وسئلتْ عائشةُ ﵂: كيف كان رسولُ الله ﷺ إذا خلا مع نسائِهِ؟ قالت: كان كرجلٍ من رجالكم، إلا أنَّه كان أكرَمَ النَّاسِ، وأحسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وكان ضحَّاكًا بسَّامًا. فهذه الطبقة خلفاء الرسُلِ عامَلُوا الله تعالى بقلوبهم، وعاشروا الخَلْقَ بأبدانهم، كما قالت رَابِعَةُ رحمة الله عليها (^١):
ولقد جَعلْتُكَ في الفؤادِ مُحدِّثي … وأبحْتُ جِسْمِي مَنْ أرادَ جُلوسي
فالجسْمُ مني للجليسِ مُؤانِسٌ … وحبيبُ قلبي في الفُؤادِ أنيسي
المواعظُ سياطٌ تُضْرَبُ بها القلوبُ، فتؤثِّرُ في القلوب (^٢) كتأثير السّياطِ في البدَنِ، والضّرْبُ لا يؤثِّرُ بعدَ انقضائه كتأثيره في حالِ وجودِه، لكن يبقى أثرُ التألُّم بحسب قوتِه وضعفِه، فكلَّما قوِيَ الضَّرْبُ كانت مدَّةُ بقاءِ الألم أكثَرَ.
كان كثيرٌ من السَّلَفِ إذا خرجوا من مجلسِ سماعِ الذِّكْرِ خرجُوا وعليهم السَّكِينةُ والوَقارُ؛ فمنهم مَن كان لا يستطيع أن يأكلَ طعامًا عَقيبَ (^٣) ذلك، ومنهم مَن كان يعمَلُ بمقتضى ما سمِعَهُ مُدَّةً. أفضلُ الصَّدقة تعليمُ جاهلٍ، أو إيقاظُ غافلٍ. ما وُصِلَ المُسْتَثْقِلُ في نومِ الغَفلةِ بأَفضلَ من ضَرْبِه بسياطِ الموعظةِ لِيَستيقظَ. المواعظُ كالسِّياط تقَعُ على نِياطِ القلوبِ، فمَنْ آلمتْهُ فصاحَ فلا جُنَاحَ، ومن زادَ أَلمُهُ فماتَ فدَمُهُ مُبَاحٌ.
قَضَى اللهُ في القَتْلَى قِصَاصَ دمائِهِمْ … ولكنْ دِماءُ العاشقينَ جُبَارُ (^٤)
وعَظَ عبدُ الواحد بنُ زيدٍ يومًا (^٥)، فصاح (^٦) به رجلٌ: يا أبا عبيدة، كُفَّ، فقد
_________
(^١) هي رابعة بنت إسماعيل العَدَوِيَّة البصرية الزاهدة العابدة الخاشعة، أم عمرو، لها أخبار في العبادة والنسك، ولها شعر، من كلامها: "اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم". توفيت بالقدس سنة ١٣٥ هـ، وستأتي ترجمتها بأوسع من هذا. (انظر سير أعلام النبلاء ٨/ ٢١٥ - ٢١٧، ومرآة الجنان ١/ ٣٠٥، وصفة الصفوة ٤/ ٢٧). والبيتان في وفيات الأعيان ٢/ ٢٨٦، والبداية والنهاية ١٠/ ١٨٧، والأول في سير أعلام النبلاء ٨/ ٢١٦.
(^٢) في آ: "فتؤثر في القلب"، وفي ش: "فتؤثر فيها".
(^٣) في ب، ط: "عقب".
(^٤) الجُبَار من الدَّم: الهَدَرُ، وهو ما لا قِصاصَ فيه ولا غُرْمَ.
(^٥) لفظ "يومًا" لم يرد في آ، ع، ش.
(^٦) في ع، ش: "فصاح رجل".
1 / 51