المقدمة
مقدمة الطبعة الخامسة
...
مقدمة الطبعة الخامسة:
الحمد لله حمدا يوافي نعمه، ويكافئ مزيده، حمدا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، الذي بنعمته تتم الصالحات، وتعم الخيرات، سبحانك ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله خير من اصطفى من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فهذه هي الطبعة الخامسة لكتاب لمحات في المكتبة والبحث والمصادر، أقدمها إلى أعزائي القراء من العلماء والباحثين والطلاب، والعاملين في رحاب العلم، الذين تعنيهم دراسة نشأة المكتبات وتطورها، ومعرفة أشهرها وأهمها، وطرق تنظيم فهارسها والاستفادة مها، ويهمهم الوقوف على طرائق البحث ومراحله، ومصادره ومراجعه، وحسن ترتيبه وإخراجه، في مختلف ميادين علوم الإسلام والعربية، أصولها وفروعها، والاطلاع على حركة التأليف فيها، ومعرفة عظيم ثمراتها، مما قدمه العلماء والباحثون، خلال قرون مديدة - زهت فيها أمتنا، وتسنمت قيادة العالم وريادته؛ فأشرقت الدنيا بنور الإيمان والمعرفة، وازدهرت الحضارة، وكان لنا قصب السبق في بنائها؛ فخلد أسلافنا مجدا عظيما لا تغيب عنه الشمس - وكذلك الاطلاع على بعض ما قدمه العلماء في نهضتنا العلمية الحديثة في مختلف ميادين العلم وحقوله.
صفحة ٥
لقد كانت نواة هذا الكتاب مذكرات وضعتها لطلاب كلية الشريعة بالرياض 1389-1390ه / 1969-1970م لتكون لهم عونا في أبحاثهم العلمية، وما إن ظهر الكتاب في الأسواق حتى عم انتشاره بين أهل العلم وطلابه، بفضل ونعمة من الله العلي العظيم؛ مما شجعني على متابعة موضوعاته بالعناية والاهتمام بكل ما يجد فيها، أو يطرأ عليها؛ فأضفت إليه زيادات بينة في طبعته الرابعة، تناولت أكثر فصوله ومباحثه، فاتسع انتشاره، وكثرت الكليات والمعاهد العلمية التي اعتمدته رجعا أساسيا لمقرر "البحث والمكتبة"، ولمقرر "المصادر" في كثير من البلاد العربية والإسلامية، ونفدت تلك الطبعة خلال فترة قصيرة، وكثر طلب الكتاب؛ فكان لزاما علي أن أسد حاجة القراء؛ بإعادة طبعه بعد أن أضفت على بعض أبحاثه أهم ما جد من نتاج المفكرين والعلماء ؛ مما صدر بعد عام 1395ه - 1975م -تاريخ الطبعة السابقة- وما أحدث في ميادين حفظ التراث وإحيائه، مما بلغني أو وقفت عليه؛ هذا إلى جانب إضافات بينة واضحة في بعض أبحاث الكتاب وموضوعاته، وكنت أتمنى أن تستوعب هذه الطبعة كل جديد مما له صلة بمادة هذا الكتاب، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه؛ فهذا جهد المقل - على كثرة واجباتي - سائلا الله عز وجل أن أوفق إلى استدراك ما فاتني في طبعة قادمة إن شاء الله، مستلهما العون منه، مبتهلا إليه أن يعصمني من الزلل، وأن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه، وأن يحقق الغاية المرجوة من هذا الكتاب، وينفع به، إنه خير مسئول، وبالإجابة جدير، وهو ولي التوفيق والسداد.
