولم يرده في أمر أحد من العلماء المعاصرين، ولي إجازة منه ذكرتها في كتاب وقايع الأيام (3).
آثاره وتأليفاته:
للمؤلف (رحمه الله) آثار وتأليفات كثيرة تكشف عن مدى تسلطه واطلاعه بالنسبة إلى العلوم المختلفة، وقل علم من العلوم لم يألف فيه كتابا، فإنه كتب كتبا
صفحة ٧
ورسائل وشروحا في الفقه، والأصول، والمنطق، والتفسير، والحديث، وأصول الدين، وغيرها، فنحن نذكر ما عثرنا عليه في كتب التراجم:
1 - اللمعة البيضاء في شرح خطبة الزهراء (عليها السلام): ولقد فرغ منه في سنة (1286) ه ق، وطبع بإيران عام (1297) ه ق، وهو هذا الكتاب الذي بين يديك، كتاب فريد في نوعه يعرب عن سعة اطلاع المؤلف باللغة العربية والفنون الأدبية، وهو كتاب جامع لكثير من فضائلها (عليها السلام) معتمدا على المصادر الخاصة والعامة، وقد شرح الخطبة الشريفة شرحا لغويا، ثم أورد بعده بحثا مفصلا حول غصب فدك، ورد فيه شبه وشكوك المبطلين.
قال صاحب الذريعة: وصدر الكتاب بشطر واف من مناقبها وفضائلها وأحوالها وما يتعلق بها من ذكر أدعيتها وأحرازها وعدد أولادها (1).
وقال هو (رحمه الله) في مقدمة الكتاب: اعلم أن هذه الخطبة الغراء، والدرة البيضاء، خطبة في نهاية الفصاحة، وغاية البلاغة من حيث عذوبة ألفاظها الكافية، ومضامينها الشافية، وجزالة معانيها الوافية، مع ما عليها من البهاء والجلالة، والرواء والديباجة، بحيث لو خوطب بها الجبال الشامخة لرأيتها خاشعة متصدعة، وإن لم تؤثر في تلك القلوب القاسية التي كانت كالحجارة أو أشد قسوة، وهي كلام دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق....، ونسبتها إلى سائر الكلمات الفصيحة نسبة الكواكب المنيرة الفلكية إلى الحجارة المظلمة الأرضية، وعليها مسحة من نور النبوة، وعبقة من أرج الرسالة، وحق لها أن تكون بهذه المثابة فإن متاع البيت يشبه صاحبه، والأثر يشبه مؤثره، فإنها صادرة من بضعة الرسول، سلالة النبوة، وعصارة الفتوة، الصديقة الكبرى، والإنسية الحوراء، مشكاة الضياء، أم الأئمة النقباء النجباء، سيدة النساء فاطمة الزهراء صلوات الله عليها.
2 - تفسير القراچه داغي (2).
صفحة ٨
3 - تفسير سورة (يس): قال صاحب الذريعة: رأيته ضمن مجموعة في مكتبة السيد عبد الحسين الحجة بكر بلاء، ذكر في أوله انه كان مولعا بعلم التفسير، وعزم على تصنيف كتاب في التفسير، فبدأ بتفسير سورة (يس) لأنها كانت قلب القرآن، وجعله في جزء مستقل، وعزم على أنه إن سهل الله له تأليف التفسير أن يجعله من أجزائه (1).
4 - شرح صيغ العقود: فارسي مع بيان وتحقيق، فرغ منه في ثامن ذي القعدة 1288، وهو مطبوع متداول مع متنه الفارسي (2).
5 - الصراط المستقيم في شرح الأربعين حديثا في فضائل أمير المؤمنين، (عليه السلام) طبع عام (1300) وهو شرح فارسي (3).
6 - رسالة في العروض والقافية، قال صاحب الذريعة: فارسية رأيتها في مكتبة الخوانساري (4).
7 - الفتوحات الرضوية في الأحكام الفقهية الاستدلالية (5).
8 - فضائل قم.
9 - رسالة في فضل المساجد مطلقا وخصوص مسجد إستاد شاگرد في تبريز.
