الخطب المنبرية
...
الخطبة الأولى لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
الحمد لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضالون. لا يُسأل عما يفعل وهم يسئلون. أحمده سبحانه حمد عبد نزه ربه عما يقول الظالمون. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وسبحان الله رب العرش عما يصفون. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله الصادق المأمون. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين هم بهديه مستمسكون، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، فيا أيها الناس، اتقوا الله حق تقاته. وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته. وأجيبوا الداعي إلى دار كرامته وجناته. ولا تغرنكم الحياة الدنيا بما فيها من زهرة العيش ولذاته. فقد قرب الرحيل، وذهب بساعات العمر وأوقاته. واعلموا أن الخير كله بحذافيره في الجنة، فأدلجوا في السير إليها. والشر كله بحذافيره في النار، فاجتهدوا في الهرب منها. ألا وإنّ الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، والمؤمن والكافر. والآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قاهر. فلا تغرنكم الحياة الدنيا؛ فإنها دار بلاء، ومنزل ترحة وعناء. نزعت عنها نفوس السعداء. وانتزعت بالكره من أيدي الأشقياء، وحال بينهم وبين ما أملوه القدر والقضاء. ضربت لكم بها المقاييس والأمثال. وقربت لكم الحقيقة بالشبه والمثال، فقال ﷺ: "مالي وللدنيا؟ إنما مثل الدنيا كراكب قال في ظل
1 / 5
دوحة ١") .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ ٢. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
خطبة له أيضا
الحمد لله العلي العظيم القادر، هو الأول والآخر، والباطن والظاهر، عالم الغيب والشهادة المطلع على السرائر والضمائر. خلق فقدر، ودبّر
_________
١ رواه الترمذي بلفظ "ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها"، وهو جزء من حديث، قال عنه الترمذي "حديث حسن صحيح" سنن الترمذي (٤:٥٨٨-٥٨٩)، ورواه أيضا ابن ماجه بلفظ "ما أنا والدنيا، إنما أنا والدنيا ... " الحديث سنن ابن ماجه (٢:١٣٧٦) .
٢ سورة يونس آية: ٢٤-٢٥-٢٦.
1 / 6
فيسّر، فكل عبد إلى ما قدره ١ عليه وقضاه صائر. أحمده سبحانه على خفيّ لطفه، وجزيل بره المتظاهر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ولد ولا مظاهر. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صاحب الآيات والمعجزات والبصائر. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه، ومن على سبيله إلى الله سائر، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد، فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى، واعملوا ليوم تنكشف فيه السرائر، وتظهر فيه مخبآت الصدور والضمائر، وتدور فيه على المجرمين الدوائر، وتحصى فيه الصغائر والكبائر. يرفع فيه لواء الخزي لكل ناكث للعهد غادر.
تنصب فيه موازين الأعمال وتنشر الصحائف، فكل عبد إلى ما قدمه لنفسه صائر. فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، يا خيبة الظالم والفاجر! ويا سعادة من استجاب لله ورسوله من ذوي الإيمان والبصائر!
فاتقوا الله عباد الله، فإن تقواه أنفع الوسائل والذخائر، ولا تكونوا كالذين بدلوا نعمة الله كفرا، ولم يلتفتوا إلى ما أمامهم من الموارد والمصادر. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا وَكَمْ
_________
١ هكذا في طبعة السلفية، وفي طبعة أم القرى: فكل عبد إلى ما قدمه من عمله لنفسه صائر.
1 / 7
أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ ١. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل٢، لي ولكم وسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
خطبة له أيضا
الحمد لله الذي ظهر لأوليائه بنعوت جلاله. وأنار قلوب أصفيائه بمشاهدة صفات كماله. وتحبب إلى عباده بما أسداه إليهم من إنعامه وإفضاله. أحمده سبحانه حمد عبد أخلص لله في أقواله وأفعاله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا معين في تدبيره وأفعاله.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، نبي أنعم الله على جميع أهل الأرض ببعثه وإرساله. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى جميع أصحابه وآله، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى، فإن تقواه عليها المعوَّل. واشكروه على ما أولاكم من الإنعام والخير الكثير وخوّل. وعليكم بما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول. وتدبروا ما جاء به نبيكم محمد ﷺ من الحكمة والكتاب المنزل. واعتبروا بمن كان قبلكم ممن علا في الأرض وأمَّل وتمّول. فجاءهم هاذم اللذات وكان الأجل مما أملوه أعجل. وسطا بهم ريب المنون مسرعا، فما توانى في
_________
١ سورة الإسراء آية: ١٣-١٤-١٥-١٦-١٧.