دمشق: 5 / 1 / 1400ه
24 / 11 / 1979م
محمد عجاج الخطيب
صفحة ٦
مقدمة الطبعة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المرسل هدى ورحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد فقد أسندت إلي عمادة كلية الشريعة بالرياض تدريس مادة البحث والمكتبة سنة 1389ه-1969م؛ ليتمرن الطالب على البحث العلمي، وينطبع على المنهجية التي اتسمت بها أبحاث أسلافنا العلماء، ويطلع على أمهات المصادر والمراجع في علوم الإسلام والعربية، وما يلحق بها ... ويحسن الاستفادة منها، والرجوع إليها، والانتفاع بها؛ فتتفتح المدارك، ويكشف عن الميول، وتنمى القدرات، وتشجع المواهب، وتتكون الشخصيات العلمية من خلال البحث والعرض والتحليل والاستنباط والمناقشة ... وبهذا تتمازج الآراء وتتميز، ويسمو التفكير، ويحسن التعبير؛ فينطلق الطالب من الميدان النظري إلى الميدان العملي، ومن حيز المعقد والمحاضرة إلى عالم المكتبات والمصادر وطرائق البحث؛ حيث تتسع الآفاق، وتمتد ساحات الرؤية أمام ناظريه ... فيحسن الاختيار والمحاكمة والربط، ورد الفروع إلي الأصول وغير ذلك مما يحتاج إليه في حياته العلمية والعملية.
صفحة ٧
وبدأت التجربة من بابها العملي؛ فكنت أحمل بعض كنوز مكتبتنا الإسلامية إلى الفصول، قاعات المحاضرات- أضعها بين يدي الطلاب، ندرسها دراسة عامة، ونحلل بعض ما جاء فيها، وأبين منزلة كل كتاب بين كتب العلم التي صنف فيها ذلك الكتاب، كما كنا نرتاد مكتبة الكلية أحيانا نعيش بين أمهات المصادر والمراجع، تمر الساعات العديدة من غير أن نشعر بها، ونحن نستطلع وندرس، ونوازن ونناقش، ونقارن ونعارض، وكثيرا ما كنت أوزع الطلاب في مجموعات، أضع بين يدي كل مجموعة ما ينوبها من المصادر، ونشرع في التطبيق العملي بعد بيان خطة البحث ... ؛ باستخراج ترجمة عالم تارة، أو الوقوف على مواضع حديث تارة أخرى، أو معرفة مواطن موضوع ... وغير هذا ... فانتقل الطلاب من التلقي والسلبية، إلى المشاركة والإيجابية؛ فكنت ترى الحياة والنشاط ينبعثان من تلك المجموعات، والبشر يعلو صفحات الوجوه حين تدرك مجموعة بغيتها قبل غيرها، وتعم السعادة النفوس، وتثلج الصدور للمحاولات والمناقشات العلمية الرفيعة المنظمة، التي كانت تدور بين براعم العلماء ... وإلى جانب هذا كان يقوم بعض الطلاب بإعداد دراسات وافية تتناول بعض الكتب، أو فصولا أو فصلا من كتاب، أو موضوعا ذا أهمية علمية.. ثم يلقونها على زملائهم، ويجيبون عن أسئلتهم ويتبادلون النقاش فيها..
لقد عشنا أياما علمية طيبة؛ فكان الطلاب يتعطشون إلى حصص هذه المادة، كما كنت أرتقبها من بين الحصص لأطالع طلابي بكل جديد، لقد كانت حصصا حية عملية تجتذب الحريص على العلم بسحرها وكنوزها، وتنوع فنونها، وتعدد موضوعاتها ...