10 - رسالة في الطينة وشرح أخبارها: قال صاحب الذريعة: أولها (الحمد الله على آلائه ونواله، والشكر على نعمه وإفضاله) رأيت نسخة كتابتها 2 شعبان 1287 في مجموعة وفيها تفسير سورة يس أيضا (6).
11 - التحفة المحمدية في علم العربية، تقرب من ثمانين ألف بيت (7).
صفحة ٩
12 - حاشية على شرح اللمعة (1).
13 - حاشية على القوانين (2).
14 - حواشي على الرسائل للشيخ الأنصاري (رحمه الله) (3).
15 - حواشي على الرياض للسيد علي الطباطبائي (4).
16 - حواشي على الفصول في علم الأصول (5).
17 - رسالة في أسرار الحج (6).
18 - رسالة في الأمر بين الأمرين (7).
19 - رسالة في مناسك الحج (8).
20 - الرسالة التمرينية في المنطق.
21 - الأصول المهمة في أصول الدين.
22 - زين المعابد (9).
23 - كتاب الأربعين المشتمل على المدائح والنصائح.
شعره وأدبه:
كان المؤلف (رحمه الله) متسلطا على اللغة العربية والفنون الأدبية، وله قصيدة طويلة لطيفة حينما هاجر النجف الأشرف قاصدا الروضة الرضوية، ذكرت في آخر كتاب اللمعة البيضاء، نوردها هنا تتميما للفائدة، قال (رحمه الله):
يا نجفا هجرت عنه بالجفا * خرجت منك مكرها لا بالرضا يا حبذا أيامنا التي مضت * فيك وهل يرجع يوم قد مضى سموت يا خير البقاع مسكنا * من الثرى إلى السماوات العلى يغبطك السبع الشداد دائما * لأن فيك الحق بالعرش استوى أتى إليك المجد طرا إذ أتى * إليك من أتى عليه هل أتى
صفحة ١٠
شرفت بالكنز الذي قد خلق * الخلق لكي يعرف بعدما اختفى فيك انجلى نور الإله زاهرا * طوبى فطوبى لك يا وادي طوى يا أيها الوادي المقدس الذي * أتاك موسى راجيا منك الهدى ثم انثنى في يده البيضا عصا * كأنه الثعبان حيثما رمى يا أيها الفلك الذي لجا إلى * سكان بابك المنيع والتجى نوح النبي إذا ارتمى الماء حوله * لما طما (1) حذار طوفان البلا فيك انزوى يا كهف كل عاجز * ضيغم آجام القضاء والمضا لا يرتقى العقل إليك حيثما * أنت من العقول أعلى مرتقى يا منبع الجود لكل مجتد * يا معدن الخير لكل مهتدى منك بدئنا واليك ننتهي * يا خير كل مبدء ومنتهى إن ذكر الخير ففيك كله * يا مبدأ الفيض لكل ما سوى سأركب البيد وأطوي متنها * بيعمل يعمل سيرا وسرى إلى جنابك الذي علا إلى * ذروة عرش الله مجدا وعلى ما عاقني اليوم سوى قصدي إلى * تربة مولاي معين الضعفا علي الرضا الذي استشهد في * طوس بسم منقع على الحشا وجهت وجهي لكم يا وجهة * الحق ويا قبلة أرباب النهى أوجه الوجه إليكم أبدا * فالحق منكم وإليكم انتهى لقد برى شوقي إليك أعظمى * يا طوس يا مشهد مولاي الرضا وكلما أومض برق ومضى * مضى بقلبي المبتلى إذ ومضا نحو سنابد إذا ما قد سنى * شعلة نار منه في جو الفضا ذاب فؤادي من جوى شوقك إذ * اشتعلت منه به نار الغضا لقد حويت جوهر المجد وقد * فقت على جملة أطباق السما وإن حرمت زمنا يا أملي * من أملي فيك بتقبيل الذرى
صفحة ١١