٢ هذه الكلمة ساقطة من طبعة أم القرى.
1 / 8
أخذهم وما أمهل. فاستحال النعيم عذابا، وانعكس القصد وتحول. فاتقوا الله عباد الله وحاسبوا أنفسكم قبل القدوم على الله. قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله،" ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾ ١. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ﴾ ٢ ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ ٣. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
١ سورة الحاقة آية: ١٨.
٢ سورة المؤمنون آية: ١٠١.
٣ سورة المؤمنون آية: ١٠٣-١١١.
1 / 9
خطبة له أيضا
الحمد لله المحمود على كل حال، الموصوف بصفات الجلال والكمال، المعروف بمزيد الإنعام والإفضال. أحمده سبحانه وهو المحمود على كل حال، وفي كل حال. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العظمة والجلال. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله الصادق المقال. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه خير صحب وآل، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، فيا أيها الناس، اتقوا الله حق تقاته. وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته. وأجيبوا الداعي إلى دار كرامته وجناته. ولا تغرنكم الحياة الدنيا بما فيها من زهرة العيش ولذاته. فقد قرب الرحيل، وذهب بساعات العمر وأوقاته. ألا وإن المؤمن بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه. فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن صحته لمرضه، ومن حياته لموته، ومن غناه لفقره. فوالله ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الموت من دار إلا الجنة أو النار. وقد ثبت عنه ﷺ أنه قال "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ١". أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ
_________
١ رواه الترمذي (٤:٦٣٨)، وسنن ابن ماجه (٢:١٤٢٢) ومسند أحمد (٤:١٢٤) .
1 / 10
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ ١. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
خطبة له أيضا
الحمد لله العلي الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، له ملك السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، الملك الحق المبين الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وقد وسع كل شيء رحمة وعلما.
أحمده سبحانه، وبحمده يلهج أولو الأحلام ٢ والنهى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عالم السر والنجوى. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى كلمة التقوى. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أئمة العلم والهدى، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمع ويرى. فقد طال إعراضكم عن النبأ العظيم تغافلا وجهلا. وكثر اشتغالكم بالعرض الخسيس الأدنى. وصار إقبالكم على ما يصد عن الصراط السوي والهدى. أما أيقظكم ما رأيتموه من حوادث القدر والقضا؟ أما أنذركم ٣ ما سمعتموه من أخبار من كذب وعصى، ومن
_________
١ سورة النساء آية: ١٢٣-١٢٤.
٢ في طبعة أم القرى: أولو البصائر والنهى.
٣ في طبعة أم القرى: أما وعظكم.
1 / 11
أعرض عما جاءت به الرسل وغلب عليه الشقاء والهوى؟ كيف وجدوا عقوبات الذنوب؟ وكيف كان الحال بمن بغى وطغى؟ بلغتهم دعوة الرسل فلم يجيبوا. ورفعت إليهم المواعظ فلم يلتفتوا ولم ينيبوا. فجاءهم أمر الله بغتة وأصيبوا. فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟ سل عنهم تلك القصور الدامرة، والقبور الدائرة، والعظام الناخرة. وكيف كان السؤال والجواب؟ وهل وجدوا لهم من دون الله ملجأ ووزرا؟ فاتقوا الله عباد الله واعملوا ليوم العرض والجزاء. ولا تكونوا ممن أعرض عن ذكر ربه ولم يرد إلا الحياة الدنيا. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ ١. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
خطبة له أيضا
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، فصل وبين وقرر صراطا مستقيما ومنهجا. ونصب ووضح من براهين معرفته
_________
١ سورة لقمان آية: ٣٣-٣٤.
1 / 12
وتوحيده سلطانا مبينا وحججا. أحمده سبحانه حمد عبد جعل له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة ترفع الصادقين إلى منازل المقربين درجا. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي وضع الله برسالته عن المكلفين آصارا وأغلالا وحرجا. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه خير الأنام طريقة وأهداهم منهجا، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، فيا أيها الناس، اتقوا الله حق تقواه، وسارعوا إلى مغفرته ورضاه. فقد خلقكم لأمر عظيم. وهيأكم لشأن جسيم. خلقكم لمعرفته وعبادته، وأمركم بتوحيده وطاعته. وجعل لكم ميعادا تجتمعون فيه للحكم فيكم، وفصل القضاء بينكم؛ فخاب وشقي عبد أخرجه الله من رحمته التي وسعت كل شيء وجنة عرضها السموات والأرض. وإنما يكون الأمان غدا لمن خاف واتقى، وباع قليلا بكثير، وفانيا بباق، وشقوة بسعادة.