وكان لا بد من منهاج يحدد الطريق، ومن غاية واضحة نقطف ثمارها، عاجلا أو آجلا؛ فالتزمت منهجا لهذا المقرر يدور بين
صفحة ٨
المحاضرات النظرية والأبحاث العلمية، والدراسات التطبيقية يشمل أصول البحث والمكتبة ونظامها والمصادر بأنواعها..؛ فاستحسن المسئولون في كليتي الشريعة واللغة العربية بالرياض هذا المنهاج؛ مما شجعني على المضي في تنفيذ تلك الخطة، والتزمت بوضع المادة العلمية بين يدي الطلاب؛ ليتضح السبيل أمامهم، وتسهل المذاكرة عليهم، واجتهدت ما وسعني الاجتهاد في وضع أصول هذا الكتاب بين يدي الطلاب خلال الشهور الأولى من ذلك العام الدراسي؛ فتم ذلك بفضل الله عز وجل وعونه، وما إن ظهرت تلك الأصول حتى تلقفها الطلاب من مختلف الكليات، وانصرم العام الدراسي، وانصرم العام الدراسي، وطالعنا عام 1390ه-1970م؛ فلم تتح لي فرصة لتنقيحها والزيادة عليها؛ فنشرت تلك الأصول ثانية على حالتها الأولى، وما إن أطل صيف عام 1391ه - 1971م حتى أعطيت هذا الكتاب وقتي، ووقفت له نفسي؛ ليخرج بهذا الثوب، وقد جعلته في ثلاثة فصول:
الفصل الأول: المكتبة: عرضت فيه لمكانة العلم في الإسلام وأثره، فبينت ابتداء تدوين العلم، ووضحت أهداف المكتبة وآثارها التربوية، وتحدثت عن نشأة المكتبات الإسلامية، وعن أشهرها فيما مضى، ثم عرجت على ذكر أشهر المكتبات وأهمها في العالم في العصر الحاضر، وبينت كنوز المخطوطات العربية في المكتبات العربية والأجنبية، وتحدثت عن نظام المكتبة قديما وحديثا، وعن القائمين عليها، والمسئولين عنها، كما فصلت القول في فهارسها وطرق الاستفادة منها بكل يسر وسهولة.
وفصلت القول في الفصل الثاني: "البحث وأصوله" في أهمية البحث العلمي وأصوله، ومقومات الباحث، وأهم ما يأخذ بيده إلى التقدم والنجاح، ووضحت أثر المنهجية العلمية في نجاح البحث، كما فصلت القول في مراحل البحث منذ اختيار الموضوع إلى استوائه وتكامله
صفحة ٩
وإخراجه، بما ينير السبيل للباحثين ويساعدهم في إعداد أبحاثهم، ويوفر لهم وقتهم وطاقتهم.
وأما الفصل الثالث فقد خصصته لأهم المصادر والمراجع في علوم الإسلام والعربية ... ؛ فتتبعت حركة التأليف عند علماء المسلمين، في أمهات العلوم الإسلامية وفروعها، وآداب العربية وفنونها، وعلوم اللغة وصنوفها، وحرصت على أن أعرض لأهم المصادر القديمة في كل علم، وأن أربط الحديث بالقديم، واللاحق بالسابق؛ لأن المتأخر طريق إلى المتقدم ومفتاح له، ومثل هذا التتبع التاريخي يحتاج إلى جهد كبير ووقت طويل؛ فتتبع ما تنتجه قرائح العلماء والمفكرين ليس بالأمر السهل، وإن كثرت وسائل النشر والإعلام؛ فإن بين ما ينشر وبين ما يطلع عليه مفاوز كثيرة كبعد الآفاق، وعدم كفاية التوزيع، وبطء إدخال المطبوع في فهارس المكتبات العامة، وغير ذلك من الصعاب التي تحول دون الاطلاع على كل جديد، ولا يستطيع الكاتب أن يخط كلمة حول كتاب ما لم يطلع عليه، ويوازنه بما سبقه ولحقه؛ حتى يحسن الحكم عليه، والقول فيه. وهذه أمانة تفوق الأمانة في المال والمتاع. وقد رأيت أني في عملي هذا رسول القراء إلى كل جديد، ومن حقهم علي أن أتتبع كل حديث في بابه. لكل هذا لم أدخر وسعا في سبيل هذه الغاية، ومن ثم اضطررت إلى ذكر بعض الكتب التي تأكد لي وجودها تحت الطبع في أكثر من بلد عربي.
