الحمد لله الذي جعل الكعبة البيت الحرام قياما للناس، وأقر قواعده الإبراهيمية على أشرف أساس، وأطاف به من الملائكة المكرمين الأنواع والأجناس، وأفاض عليهم من الأنوار الإلهية أشرف لباس، وخصه بالحجر المكرم الذي يشهد يوم القيامة لمقبله، وكذا يشهد إن شاء الله المستلم والماس، والحجر المعظم بإسماعيله الصادق الوعد من غير إلباس، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الناجم من شجرة عدنان عن أشرف غراس، والظافر ببطن مكة بعيدة الأوثان وسدنة الأرجاس، وعلى آله الذين هم فروع أصله الباقي فلا غرو إن صح إلحاقهم بدوحته الزاكية بالإجماع والقياس وعلى أصحابه الذين غدوا به نجوم هداية لمنير قبس أو مثير التباس، صلاة دائمة المزيد ما تعاقبت الأزمان وتوالت الأنفاس.
وبعد
صفحة ٨٣
فإن الله لما جعل طائفة من هذه الأمة ظاهرين بالحق إلى يوم القيامة متظاهرين بإقامة شعائر الشرائع رجا حسن الإقامة في دار المقامة، متتبعين آثار السلف الصالح، مثابرين على تشييد عقود المصالح، مقبلين على استماع النصائح، مسارعين إلى اقتناء المثوبات ولا سيما فيما يعم الطايف والعاكف والغادي والرائح، وكان الاهتمام بأمر الكعبة الشريفة من المتجر الرابح، والاحتفال بخلوص المال المنفق على كسوتها من أنجح المبار وأبر المناجح، وتطهيرها على أدناس المكوس مما ينور الضريح ويبيض الصحاف ويبصر الصفائح، أراد الله -وله المنة- أن تكون هذه المبرة مدخرة في موازين صالح المؤمنين السلطان الملك الصالح، خالدة في مآثر دولته الغراء ليغدو في الجنات بين أسرته الملوك المكرمين كالنجم الزاهر أو الكوكب اللائح، وذلك بسفارة من جعله الله للملك زمانا للإسلام نظاما وللدين قواما، وفي الحرب ليثا وضرغاما وفي السلم بردا وسلاما، وفي العلم قدوة وإماما، وفي الحكم حساما، لأدواء الحيف حساما، وفي العلم لكنوز دقائقه واصلا ولجواهر أهله نظاما، وهو المقر الأشرف، العالي، المولوى، السيدي، الأميري، العالمي، العادلي، العاملي، الكافي، المخدومي، السيفي، شيخ، كافل السلطنة المعظمة، وحافظ المملكة المكرمة، أعز الله تعالى أنصاره، وأعظم في الدارين مساره ومباره، فاقتضى حسن الرأي الشريف والتدبير المنيف أن لاستعمالات حلتها الشريفة، من خواص الأموال، وخالص المتحصل الحلال من القرى المعمورة، والأطيان والأراضي المزروعة، التي لا يدخل متحصلاتها مقرر مكس، ولا حقوق ديوان مما أفاء الله على مولانا السلطان من أراضي مملكته الموروثة عن آبائه الكرام، والبلاد الإسلامية التي جعل الله مصارف مصالحها مما بيد الإمام، وهذه منقبة لم يسبقه إليها سابق، ولا يلحقه مع ابتدائها وابتكارها لاحق، وإن كانت الملوك على تعاقب الأزمان وتوالي الأوان كانت تتنافس على هذه القربة، وتنافس من زاحمها أو سامها في اقتناء هذه الرتبة -أعني نفس الكسوة- وأن يكون لبعضهم ببعض فيها أسوة، أما الجمع بين حل المال وجميل العمل، فهذا لم تطمح إليه نفس متمن، ولا انتهى إليه أمل، وهذه منة من الله علا وجل، جمعها الله لمن كان من أمر آخرته على وجل، فأراد خادم هذا البيت العريق في الولاء الحقيق برفع الدعاء يجمع مختصرا لطيفا حجمه، كثيرا علمه، ينبه فيه على ما احتوت عليه هذه القربة من المفاخر، ويحقق قول من قال: كم ترك الأول للآخر، أذكر فيه ما وقع في أمر الكسوة الشريفة في الصدر الأول، ومن افتخر بها من الملوك الذين على فعلهم المعول؛ جعلته مختصرا غير مطول، حذفت أسانيد أحاديثه كي لا يمل، واقتضبت قصصه ليقع من نفس مطالعه في أسعد محل، وقصدت بذلك استكثار المحسن من العرب، وبث مآثر هذا الملك الذي قيض الله له من إذا نسي ذكره وإذا ذكر أعانه فهو إلى الخيرات الوصلة والسبب وسميته:
صفحة ٨٦
((اللمحة اللطيفة في ذكر أحوال كسوة الكعبة الشريفة))
وجعلت مقاصده في عشرة أبواب:
الباب الأول: في أول من كسى الكعبة الشريفة.