عباد الله، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين تتقلبون، ويستخلفها بعدكم الباقون؟ ألا ترون أنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله؟ قد انقضى أجله وانقطع عمله، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير ممهد ولا موسد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وواجه الحساب. فاتقوا الله عباد الله، وبادروا بالتوبة قبل أن يغلق الباب، ويسبل الحجاب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ ١. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. ونفعني
_________
١ سورة آل عمران آية: ١٨٥.
1 / 13
وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
خطبة له أيضا
الحمد لله فاطر الأرض والسموات، عالم الأسرار والخفيات، المطلع على الضمائر والنيات. أحاط بكل شيء علما، ووسع كل شيء رحمة وحلما، وقهر كل مخلوق عزة وحكما، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما. لا تدركه الأبصار، ولا تغيره الدهور والأعصار، ولا تتوهمه الظنون والأفكار، وكل شيء عنده بمقدار. أتقن كل ما صنعه وأحكمه، وأحصى كل شيء وعلمه، وخلق الإنسان وعلَّمه. أحمده سبحانه على ما ألهمه من معلوم وفهَّمه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من عرف الحق والتزمه.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من صدع بالحق وأسمعه. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وسائر من نصره وكرمه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، فيا أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى، واعرفوا ما دلت عليه هذه الكلمة من الحقيقة والمعنى. وتفطنوا لتفاصيل ذلك على القلوب والأعضاء، وتدبروا كتاب الله واعرفوا ما فيه من العلم والهدى، وعالجوا به أمراض القلوب فهو الدواء النافع والشفاء، وهو السبب الأعظم في حصول السعادة والسيادة في الآخرة والأولى. من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، ومن أعرض عنه استحوذ عليه الشيطان وتولاه. فهو حبل الله المتين، ونوره المبين، وصراطه المستقيم. قال جندب بن
1 / 14
عبد الله ﵁: "عليكم بالقرآن، فإنه نور بالليل وهدى بالنهار. فاعملوا به على ما كان من فقر وفاقة. فإن عرض بلاء فقدم مالك دون نفسك. فإن تجاوز البلاء فقدم نفسك دون دينك. فإن المحروب من حرب دينه، والمسلوب من سلب دينه. إنه لا فاقة بعد الجنة، ولا غنى بعد النار. إن النار لا يفك أسيرها، ولا يستغني فقيرها". أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى «قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾ ١. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
خطبة له أيضا
الحمد لله الكريم الذي أسبغ نعمه علينا باطنة وظاهرة، الرحيم الذي لم تزل ألطافه على عباده متوالية متظاهرة، العزيز الذي خضعت لعزته رقاب الجبابرة، والقوي المتين الذي أباد من كذب رسله من الأمم الطاغية الكافرة. أحمده حمد عبد لم تزل ألطافه عليه متتابعة متواترة. وأشهد
_________
١ سورة طه آية: ١٢٣-١٢٤-١٢٥-١٢٦-١٢٧.
1 / 15
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها النجاة في الدار الآخرة. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صاحب الآيات والمعجزات الباهرة. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه النجوم الزاهرة، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى، فإن في تقواه كل خير جزيل. واحذروا أخذه وعقابه فإنه أليم وبيل. عباد الله، ما هذا التكاسل وقد جاء الرحيل؟ وما هذا التغافل وقد وضح السبيل؟ وصار الأمر أوضح من أن يحتاج إلى دليل. أغركم الغَرور بما أبداه من التسويف والتأميل؟ أم عندكم من الله عهد هو بالنجاة والسعادة كفيل؟ أم قد ظننتم حصول السلامة مع الإعراض عن معرفة الحق والدليل؟ ورجوتم نيل الفلاح، وقد هجر فيما بينكم الوحي والتنْزيل؟ هيهات هيهات خلاص الأكثرين، والله مستحيل!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمّىً (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾ ١. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
١ سورة طه آية: ١٢٨-١٢٩-١٣٠.
1 / 16
خطبة له أيضا
الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير. أحمده سبحانه على ما أسداه وأولاه من الإنعام والإكرام والخير الكثير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ولد ولا ظهير. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله السراج المنير والبشير النذير.