ومع هذا فإني لم أقصد استيعاب جميع المصادر؛ بل اخترت من كل علم عدة كتب؛ فعرضتها عرضا علميا تاريخيا دقيقا، وعرفت بها، ولم أتجاوز ذكر الكتاب ومؤلفه وعصره، وأهم مزاياه، ومنزلته بين كتب العلم الذي صنف فيه، واكتفيت بذكر بعض الكتب مع مؤلفيها، من غير أي تعليق عليها؛ تاركا للطلاب تقويمها والرجوع إليها. وقد
صفحة ١٠
وجدت نفسي أمام ثروة عظيمة تنطق بجهود السابقين، وتحكي على مر الزمان قصة ذلك المجد التليد الذي بناه علماؤنا بالعلم والدأب المستمر؛ فأسهموا في تشييد صرح الحضارة الإنسانية إسهاما لا يدانيه إسهام أمة من الأمم، في مختلف الميادين العلمية، وبهذا فتحوا عيون العالم على المعرفة، وشقوا أمام الأجيال طريق الخير والسعادة. إنها ثورة علمية ضخمة يعجز البيان عن وصفها، وإن ما ذكرته من مصنفات لا يعدو غيضا من فيض، وقليلا من كثير. ولو أني أعطيت كل كتاب حقه من منى النفس، وتركت للقلم عنانه؛ لأضحى هذا المؤلف أضعاف حجمه، وقد جعلت هذا الفصل في ثلاثة عشر مبحثا هي:
1-
القرآن والتفسير وعلوم القرآن والدراسات القرآنية.
2-
الحديث وعلومه.
3-
السيرة النبوية.
4-
العقيدة والفرق.
5-
الفقه.
6-
أصول الفقه وتاريخ التشريع.
7-
التاريخ الإسلامي والتراجم.
8-
حضارة الإسلام.
9-
حاضر العالم الإسلامي.
10-
اللغة والأدب.
11-
كتب جامعة، وكتب في دراسات إسلامية.
12-
معاجم البلدان.
13-
مراجع المراجع.
وجعلت كل مبحث في عدة فقرات ليسهل العرض والتصنيف، وألحقت بالكتاب عدة فهارس تيسر الاستفادة منه.
صفحة ١١
ولربما فاتني أمر يرى غيري وجوب ذكره، فلا بأس بأن يذكرني به لأستدركه في طبعة قادمة إن شاء الله، وله مني الشكر والتقدير؛ فهذا تراث أمتنا يجب أن نتعاون في الحفاظ عليه، والكشف عنه. وإذا كتب لي بيان جانب من العلوم الإنسانية من هذا التراث الخالد؛ فإن جانب العلوم العملية منه بحر واسع لا يدرك غوره ومنتهاه، وقد شق عبابه أكابر علمائنا السابقين في الطب والكيمياء والفيزياء والصيدلة والفلك والرياضيات والهندسة وغيرها، وقد حازوا قصب السبق في هذا الميدان، وتربعوا أساتذة للغرب عدة قرون، وبقيت مؤلفاتهم مصادر أصيلة في أمهات جامعات أوربا حتى مطلع القرن الماضي، وكانت أبحاثهم ونظرياتهم أساسا للأبحاث العلمية الحديثة، وقد اعترف بهذا المنصفون من العلماء المعاصرين في الشرق والغرب؛ لكن بريق الحضارة في هذا العصر خطف أبصار بعض الناشئين فظن أن أمته منبتة لا جذور لها في ميادين العلم والتقدم، وأن الحضارة والعلم إنما هو صنيعة رجال هذا العصر؛ فتنكر لأمته ولماضيها، وظن أن واقعة المتخلف إنما هو نتيجة لماضيه، ولبس عليه هذا دس أعدائنا، وتشويههم لماضينا العظيم المشرق، وفاته أن أمتنا قادت مركب الإنسانية إلى الخير والسعادة والسلام قرونا طويلة؛ يوم كان غيرها من الأمم في عصور الجهل والظلام، وأن أكابر علماء تلك الأمم قد تربعوا بين يدي أجداده العلماء، يعبون من معينهم، وينهلون من مشاربهم.. وأنه لولا ما قدمه علماؤنا السابقون في الميادين العلمية المختلفة لما أدرك أبناء هذا القرن عشر معشار ما أدركوه إلا بعد فترة من عمر الزمن؛ فما على هؤلاء الذين عميت عليهم حقيقة تاريخهم وأمجادهم إلا أن يعرفوها معرفة واضحة لتكون لهم رائدا ومنارا، في طريق بناء المستقبل، كما أهيب بكل عالم
صفحة ١٢
ممن يستطيع الكشف عن عظيم تراثنا، ومجيد إنتاجنا أن يدلي بدلوه، ويضرب بسهمه خدمة لحضارتنا، ولأجيالنا الصاعدة قبل أن يضرب التيه على القلوب، وتنقطع بهم الدروب بين حاضرهم وماضيهم؛ فلا يحسنون تثبيت الأقدام في طريق مستقبلهم.