فجار لي صرف زمان قلب * جرى على خلاف قصدي واعتدى فقادني مكبلا بما بدت * من الخطوب الحادثات في النوى بقيت في أسوء حال ولقد * جرى علي ما جرى من العدى لكنني أخال اني لم يفت * مني ما أدركه ذووا التقى لحسرة بات بقلبي نارها * ولوعة تسعر في نفسي اللظى يا رب حسرة حوت ما لم يحط * به العقول من فيوضات الهدى لابد يا مولاي من تفضل * حتى أجوب جوز تيار الفلا به إلى فنائكم فإنني * معتقل بقيد خطب عرضا فليس في نفسي إليكم أبدا * من فترة في السير توجب الونى لعلني أسعى بنور فيضكم * إليكم أيا ينابيع الندى فإن ربي لا يضيع سعي من * سعى إليه دائبا طول المدى وقد أتى على لسان جدكم * أن ليس للإنسان إلا ما سعى دارت بكم دوائر الإمكان يا * مراكز المجد وأقطاب العلى أنتم عتادي في معادي حيثما * إليكم الإياب في يوم الجزا كذا إليكم استنادي أينما * عشت فلا أبالي نأي من نأى يا خير عدة لشر كربة * أعددته لكل خطب قد دهى يا سبط ختم الرسل يا نتيجة * الأطهار يا قرة عين المرتضى عليك أزكى الصلوات كلما كر الجديدان ظلاما وضيا وقال (رحمه الله) أيضا:
لقد بات ليلي ساهرا فيه مقلتي * إلى الصبح من طوفان أمواج عبرتي تلهب وجدي وارتمى موجها به * فوا غرقي إن لم تكن فيه حرقتي فيصعد نار القلب كالبرق لامعا * ويرعد صدري من شهيق وزفرة فتقطر من عيني الدموع كهاطل * من السحب في أقطار تلك البسيطة فجسمي غريق في الدموع وانه * حريق بنار تلتظي حول مهجتي
صفحة ١٢
فواعجبا من حال نفسي فإنني * غريق حريق كل آن ولحظة يذوب فؤادي من جوى الحب والهوى * ويذرف دمعي قطرة بعد قطرة أذاب سويدا مهجتي فتحولت * دموعا ترى اسكوبها فوق وجنتي إذا ما تجلى وانجلى ضوء وجهه * تحول يومي مظلما مثل ليلتي وبالي في البلبال بال وانني * قتيل بسيف الحب في كل حالة فطوبى لحالي حيثما هدني الهوى * وأهوى ببالي ذرة بعد ذرة فوا أسفا إن لم أكن منه في الجوى * ووا حسرتا إن لم يكن فيه حسرتي أرى وجهه من كل شئ كأنما * تمثل لي محياه في كل صورة أراه بعيني كل حين ولا أرى * سوى وجهه في كل مطمح رؤيتي أرى كل ما في الكون مرآة وجهه * فلم أر شيئا غيره في الخليقة نسيت هواه في الهوى حيث إنه * حجاب عظيم عند أهل المحبة ولابد من رفع الحواجب كلها * ليبصر مرآه بعين البصيرة وقد عميت عين ترى غيره ولا * ترى وجهه الوضاح في كل وجهة أراه بعين الحب في كل مشهد * عيانا فيا طوبى لعين الأحبة تعالى عن التشبيه والوصف جل من * براه فأبدى فضله للبرية علي بن موسى فائض الجود والندى * على كل موجود بفاضل طينة سرى فيضه الجاري إلى جملة الورى * ولم يخل منه ذرة تحت درة أحاط بما في الكون حيطة مالك * له بسطة في ملكه كل بسطة يدور رحى الأكوان من فيض كونه * وحاشاه عن إمكان شوب النقيصة وليس قضآء غير ما قد قضى به * قضاء فيا طوبى لتلك الفضيلة يطيع له الأقدار في كل ما يشاء * إذا شاء إمضاء لحكم المشية ترى جملة الأكوان طوع يمينه * يدبر فيها الأمر في كل لمحة ولو شاء طي العرش والفرش والثرى * طواها كطي السجل في لمح طرفة ولو قال للأشياء كوني تكونت * ولو قال لا عادت كما هي كانت تجلى به النور القديم وانه * لنور قديم حادث بالإرادة
صفحة ١٣