الباب الثاني: في سبب كسوتها أولا.
الباب الثالث: فيما كساها به النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة.
الباب الرابع: فيمن كساها الخز والديباج.
صفحة ٨٧
الباب الخامس: في الأزمنة التي كانت تكسى فيها.
الباب السادس: فيمن خلقها وطيبها.
الباب السابع: في أن كسوتها كانت أولا من السنن الشرعية.
الباب الثامن: في أن كسوتها الآن من الواجبات المرعية.
الباب التاسع: في أن إنفاق المال على كسوتها أصل من أصول الشريعة.
الباب العاشر: فيما يفعل في مخلق الكسوة وما حكمها شرعا.
ومن هنا أفتتح الأبواب وأسأل الله التوفيق لصوب الصواب، إنه أعظم من دعي وأكرم من أجاب.
صفحة ٨٨
الباب الأول: ((في أول من كسا البيت الشريف))
صفحة ٨٩
قال الإمام أبو هلال الحسن بن علي العسكري في كتاب الأوائل له بسنده عن الواقدي. قال: حدثني حرام بن هشام عن أبيه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسب أسعد الحميري وهو تبع، وقال: إنه أول من كسا البيت، وزاد غيره فقال: هو أبو كرب، وهو أول من جعل للبيت مفتاحا وقال مفتخرا:
صفحة ٩٠
وكسونا البيت الذي حرم الله ... ملاء معضدا وبرودا ونطاعا من الخصاف فرشنا ... وجعلنا لبابه إلا قليلا
ونحرنا بالشعب سنة ألف ... فترى الناس نحوهن وردا
وخرجنا منه نؤم سهيلا ... قد رفعنا لواءنا المعقودا
وقال: فهاتان منقبتان للعرب ليس لهما أخت ولا شبه
صفحة ٩١
وعن محمد بن إسحاق صاحب المغازي أنه قال: أسعد أبو كرب وهو تبع الأخير ابن كلكئ كرب بن زيد، وهو تبع الأول وساق نسبه إلى يعرب بن قحطان، وفيه تقول سبيعة بنت الأجب:
صفحة ٩٢
ولقد غزاها فكسا بنيتها الخبير
وأذال زي ملكه فيها فأوفى بالنذور
صفحة ٩٣
وذكر ابن قتيبة أن: هذه القصة كانت قبل الإسلام بسبعمائة سنة، وفي معجم الطبراني يرفعه إلى سهل بن سعد الساعدي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تسبوا تبعا فإنه أسلم))، قال: ولا يروى عن سهل إلا بهذا الإسناد تفرد ابن لهيعة، ومن مغايض الجوهر في أنساب حمير أنه كان يدين بالزبور، وفي كتاب الكلبي: تبع بن حسان بن تبع، وهو تبع الأصغر، وهو آخر التبابعة، والذي كسا البيت وطاف وخلق كما فعل جده تبع الأوسط، وكسا البيت الملا والخز والديباج، قال: والأول أصح، وهو الذي عليه علماء اليمن، وذكر ابن أبي الأزهر في تاريخه أن أول من كسا الكعبة عدنان بن أدد، وقال الأزرقي عن الواقدي يرفعه إلى النوار بنت مالك أم زيد بن ثابت رضي الله عنه: رأيت على الكعبة قبل الدريد كسا، ومطارف خز خضرا وصفرا وكرارا، وأكسية من أكسية العرب، وعن عطاء بن يسار عن عمر بن الحكم السلمي قال: نذرت أمي بدنة تنحرها عند البيت وجللتها شقتين من شعر ووبر، فنحرت البدنة وسترت الكعبة بالشقتين، وعن ابن جريج عن ابن أبي مليكة قال: بلغني أن الكعبة كانت تكسى في الجاهلية كسى شتى، كانت البدن تجلل الحبر، والبرود، والكسا، كل هذا يعدي إلى الكعبة من خز، وأنماط، فتكسى الكعبة ويجعل ما بقى في خزانتها، فإذا بلى منها شيء أخلف عليها غيره، وعن ابن أبي مليكة، كانت قريش في الجاهلية تتساعد في كسوة الكعبة، ويضربون ذلك على القبائل بقدر احتمالها من عهد قصي بن كلاب حتى نشأ أبو ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان يختلف إلى اليمن للتجارة، فأثري في المال فقال لقريش: أنا أكسو الكعبة سنة وحدي، وجميع قريش تكسوها سنة، فكان يفعل ذلك حتى مات، وكان يأتي بالحبرة الجيدة فيكسو الكعبة، وسمته قريش بالعدل، لأن فعله وحده عدل فعل قريش كلها، وسموه إلى اليوم العدل، ويقال لولده، ولد العدل، فدلت هذه النقول بأسرها على أن الافتخار بكسوة هذا البيت الشريف لم يزل مطلوبا في الجاهلية والإسلام.