وأخيرا أرجو أن يكون عملي هذا خالصا لوجه الله، داعيا المولى عز وجل أن يحقق الغاية المرجوة من هذه الكتاب، وينفع به طلاب العلم وأهله، إنه خير مسئول، وهو ولي التوفيق والسداد.
2 رجب 1391ه
22 آب 1971م
محمد عجاج الخطيب
صفحة ١٣
الفصل الأول: المكتبة
تمهيد
الاسلام والعلم
...
الفصل الأول: المكتبة.
أولا: تمهيد.
1-
الإسلام والعلم:
{اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم} 1، كانت هذه أول آيات بينات نزلت على سيدنا محمد الرسول الأمين، تنبئه بالرسالة، وتحمله مسئولياتها، تصدع أول كلماتها بالقراءة وهي مفتاح التعلم، وتنطق آياتها بتعليم الله عز وجل لعباده ما لم يعلموا، وتذكر القلم وسيلة الكتابة وحفظ العلم ونقله، وآلة التعبير عما يجول في الخواطر. لقد استرعى الله عز وجل انتباهنا إلى أهمية العلم في أولى آيات القرآن الكريم لأنه سبيل التحرر من العبودية لغير الله، والطريق القويمة إلى معرفة الله عز وجل، ومعرفة شرعه وحسن تطبيقه والعمل به.
وحسبنا أن تنوه الآيات الأولى من دستور الإسلام بالعلم؛ لندرك اهتمام هذا الدين الحنيف به. ولو أنا تأملنا فيما ورد في القرآن الكريم من آيات تتناول العلم وفضله وسبله وما يلحق به، وما ورد في السنة في هذا الباب؛ فوقفنا على مكانة العلم في الإسلام، وأدركنا اهتمامه الكبير به من خلال الآيات التي تحث على التعلم، وتشجع طلاب العلم، وترفع من شأن العلماء، وتحارب الجهل وتطارده كما يطارد النور الظلام، تريد للإنسانية نور العلم والمعرفة بدلا من ظلام الجهل والغفلة، ومن ثم خاطب الإسلام العقول
صفحة ١٧
والقلوب. وأناط التكليف الشرعي بالعقل والبلوغ، وجعل العقل مدار التكليف؛ لأنه وسيلة فهم خطاب الشارع الكريم، وبه ميز الله عز وجل الإنسان عن سائر مخلوقاته؛ ولهذا نرى كثيرا من الآيات تهيب بالإنسان أن يستعمل عقله ويتدبر ويتفكر، من هذا قوله عز وجل: {إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} 1، وقوله: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} 2، وقوله: {كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون} 3، وقوله: {هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون} 4، وقوله: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} 5.
وإنا لنجد دعوة القرآن الكريم إلى العلم والرفع من شأنه مبثوثة في كثير من آياته، قال تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} 6، وقال: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} 7.