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن على سبيله إلى الله يسير، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد فيا أيها الناس، اتقوا الله حق تقواه، وسارعوا إلى مغفرته ورضاه. فقد خلقكم لأمر عظيم، وهيأكم لشأن جسيم. خلقكم لمعرفته وعبادته، وأمركم بتوحيده وطاعته. وأخذ على هذا مواثيقكم، وارتهن بحقه نفوسكم، ووكَّل بكم الكرام الكاتبين يعلمون ما تفعلون، ويكتبون ما تعملون.
وإن قوما جعلوا أعمارهم لغيرهم، وسعيهم لنيل حظوظهم وشهواتهم العاجلة، ولم يلتفتوا إلى ما خلقوا له، ففجأهم ريب المنون، وأُخذوا وهم كارهون، وحيل بين القوم وبين ما يشتهون، ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون. وحاق بهم ما كانوا يعملون. وهذا كتاب الله لا تفنى عجائبه. ولا يطفأ نوره، ولا يضل متبعه. فاستضيئوا منه ليوم الظلمة، واستمسكوا منه بأوثق شافع في كل خطْب وملمة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ رضي الله عنهالْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ
1 / 17
بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ﴾ ١. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
خطبة له أيضا
الحمد لله الملك العزيز العلام، العلي العظيم، الكريم السلام، غافر الذنب وقابل التوب من جميع الآثام. أحمده سبحانه على ما اتصف به من صفات الجلال والإكرام. وأشكره على ما أسداه من جزيل الفضل والإنعام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها الفوز بدار السلام.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أظهر الله به الإيمان والإسلام. اللهم صلّ على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد فيا أيها الناس، اتقوا الله تقية من خاف وحذر٢ واستقام، والتزموا ما أوجبه عليكم من حقوق الإيمان والإسلام، وأحبوه تعالى بما غذاكم به من سوابغ المن والإنعام، واشكروه على ما أولاكم من جزيل الفضل والإكرام. عباد الله قد وضح السبيل فما هذا الإعراض والإحجام؟ وقد استمع النذير ٣ فما هذا الإخلاد، والدار ليست بدار
_________
١ سورة يس آية: ٦٠-٦٧.
٢ في طبعة أم القرى: فاستقام.
٣ هكذا في طبعة السلفية، وفي طبعة أم القرى: أسمع.
1 / 18
مقام، هل يقنع بالسوم في هذه الدار ويرضاه لنفسه إلا أشباه الأنعام. عباد الله، قد سار المؤمنون وشمروا إلى دار السلام؛ وصاموا عن محارم الله والآثام. فما أفطروا إلا يوم القدوم على الملك السلام. فنالوا من كرامته ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر من الأنام.
"إن الله غرس جنة عدن بيده فقال لها: تكلمي، قالت ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ١") . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ رضي الله عنهوَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ ٢. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
خطبة له أيضا
الحمد لله الغني الحميد، المبديء المعيد، ذي العرش المجيد، الفعال لما يريد، أحاط بكل شيء علما وهو على كل شيء شهيد. أحمده سبحانه
_________
١ سورة المؤمنون آية: ١.
٢ سورة المؤمنون آية: ١-١١.
1 / 19
على ما أولاه من الإنعام والإكرام والتسديد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الحميد. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أفضل من دعا إلى الإيمان والتوحيد. اللهم صلى على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم من صالحي العبيد، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمع ويرى. وإياكم والاغترار بزهرة الحياة الدنيا، فقد اغتر بها قوم قبلكم فأوردهم موارد العطب والردى. أسكرتهم برونقها فما أفاقوا إلا وهم في عسكر الموتى. كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وعددا. كانوا أطول منكم آمالا وأحسن أثاثا ومنظرا. سرت إليهم الأقدار فما ونت في سيرها، وما أبقت منهم أحدا. فما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون لما نزل بهم القدر وقرب المدى. وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله، ولم يجدوا لهم من دونه موئلا وملتحدا.
فانتبهوا رحمكم الله، ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ ١. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ﴾ ٢. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم
_________
١ سورة البقرة آية: ٢٨١.
٢ سورة الأعراف آية: ٤-٩.
1 / 20
الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
خطبة له أيضا
الحمد لله عالم الغيب والشهادة، القادر على تنفيذ ما قدره وأراده، الحكيم في كل شيء قضاه حتى العجز والكيس والشقاوة والسعادة. أحمده سبحانه حمد عبد عظم رجاؤه للمغفرة والزيادة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أَعْظِمْ بها من شهادة١. واشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام المتقين السادة. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه نجوم الهداية والإفادة، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى، فإن تقواه أربح تجارة وبضاعة. واحذروا معصيته فقد خاب عبد فرَّط في أمر ربه وأضاعه، وعليكم بما كان عليه السلف الصالح والجماعة. فخذوا بهديهم وما كانوا عليه في المعتقد والعمل والسمت والطاعة. واحذروا الظلم فإن الظلم عار ونار وشناعة.