وليس سواه في الوجود ولو ترى * وجودا سواه لا بعين الحقيقة هو الدرة البيضاء والجوهر الذي * تجوهر منه نور كل خليقة ألا كل شئ الك غير وجهه * تراه بعين الحق في كل طرفة هو الملأ الأعلى تعالى جلاله * عن الوهم أو إدراكه بالمظنة يصور في الأرحام ما شاء خلقه * فيحدثه فيها بمحض المشية إليه إياب الخلق ثم حسابهم * فيصدر فيهم حكم كل قضية على طبق ما شاء الإله فإنه * يد الله في إجراء كل حكومة يجل عن الإمكان كنه جلاله * ويكبر عن تشبيهه بالصنيعة صنيعة باري الخلق والخلق صنعه * فيا خير مصنوع ويا خير صنعة له المثل الأعلى له المجد والعلى * فيا شرفا أوفى لكل مزية تطائر أملاك السماء بأمره * لإنفاذ أمر الله في كل بقعة هو الجوهر القدسي يلمع نوره * كمشكاة زيت نير في الزجاجة يكاد ولو لم يمسس النار فتلها * يضيء سناها مثل نجم الدجية بدا نوره من كل شئ فلا ترى * سوى نوره في كل كور ودورة إذا نظرت عين إلى غير نوره * رأته كآل أو سراب بقيعة وقد ملأ الأكوان آثار فيضه * وفاضت عليها دفعة بعد دفعة وليس جميع الكون من سحب جوده * سوى قطرة أو ديمة بل كرشحة ولو جاد بالأضعاف منه لما طري * له النقص حتى مثل مثقال ذرة إليه انتهاء الكون مثل ابتدائه * فيا خير بدء مثل خير نهاية إمام هدى تسري بنور ولائه * البرية في بيداء غي الضلالة سفينة نوح قد نجا كل من أتى * إليها فيا طوبى لأهل السفينة إمام بأرض الطوس مثواه انه * شهيد بها في دار ذل وغربة أيا قبر طوس كيف بالله حاله * بأرضك هذا اليوم ما دار كربة وأحشاؤه مسمومة يلتوي بها * على كبد حراء قد نضيجة ويرعم فوق الترب أطراف بطنه * فيا خير بطن مسه خير تربة
صفحة ١٤
يضج ويشكو من جوى كان في الحشا * محيطا به أنواع ذل ومحنة فواعجبا من صانع قد أباده * صنيع له يا سوء تلك الصنيعة تطاول للمولى الرعية واعتلى * عليه بما أتاه من سوء فطرة رماه بسهم قد براه بصنعه * فأهدف باريه لقبح السريرة وما ذاك إلا أن للحق دولة * يدال إليها كل باطل دولة كما قد قضى بالظلم والجور قبله * حسين شهيدا في هوان وذلة تجول عليه الصافنات فياله * مصابا عظيما فاق كل مصيبة وتلقي عليه السافيات رداءة * لها من رمال الطف طاقات لحمة وقد كان مسلوب العمامة والرداء * طريحا بأرض الطف في سوء صرعة مقطعة الأوداج مذبوحة القفا * مجرحة الأعضاء تحت الأسنة تنوح عليه الطير والوحش في الفلا * وتبكي عليه سكانات البرية وتذري عيون الأنجم الزهر دمعها * على جسمه في كل يوم وليلة تجود عليه وهي تنظر حاله * صباح مساء من سواكب عبرة تقاطر نحو الأرض من كل جانب * بدمع يضاهي الوبل حال إنصبابة ترى أهله يقتادهم كل مشرك * أسارى سبايا مثل روم ونوبة فيا لهف نفسي للحسين وقد غدا * صريعا على وجه الثرى نحو رمية أحاط به الأخلاط من كل جانب * تقوم إليه زمرة بعد زمرة يريدونه بالقتل وهو مجدل * ينادي ألا يا قوم هل من حمية لقد وقعت في الدين من أمر قتله * بأيدي عداه ثلمة بعد ثلمة مصاب جليل هدم العرش والثرى * وخطب عظيم فوق كل عظيمة بكته جلاميد الصخور وما بكت * قلوب أعاديه لشدة قسوة وإني لأبكي حسرة بعد حسرة * وأذري دموعي قطرة بعد قطرة لأجل مصاب صب آل محمد * خصوصا حسينا دفعة بعد دفعة وما أنس لا أنس الحسين وقد غدا * وحيدا بأرض الطف طف بلية طريحا جديلا في العرى لا ترى له * أنيسا سوى رمي وطعن وضربة