صفحة ١٠١
الباب الثاني: ((في سبب كسوتها))
صفحة ١٠٢
قال محمد بن إسحاق في كتابه في السيرة أن تبعا الأخير وهو تبع بن كلكي كرب كان هو وقومه يعبدون الأوثان، وأنه توجه إلى مكة حتى إذا كان بين عسفان، وأمج أتاه نفر من هذيل بن مدركة، قالوا: ألا ندلك على بيت مال داثر؟ قال: بلى، قالوا: مكة، وإنما أرادوا هلاكه لعلمهم بأنه من قصدها بسوء هلك، فقال له: حبران كانا معه، إنما أراد هؤلاء هلاكك، قال: فيما تأمراني قالا: تضع عنده ما يصنع أهله تحلق وتطوف وتنحر ففعل، وأقام بمكة ستة أيام ينحر للناس ويطعمهم، فأري في المنام أن يكسو البيت فكساه الخصف، وهو مما يظفر [به] من الخوص، فكساه المعافر؛ وهي ثياب يمانية ثم أري أن يكسوها أحسن من ذلك فكساه الملا، والوصايل، فكان تبع فيما يزعمون أول من كسا البيت، وعند الأزرقي عن ابن جريج أنه أول من كساه كسوة كاملة، أري في المنام أن يكسو الكعبة فكساها الأنطاع، ثم أري أن يكسوها أحسن من ذلك، فكساها ثياب حبرة من عصب اليمن، ثم كساها الناس في الجاهلية، وقال السهيلي في الروض الأنف: أن تبعا كسا البيت الأنطاع والمسوح، فانتفض البيت فزال ذلك عنه، وفعل ذلك حين كساه الخصف، فلما كساه الملا والوصايل قبلها، والوصايل: ثياب موصلة من اليمن.
صفحة ١٠٥
الباب الثالث: ((فيما كساها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة)
بعده والخلفاء الراشدون))
عن الحسن بن أبي الحسن البصري -رحمه الله- أن أول شيء كسيته الكعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كساها قباطي، وقال الأزرقي:
صفحة ١٠٦
كساها الثياب اليمانية، أقول: وهذا الذي يظهره، لأن مصر إذ ذاك لم تكن قد فتحت، وثياب اليمن ومتاجرها متواصلة إلى مكة، وهذا هو الذي أورده ابن لجوزي في كتابه المعروف بمثير الغرام الساكن، وأقول: يحمل قول الحسن: أن أول كسوة في الإسلام، قال الأزرقي: ثم كساها أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان القباطي، وكان يكتب إلى مصر تحاك له بها الكسوة، وكذا فعل عثمان، ثم كساها معاوية، وابن الزبير، فمن بعدهما، وسيأتي ذكر أول من كساها الديباج من الخلفاء، وعن ليث بن أبي سليم: كانت كسوة الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم الأنطاع والمسوح، وفي المصنف لابن أبي شيبة يرفعه إلى ابن إسحاق، حدثنا عجوز من أهل مكة، قالت: أصيب ابن عفان رضي الله عنه، وأنا بنت أربع عشرة سنة، ولقد رأيت البيت وما عليه كسوة إلا ما يكسوه الناس الكسا الأحمر يطرح عليه، والثوب الأبيض الكسا الصوف، وما كسي من شيء علق عليه، ولقد رأيته وما فيه ذهب ولا فضة، قال محمد: لم يكس البيت على عهد أبي بكر ولا عمر، وأن عمر بن عبد العزيز كساها القباطي والوصايل، أقول: مقالة ابن إسحاق معارضة من وجهين: أحدهما: ما تقدم من نقله من قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
صفحة ١١١