ورفع مكانة العلماء في قوله عز وجل: {يرفع الله الذين آمنوا
صفحة ١٨
منكم والذين أوتوا العلم درجات} 1. وقال: {وفوق كل ذي علم عليم} 2، ونرى من خلال آيات القرآن الكريم ما للعلم والعلماء من أهمية كبيرة في الدعوة إلى الله، والتحرر من عبدوية ما سواه، من هذا جل قصص الأنبياء، والمحاورة الدقيقة الرائعة "بين مؤمن آل فرعون وفرعون وأعوانه" من قوله عز وجل: {وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ... } إلى قوله عز من قائل: {فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد} 3، ومثلها المحاورة المنطقية والإقناع العميق في قوله عز وجل: {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون، وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون، أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون، إني إذا لفي ضلال مبين، إني آمنت بربكم فاسمعون، قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون، بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} 4.
ونرى ما للعلم من منزلة عظيمة في قصة سليمان عليه السلام، وفي طلبه عرش بلقيس: {قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم
صفحة ١٩
من مقامك وإني عليه لقوي أمين، قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي} 1.
ونرى من ركب هواه عقله في الدنيا ينطق بالحق حين يرى مصيره يوم القيامة: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} 2.
وقال عز من قائل: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} 3. وقال: {أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء} 4، وقال عز وجل: {أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق} 5.
خاطب الإسلام في الإنسان عقله وحواسه وجوارحه التي تنفذ به إلى المعرفة والتعلم؛ فاسترعى انتباهه إلى مفاتيح العلوم بالنظر والمشاهدة والتأمل والاعتبار، وغير ذلك مما يدفع به إلى ذروة المعرفة والوقوف على الحقيقة الكبرى لهذا الكون، ومن ثم لن نستغرب اهتمام الإسلام بالعلم هذا الاهتمام الكبير الذي لم نعهد له مثيلا في الأديان السابقة والأنظمة القديمة والحديثة حتى في أرقى بلاد العالم
صفحة ٢٠
في عصرنا الحاضر، ولا غرابة في هذه الحقيقة الواضحة في دين الإنسانية والخلود.
ولسنا هنا بصدد إحصاء وعرض آيات العلم والتعليم والعلماء التي وردت في القرآن الكريم؛ فإن المقام لا يتسع لذلك؛ وإنما الغاية أن نعرف مقام العلم في الإسلام معرفة سريعة موجزة، ولعل خير ما يبرز لنا هذا الجانب هو الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي كان الرائد الأول في تطبيق الإسلام.
1-
فقد حض الرسول عليه الصلاة والسلام على طلب العلم، وبين منزلة العلماء فقال: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" 1.
وجعل طلب العلم الشرعي الذي يحتاج إليه كل مسلم ليقيم أمور دينه فريضة على كل مسلم بنص قوله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" 2. وغير ذلك من الأحاديث التي تحض على طلب العلم، ولم يقتصر حضه صلى الله عليه وسلم على طلب العلم الشرعي من خلال القرآن والسنة؛ بل دعا إلى تعلم كل ما يعود على المسلمين بالخير، أو يدفع عنهم الشر3.
2-
وكما حض عليه الصلاة والسلام على طلب العلم حض على
صفحة ٢١
تبليغه؛ فحدث الرسول صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة، وكان يقول: "ليبلغ الشاهد الغائب، رب مبلغ أوعى من سامع" 1، "ونضر الله امرءا سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه؛ فرب مبلغ أحفظ له من سامع" 2. وفي رواية أنس رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني؛ فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه". وكان يأمر الوفود التي تفد إليه بأن يحملوا الإسلام إلى من خلفهم ويعلموهم كما تعلموا من الرسول صلى الله عليه وسلم3. ومن الناحية التطبيقية لم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم طريقة من طرق التعليم والتبليغ والإعلام في ذلك العصر إلا سلكها في سبيل نشر الإسلام وتبليغه؛ فكان يعقد مجالس العلم بنفسه4، ويبعث الرسل ويرسل الكتب، ويوجه
صفحة ٢٢
الأمراء والقضاة والمعلمين؛ ليفقهوا الناس بالدين، فكان صلى الله عليه وسلم خير مبلغ1.