صفحة ١٥
ولم يبق فيها ناصر عنده سوى * حواسر يلطمن الوجوه بندبة يصحن وللأعداء حول خبائه * ضجيج يريدون الخيام لغادة بنات رسول الله يضرعن للعدى * ويدعون ويلا في ثبور وكربة كذلك حال الدهر يا ويل حاله * تراه بهذي الحال في كل حالة لقد حال من تصريفه حال مالك * يدبر فيه الأمر تدبير حكمة يصرفه طبق الإرادة ياله * مليكا عزيزا قادرا كل قدرة علي أمير المؤمنين الذي علا * على كل ذي علياء تحت المشية فلما أراد الله قرب لقائه * رماه شقي القوم من قوس قسوة بضربة سيف شق رأس العلى بها * فزلزل منها العرش زلزال رعشة وكيف وقد خرت معاقد عزه * فحلت عرى أركانه المشمخرة تزلزل عرش الحق لما تقطعت * قوائمه من سيف عاقر ناقة حسام سقاه السم من نسل ملجم * شقيق قدار في رضاعة شقوة فجدل مغشيا عليه وقد أتى * إليه رسول الموت في سوء حالة وخضب في المحراب بيضاء شيبه * بأحمر قان سائل فوق وجنة فصار عمود الدين منشقة العصا * وعاد صلاة الصبح في جوف ظلمة بكته طوير الدار قبل خروجه * صوائح تتلوها نوائح نسوة بل الدار والأبواب والحلق التي * أنيطت عليها بل جميع الخليقة فقد ضجت الأكوان واسود جوها * كليلة ديجور بتلك الصبيحة تصايح أملاك السماء وأصبحت * صبيحتهم ظلماء مثل الدجية تنوح بأعلى الصوت في ملكوتها * وتدعو ثبورا في عويل وكربة وصاح أمين الوحي جبريل صيحة * تزلزلت الأكوان منها بجملة فصاحوا جميعا وا علياه والتوى * على الدهر هذا الصوت من كل وجهة فأقبل أهل البيت يبكون حوله * كهاطل غيم ممطر يوم ظلة فيا دهر لا سقيا لربعك إنه * لمنزل سوء عند أهل البصيرة
صفحة ١٦
ولا ضحكت سن الزمان فإنه * بدا كاشرا عنها بشر وفتنة لآل رسول الله من بدء أمره * فتعسا له من دار ذل ومحنة عليهم سلام الحق ما دام حقهم * عليه بما نالتهم من مصيبة وصلى عليهم كلما فاض جودهم * على كل موجود بقبض وبسطة وفاته:
لقد قضى المؤلف (رحمه الله) عمره الشريف في نشر أحكام الدين، وترويج المذهب الحق، فألف وكتب ونشر ودرس كل ذلك لأجل إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام)، ونشر فضائلهم ومناقبهم، إلى أن أجاب داعي ربه في يوم الجمعة ثاني ربيع الثاني سنة (1310 ه ق) (1)، ولم أعثر في كتب التراجم على مدفنه، والظاهر أنه دفن في آذربايجان لأنه كان مقيما فيها في آخر عمره، والله العالم.
منهج التحقيق:
اعتمدنا في تحقيق هذا الكتاب الشريف على نسخة حجرية طبعت في تبريز بتصحيح المؤلف (رحمه الله) وكتابة محمد هاشم في عام (1298).
وحاولنا تخريج الأحاديث من مصادر الخاصة والعامة حسب الإمكان، وبذلنا الجهد في ضبط إعراب الخطبة الشريفة، وشرحنا بعض الكلمات المبهمة، ولا يفوتني في الختام أن أقدم شكري الجزيل لسماحة العلامة المحقق الأستاذ السيد محمد رضا الحسيني الجلالي حيث ساعدنا كثيرا في ضبط الكلمات المغلوطة أو غير المقروءة، فله سهم كبير وجهد مشكور في إنجاز هذا العمل، فتقبل الله منا ومنه ووفقنا جميعا لما يحب ويرضى.