والثاني: ما بوب عليه البخاري رحمه الله فقال: باب كسوة الكعبة يرفعه إلى أبي وائل قال: جلست مع شيبة على الكرسي في الكعبة، فقال: أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها، فقلت: إن صاحبيك لم يفعلا ذلك، قال: هما المرءان أقتدي بهما، وأخرجه في الاعتصام في باب الاقتداء بالسنة، وفيه: ما أنت بفاعل: قال: لم قلت: لم يفعله صاحبيك؟ فقال: هما المرءان يقتدى بهما، قال الإسماعيلي: ليس في هذا الخبر لكسوة الكعبة ذكر، قال ابن بطال: معنى الترجمة صحيح، وذلك معلوم، لأن الملوك في كل زمان كانوا يتفاخرون [بكسوة الكعبة برفيع الثياب المنسوجة بالذهب وغيره كانوا يتفاخرون] بتسبيل الأموال إليها، وأراد البخاري -رحمه الله- أن عمر -رضي الله عنه- لما رأى قسمة المال من الذهب والفضة الموقوفين بها على أهل الحاجة صوابا كان حكم الكسوة كذلك، وفي تراجم البخاري لابن المنير:
صفحة ١١٣
يحتمل أن يكون المقصود بالترجمة أن كسوة الكعبة مشروع ومأثور، ولم تزل تقصد بمال يوضع فيها على سبيل الزينة والجمال إعظاما لحمرتها في الجاهلية والإسلام، والكسوة من هذا القبيل والله أعلم.
صفحة ١١٤
الباب الرابع: ((فيمن كساها الديباج))
صفحة ١١٥
فيه أقوال أحدها: في كتاب الكلبي أولهم: تبع بن حسان بن تبع بن كلكي كرب، وهو تبع الأصغر آخر التبابعة، أتى مكة فطاف بها وخلق كالذي فعل جده تبع الأوسط، وكسى البيت الملاء والخز والديباج، وقيل: أول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف الثقفي، قاله العسكري في الأوائل له، ثم قال: والصحيح أن أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير، وقيل: يزيد بن معاوية كساها الديباج الخسرواني، وقيل: عبد الملك بن مروان، أقول: كذا ذكره أبو عبد الله محمد بن إسحاق الفاكهي في أخبار مكة، قال: أول من كساها الديباج عبد الملك، وقال الواقدي عن أشياخه: أن عبد الملك كان كل سنة يبعث بالديباج إلى المدينة الشريفة على ساكنها أفضل السلام والتحية، فينشر يوما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأساطين، ثم يطوي ويبعث به إلى مكة التي شرفها الله تعالى.
صفحة ١١٦
الباب الخامس: ((في الأزمنة التي كانت تكسى فيها))
صفحة ١١٧
قال الأزرقي: كانت تكسى في عاشوراء ورفعه بسند إلى خالد بن المهاجر قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم عاشوراء، فقال: ((هذا يوم تنقضي فيه (سنة) وتستر فيه الكعبة))، فقال ابن جريج: كانت الكعبة فيما مضى إنما تكسى يوم عاشوراء إذا ذهب آخر الحاج حتى كانت بنو هاشم يعلقون عليها القمص يوم التروية من الديباج لأن يرى الناس ذلك عليها زينة وجمالا، فإذا كان يوم عاشوراء علقوا عليها الإزار ثم صار معاوية يكسوها مرتين، والمأمون كان يكسوها ثلاث مرات، يكسو الديباج الأحمر يوم التروية، والقباطي يوم هلال رجب، والديباج الأبيض يوم سبع وعشرين من رمضان، وكان ذلك سنة ست ومائتين، وفي مثير الغرام الساكن لأشرف الأماكن لابن الجوزي: أن المأمون زادها كسوة رابعة من ديباج أبيض أيضا، وجعل لها في كل شهرين كسوة، قال الأزرقي: ثم رفع إلى أمير المؤمنين جعفر المتوكل، أن إزار الديباج الأحمر يبلى قبل هلال رجب من مس الناس وتمسحهم بالكعبة، فزادها إزارين مع الإزار، وأذال قميصها الديباج الأحمر أي أسبله حتى بلغ الأرض قال الشاعر:
على ابن أبي العاص دلاص حصينة ... أجا المدد سردها فأزالها
قال: وكان ذلك في سنة إحدى وأربعين ومائتين.
صفحة ١٢٠