3-
ومنزلة العلماء المعلمين من أرفع المنازل في الإسلام بنص قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "العلماء ورثة الأنبياء" 2 ولم يرفعهم إلى هذه المنزلة الرفيعة إلا علمهم وعملهم به وتعليمهم وإرشادهم الأمة..3
صفحة ٢٣
من هنا حث الإسلام على احترام أهل العلم، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فقال: "ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم
صفحة ٢٤
صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه" 1. وأكد عليه الصلاة والسلام ما للعالم من أجر عند الله عز وجل بقوله: "العالم والمتعلم شريكان في الخير" 2.
4-
وكما أن للعلماء أجرا في الغسلام لتعليمهم وتوجيههم، وحرصهم على بيان الحق؛ فإن لطلاب العلم أجرا لتوطين نفوسهم على طلب العلم، وهذا واضح في قوله صلى الله عليه وسلم: "من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا، أو يعلمه؛ كان له كأجر حاج تاما حجته" 3 وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما؛ سهل الله له به طريقا إلى لجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله عز وجل فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه" 4.
5 -
ولم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بالحض على طلب العلم، وعلى تبليغه، ولم يكتف ببيان منزلة العلماء وطلاب العلم؛ بل
صفحة ٢٥
أوصى بطلاب العلم خيرا، ورغب في تعليمهم والإحسان إليهم؛ من هذا ما رواه أبو هارون العبدي قال: كنا إذا أتينا أبا سعيد الخدري قال: مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قلنا: وما وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه سيأتي بعدي قوم يسألونكم الحديث عني؛ فإذا جاؤوكم فألطفوا بهم، وحدثوهم" 1. وفي رواية "إنهم -أي طلاب العلم- سيأتونكم من أقطار الأرض، يتفقهون في الدين؛ فإذا جاؤوكم فاستوصوا بهم خيرا". 2
هكذا تبين لنا حرص الشريعة على العلم والتعليم، وقد مارس الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بنفسه، وشجع على طلب العلم، وأوصى بطلابهن وبين ما للمشاركة فيه من أجر، حتى بلغ التشجيع العلمي أوجه، وفتح باب العلم للجميع ليس بينه وبين أحد حاجز أو مانع. وأبلغ من هذا كله، أن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر العلماء من أن يتساهلوا في أداء واجبهم وتعليم الجاهلين وأنذرهم بالعقاب، وحذر الجاهلين من البقاء على جهلهم، وحثهم على طلب العلم، وعلى تحطيم ربقة الجهل وعدم المعرفة، وحضهم على قرع ابواب العلماء، ويتجلى هذا بوضوح فيما رواه عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن جده قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة فأثنى على طوائف من المسلمين خيرا، ثم قال: "ما بال أقوام لا يفقهون
صفحة ٢٦
جيرانهم ولا يلعمونهم ولا يعظونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم، وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون، والله ليعلمن قوم جيرانهم، ويفقهونهم، ويعظونهم، ويأمرونهم، وينهونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون أو لأعاجلنهم العقوبة"، ثم نزل. فقال قوم: من ترونه عني بهؤلاء؟ قال: الأشعرين: هم فقهاء ولهم جيران جفاة من أهل المياه1 والأعراب؛ فبلغ ذلك الأشعرين، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا يا رسول الله ذكرت قوما بخير وذكرتنا بشر فما بالنا؟ فقال: "ليعلمن قوم جيرانهم، وليثقفنهم وليعظنهم وليأمرنهم ولينهونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتعظون ويتفقهون أو لأعاجلنهم العقوبة في الدنيا" فقالوا: يا رسول الله أنفطن2 غيرنا؟ فأعاد قوله عليهم؛ فأعادوا قولهم أنفطن غيرنا؟ فقال ذلك أيضا؛ فقالوا أمهلنا سنة فأمهلهم سنة ليفقهوهم ويعلموهم ويعظوهم، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود} 3.
لقد بين هذا الحديث مسؤولية العلماء، كما بين واجب من لا يعلم.
صفحة ٢٧