السيد هاشم الميلاني 1418 ه ق صفر
صفحة ١٧
الحمد لله الذي أقام أعلام الهدى، ونصب رايات التقى، ولم يترك عباده هملا وسدى، الذي فطرهم على معرفته، وألهمهم بعبادته، وندبهم إلى طاعته، خلق الانسان علمه البيان، وأودع فيه سر العلم والعرفان، ونور الحكمة والايقان.
الفرد البديع، الملك المنيع، ذو العرش الرفيع، والكرسي الوسيع، الذي خلق من كل شئ زوجين اثنين، وأدرج سر الوحدانية في البين، فمشج بين هذين (1)، ومزج الأمرين، ومرج البحرين مع برزخ بينهما لا يبغيان، يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان.
والصلاة والسلام على مظهر الايمان، وسيد الإنس والجان، الذي نزل عليه الفرقان ليكون للعالمين نذيرا وداعيا إلى الله باذنه وسراجا منيرا، فجعله مشكاة علمه، وزجاجة هدايته، ومصباح رحمته.
وهو أصل الأصول، وقطب الأقطاب، ومبدأ النزول، ومنتهى الأياب، أس الوجود، وفص خاتم الموجود، ساحب أذيال الكرم والجود، وصاحب لواء الحمد والمقام المحمود، ثم على آية قدرته، وباب علمه، ومفتاح حكمته، أم الكتاب، وباب الأبواب، وفصل الخطاب، وميزان الحساب، تمام الفيض والجود، وجهة العابد وجهة المعبود، ومفتاح الغيب ومصباح الشهود، على رغم العدو الكنود.
صفحة ١٩
وعلى سائر خزنة الوحي وحفظته، وأمنة الذكر وتراجمته، والأئمة الدعاة إلى جنته، والقادة الهداة إلى رحمته، الأطياب الأنجاب الذين إليهم الإياب وعليهم الحساب، حبهم الايمان، ومعرفتهم الأمان، وموالاتهم الجنان، ومعاداتهم النيران، من والاهم فقد والى الله، ومن عاداهم فقد عادى الله، ومن أحبهم فقد أحب الله، ومن أبغضهم فقد أبغض الله، صلى الله عليهم ما دام الفلك الدوار، والليل والنهار، والظلم والأنوار.
وبعد: فيقول المحتاج إلى لطف ربه الباري، ابن احمد محمد علي الحافظ الأنصاري، أوتي كتابه بيمناه، وجعل عقباه خيرا من أولاه: ان حضرة الجناب العالي الشأن، والنواب الوثيق الأركان، والحصن المنيع البنيان، زينة الزمان وحلية الدوران، وفجر النور إذا استبان، باسط العدل والاحسان، ماهد الأمن والأمان، حامي حوزة الاسلام، ودافع معرة الأيام، ملجأ الأنام، ومرجع الخواص والعوام، ذو القوة القاهرة، والهيبة الباهرة، قوام الدولة العلية العالية، ونظام الملة البهية الباهية، كعبة الأماني والآمال، كريم الأقوال والأعمال والأحوال، الفيض الجاري في عالم الطين، وسلالة طين السلاطين، وقد قلت فيه:
مؤيد الملة البيضاء والدين * ذا ماء فيض جرى في عالم الطين مهذب طيب طابت أرومته * سلالة الطين من طين السلاطين المؤيد بالتأييدات الربانية، والمسدد بالتسديدات السبحانية، الجناب الأعظم المعلى، والنواب الأشرف الأعلى، مؤيد الدولة والملة، أدام الله تأييده وامداده، وأوصله بما أحبه وأراده، وختم له بالخير والسعادة، وأصلح معاشه ومعاده، رحم الله من قال آمين فان في ذلك صلاح الدنيا والدين.
