أحسَنَ، أوشكَ أن يَجُنَّ من العُجْبِ. قال بعضُهم: ذنبٌ أفتقِرُ به إليهِ أحبُّ إليَّ مِن طاعةٍ أَدِلُّ بها عليه. أنينُ المُذنبين أحَبُّ إليه من زَجَلِ (^١) المسبِّحين؛ لأنَّ زَجَلَ المسبِّحينَ ربَّما شابَهُ (^٢) الافتِخارُ، وأنينُ المُذنبين يزِينُه الانكسار والافتِقارُ.
في حديثٍ: "إنَّ الله لَيَنْفَعُ العَبْدَ بالذَّنبِ يُذنِبُه" (^٣). قال الحسنُ: إنَّ العبدَ لَيَعمَلُ الذَّنْبَ فلا ينساهُ، ولا يزالُ متخوِّفًا منه حتى يدخُلَ الجنَّةَ. المقصودُ من زَلَلِ المؤمنِ نَدَمُهُ، ومِن تَفْرِيطِه أَسَفُهُ، ومِن اعْوِجاجِه تقويمُه، ومِن تأخُّرِه تقديمُهُ، ومِن زَلَقِهِ في هُوَّةِ الهَوَى أن يُؤخَذَ بيدِه فيُنجَّى إلى نجوة النجاة، كما قيل:
قُرَّةَ عَينِي لا بدَّ لي منكَ وإنْ … أوْحَشَ بيني وبينَكَ الزَّلَلُ
قُرَّةَ عيني أنا الغَريقُ فَخُذْ … كَفَّ غَريقٍ عليكَ يَتَّكِلُ
الفائدة الثانية: حُصولُ المغفرةِ والعفو مِنَ اللهِ تعالى لعبدِه؛ فإنَّ الله تعالى يحبُّ أنْ يعفوَ ويغفِرَ، ومِن أسمائِهِ الغفَّارُ (^٤)، والعَفُوُّ، والتَّوَّابُ، فلو عُصِمَ الخَلقُ فلِمَنْ كانَ (^٥) العفْوُ والمغفرةُ؟
قال بعضُ السِّلَفِ: أوَّلُ ما خلَقَ اللهُ القلَمَ كتَبَ: إنِّي أنا التوَّابُ أتوبُ على مَن تابَ. قال أبو الجَلْدِ (^٦): قال رجلٌ مِن العاملين لله بالطاعةِ: اللهم، أصلِحْني صلاحًا لا فسادَ عليَّ بعدَه. فأَوْحَى اللهُ تعالى إليه: أن عبادِيَ المؤمنين كلَّهم يسألوني مثلَ ما سألْتَ، فإذا أصلَحْتُ عِبادِي كُلَّهم فعلَى مَن أتفضَّلُ وعلَى مَن أجودُ (^٧) بمغفرتي؟. كان بعضُ السلف يقول: لو أعلمُ أحبَّ الأعمالِ إلى الله لأجْهَدْتُ نفسي فيها، فرأى في منامِهِ قائلًا يقولُ له: إنَّك تريدُ ما لا يكونُ، إنَّ الله يُحِبَّ أن يَغْفِرَ. قال
_________
(^١) الزَّجَلُ: رفع الصوتِ الطَّرِبِ. وفي حديث الملائكة: لهم زَجَلٌ بالتسبيح، أي صوت رفيعٌ عالٍ.
(^٢) شابَهُ: خالَطَهُ.
(^٣) ذكره صاحب "كنز العمال" ٤/ ٢٤٠ وعزاه لأبي نعيم في "الحلية" من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب ﵄، وليس في المطبوع منها.
(^٤) في ع، ش: "الغفور".
(^٥) في ع، ش: "فلمن كان يكون العفو والمغفرة".
(^٦) هو جيلان بن فروة البصري الجوني. انظر معرفة الرجال ٢/ ٩٧ وتاريخ الطبري ٢/ ٢٩٤.
(^٧) في ب، ط: "أعود".
1 / 58