عباد الله، ما هذه الجراءة على ذي العزة والجلال؟ وما هذا الإعراض عن واسع الأنعام والأفضال؟ عباد الله، هل تعي قلوبكم من النصح ما يقال؟ أم قد حال دون ذلكم الران والأقفال؟ تالله لتسألن عن الرسول ومن أرسله وما جاء به وما قد قال؛ فأعدوا جوابا منجيا مطابقا عند السؤال، قبل أن يفجأ الأجل، ويحال بينكم وبين الآمال.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّا
_________
١ في طبعة السلفية بدون "من".
1 / 21
أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ﴾ ١. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
خطبة له أيضا
الحمد لله الذي عمت آلاؤه جميع مخلوقاته؛ فأبى أكثر الناس إلا كفورا. ونصب من الآيات الباهرات ما دل على وحدانيته، فعميت بصائر الكافرين والمنافقين، فما زادتهم إلا نفورا. وبصر المؤمنين في التفكير٢ في آياته فأشرقت قلوبهم بالإيمان به منا منه وتيسيرا. فسبحانه من قسَّام ما أعدله، ومن قهار ما أحلمه، ومن جواد ما أكرمه، ومن عليم ما أعلمه، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا يغادر صغيرا ولا كبيرا. أحمده سبحانه حمد عبد عرفه حق معرفته، وأشكره شكرا كثيرا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته ولا في إلهيته، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالحق بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد فيا أيها الناس،
_________
١ سورة الأنبياء آية: ١١-١٥.
٢ هكذا في طبعة السلفية وفي طبعة أم القرى "في التفكر".
1 / 22
اتقوا الله تعالى، فقد أسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة فاشكروه، وأوصاكم بالتمسك بكتابه وسنة رسوله ﷺ. فاقبلوا وصية ربكم وأطيعوه. ولا تجعلوا أمره ونهيه وراء ظهوركم فيهلككم كما أهلك من قبلكم لما آسفوه. وتقربوا إليه بشكر نعمه عليكم وراقبوه، فكم نعمة آتاكم، وكم فتنة وقاكم، وكم عدو كفاكم، فاشكروه عباد الله على ما أولاكم. فالسعيد من استعمل ما أوتيه من النعم في طاعة خالقه ومربيه، والشقي من صرفه في إرادته وشهواته ولم يؤد حق الله تعالى الواجب فيه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ رضي الله عنهوَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ ١. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
خطبة عند دخول رمضان له أيضا
الحمد لله الذي خص بالفضل والتشريف بعض مخلوقاته، وأودع فيها من عجائب حكمه وبديع إتقانه، ما شهدت العقول السليمة بأنها
_________
١ سورة إبراهيم آية: ٦-٧-٨.
1 / 23
من أكبر آياته. خلق فقدر، ودبر فيسر. وربك أعلم حيث يجعل رسالاته، ويختص من شاء ١ بفضله وكراماته. أحمده حمد عبد يعلم أنه هو المحمود على جميع أقضيته وأحكامه وتدبيراته. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فيما يستحقه على العبد من طاعاته وعباداته.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أظهر الله به الإسلام بعد اندراس قواعده وأفول شموخه ونسيان آياته.
اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين له على دينه ومحبته وموالاته، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق تقاته. وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته، قبل انصرام العمر وفوات أوقاته وساعاته. واعلموا أنه قد نزل بساحتكم شهر كريم، وموسم عظيم، خصه الله على سائر الشهور بالتشريف والتكريم، أنزل فيه القرآن العظيم، وفرض صيامه وجعله أحد أركان الإسلام التي لا يقوم بناؤه على غيرها ولا يستقيم. وسن قيامه نبيكم الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ففي الحديث: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه٢") . وفيه أيضا: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ٣") . وفي الحديث: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما ٤".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ
_________
١ هكذا في طبعة أم القرى، وفي طبعة السلفية: بدون "من شاء".
٢ صحيح البخاري (٥:١٧) .
٣ صحيح البخاري (٥:١٥٥) .
٤ صحيح البخاري (٥:٢٥) .
1 / 24