قد أمر داعيه بالاخلاص والإرادة أن يكتب شرحا للخطبة الشريفة المنيفة، الصادرة من المصدر الأعلى تبارك وتعالى، أعني الدرة البيضاء، والإنسية الحوراء، صلوات الله وسلامه عليها وعلى أبيها وزوجها وبنيها، في مقام التظلم
صفحة ٢٠
والشكاية عن الخلفاء، وغصبهم لفدك والعوالي عنها بعد وفاة أبيها، شرحا يوضح مغلقاتها، ويكشف معضلاتها، مبينا لمبهماتها، مفصلا لمجملاتها، موضحا لبعض ما يحتاج إلى الايضاح من ألفاظها، ومبينا لبعض ما يقتضيه الحال من باطنها وتأويلها، بيانا مشتملا على نوع من التحقيق، وشرحا على طور التعمق والتدقيق بقدر ما يقتضيه المقام والحال، ويساعد عليه المجال.
واني وإن لم أكن من فرسان هذا الميدان وأهل هذا الشأن، لتراكم أمواج الفتن والحدثان، حتى كنت مدة مديدة من الزمان نسج علي عناكب (1) النسيان، ولم يكن لي وجدان من جهة اختلال حال الزمان والإخوان، الا أن توجهه العالي رفع الموانع والأستار، ودفع عني واردات الهموم والأكدار.
فقمت على ساق الامتثال مع ما علي من دواعي الأشغال والاشتغال، فأتيت على سبيل العجالة بما تيسر لي من تلك المقالة مع قلة البضاعة في هذه الحالة، وكثرة الإضاعة، وقلت: أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر، وجئنا ببضاعة مزجاة، فألحظها بعين الرضا، وتلقها بيد القبول والارتضاء، فان الهدايا على قدر مهديها، وأسأل الله أن يعصمنا من الزلل والخطل (2) في القول والعمل.
أقول وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق:
اعلم أن هذه الخطبة الغراء، والدرة البيضاء، خطبة في نهاية الفصاحة وغاية البلاغة، من حيث عذوبة ألفاظها الكافية، وغرابة مضامينها الشافية، وجزالة معانيها الوافية مع ما عليها من البهاء والجلالة، والرواء والديباجة، بحيث لو خوطب بها الجبال الشامخة لرأيتها خاشعة متصدعة، وإن لم تؤثر في تلك القلوب القاسية التي كانت كالحجارة أو أشد قسوة.
وهي كلام دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق، وهي موضع المثل: (في كل
صفحة ٢١
شجرة نار، واستمجد المرخ والعفار (1))، ونسبتها إلى سائر الكلمات الفصيحة نسبة الكواكب المنيرة الفلكية إلى الحجارة المظلمة الأرضية، وعليها مسحة من نور النبوة، وعبقة من أرج الرسالة.
وحق لها أن تكون بهذه المثابة، فان متاع البيت يشبه صاحبه، والأثر يشابه مؤثره، فإنها صادرة من بضعة الرسول...، سلالة النبوة، وعصارة الفتوة، الصديقة الكبرى، والإنسية الحوراء، مشكاة الضياء، أم الأئمة النقباء النجباء، سيدة النساء فاطمة الزهراء صلوات الله عليها.
ولابد أولا من الإشارة إلى بعض فضائلها، والتنبيه على نبذة يسيرة من مآثرها، حتى يتبين لأرباب البصر والبصيرة ان تلك الخطبة الشريفة من عين صافية غير كدرة، لا يشوبها شبهة عيب، ولا يعتريها وصمة ريب، هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب.
[بعض فضائل خديجة الكبرى] فنقول: لا يخفى ان مصدر هذه الخطبة الغراء هي سيدة النساء، بضعة خير الأنبياء، وزوجة خاتم الأولياء، ومشكاة أنوار أئمة الهدى، البتول العذراء فاطمة الزهراء، وأمها هي خديجة الكبرى التي هي أشرف أزواج النبي وأفضلها، وفضائلها مشهورة بين أهل الأرض والسماء.
وكفى في فضلها انها سيدة النساء، كما ورد في الأخبار الكثيرة التي تأتي إليها الإشارة ان أربعة من النساء سيدة النساء، إحداهن خديجة وهي في مرتبة مريم وآسية، وزاد على كونها سيدة النساء كونها أم سيدة النساء في الدنيا والآخرة والأولى.
ويدل على جلالة شأنها عند الله تعالى ما روي عن الصادق (عليه السلام) ان
صفحة ٢٢