[تمهيد المؤلف] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أيد كلمة الحق بالبراهين القاطعة، وأعلى كلمة الصدق بالحجج اللامعة، ودرج أباطيل المفترين بالدلائل الدامغة، وأذل أعناق المغالطين بالبينات القامعة، والصلاة والسلام على المبعوث بخير الأديان محمد المختار من شجرة بني عدنان، وعلى آله الأطهار المهتدين، وعترته الأخيار الحفظة للدين.
وبعد:
فإني لما توالى على سمعي تصدى جماعة من المتسمين بسمة الصلاح، وثلة من غوغاء الهمج الرعاع، أتباع كل ناعق الذين أخذوا من الجهالة بحظ وافر، واستولى عليهم الشيطان فحل منهم في سويداء الخاطر لتقريض العرض وتمزيق الأديم، والقدح بمخالفة الشرع الكريم، والخروج عن سواء النهج القويم، - حيث إنا لما لزمنا الإقامة ببلاد العراق، وتعذر علينا الانتشار في الآفاق للأسباب ليس هذا محل ذكرها لم نجد بدا من التعلق بالقرية لدفع الأمور الضرورية من لوازم متممات المعيشة، مقتفين في ذلك أثر جمع كثير من العلماء وجم غفير من الكبراء الأتقياء، اعتمادا على ما ثبت بطريق من أهل البيت - عليهم السلام من أن أرض العراق ونحوها مما فتح عنوة بالسيف لا يملكها مالك مخصوص، بل هي للمسلمين قاطبة يؤخذ منها الخراج والمقاسمة، ويصرف
صفحة ٣٧
في مصارفه التي بها رواج الدين، بأمر إمام الحق من أهل البيت عليهم السلام، كما وقع في أيام أمير المؤمنين عليه السلام.
وفي حال غيبته عليه السلام قد أذن؟؟ عليهم السلام لشيعتهم في تناول ذلك من سلاطين الجور، كما سنذكره مفصلا. فلذا تداوله العلماء الماضون والسلف الصالحون غير مستنكر ولا مستهجن.
وفي زماننا حيث استولى الجهل على أكثر أهل العصر، واندرس بينهم معظم الأحكام، وأخفيت مواضع الحلال والحرام هدرت شقاشق الجاهلين، وكثرت جرأتهم على أهل الدين، استخرت الله تعالى، وكتبت في تحقيق هذه المسألة " رسالة " ضمنتها ما نقله فقهاؤنا في ذلك من الأخبار عن الأئمة الأطهار - عليهم السلام، وأودعتها ما صرحوا به في كتبهم من الفتوى: " بأن ذلك حلال لا شك فيه، وطلق لا شبهة تعتريه "، على وجه بديع، تذعن له قلوب العلماء، ولا تمجه أسماع الفضلاء. واعتمدت في ذلك أن أبين في هذه المسألة التي أفل بدرها وجهل قدرها، غيرة على عقائل المسائل، لا حرصا على حطام هذا العاجل، ولا تفاديا من تعريض جاهل، فإن لنا بموالينا أهل البيت عليهم السلام أعظم أسوة وأكمل قدوة، فقد قال الناس فيهم الأقاويل، ونسبوا إليهم الأباطيل، وبملاحظة " لو كان المؤمن في جحر ضب يبرد كل غليل " مع أني لم اقتصر فيما أشرت إليه على مجرد ما نبهت عليه. بل أضفت إلى ذلك من الأسباب التي تثمر الملك وتفيد الحل، ما لا يشوبه شك، ولا يلحقه لبس من شراء حصة من الأشجار، والاختصاص بمقدار معين من البذر. فقد ذكر أصحابنا طرقا للتخلص من الربا، وإسقاط الشفعة ونحوها مما هو مشهور متداول، بل لا ينفك منها إلا القليل النادر. وقد استقر في النفوس قبوله وعدم النفرة منه، مع أن ما اعتمدته في ذلك: أولى بالبعد عن الشبهة، وأحرى بسلوك جادة الشريعة.
ولم أودع في هذه الرسالة من الفتوى إلا ما اعتقدت صحته، وأقدمت على
صفحة ٣٨
لقاء الله تعالى به، مع علمي بأن من خلا قبله من الهوى، وبصر بصيرته من الغوى، وراقب الله تعالى في سريرته وعلانيته، لا يجد بدا من الاعتراف به، والحكم بصحته.
وسميتها: قاطعة اللجاج في تحقيق حل الخراج، ورتبتها على مقدمات خمس، ومقالة، وخاتمة. وسألت الله تعالى أن يلهمني إصابة الحق، ويجنبني القول بالهوى، إنه ولي ذلك، والقادر عليه.
صفحة ٣٩
المقدمة الأولى في أقسام الأرضين وهي في الأصل على قسمين:
أحدهما:
أرض بلاد الإسلام، وهي على قسمين أيضا: عامر وموات، فالعامر: مسك لأهله لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن ملاكه. والموات: إن لم يجر عليه ملك مسلم فهو لإمام المسلمين يفعل به ما يشاء، وليس هذا القسم من محل البحث المقصود.
القسم الثاني:
ما ليس كذلك، وهو على أربعة أقسام:
أحدها: ما يملك بالاستغنام ويؤخذ قهرا بالسيف، وهو المسمى ب (المفتوح عنوة).
وهذه الأرض للمسلمين قاطبة لا يختص بها المقاتلة عند أصحابنا كافة، خلافا لبعض العامة (1)، ولا يفضلون فيها على غيرهم ، ولا يتخير الإمام بين قسمتها ووقفها وتقرير أهلها عليها بالخراج، بل يقبلها الإمام عليه السلام لمن
صفحة ٤٠
يقوم بعمارتها بما يراه من النصف أو الثلث أو غير ذلك. وعلى المتقبل إخراج مال القبالة الذي هو حق الرقبة. وفيما يفضل في يده إذا كان نصابا إما العشر أو نصف العشر.
ولا يصح التصرف في هذه الأرض بالبيع والشراء والوقف وغير ذلك.
وللإمام عليه السلام أن ينقلها من متقبل إلى آخر، إذا انقضت مدة القبالة أو اقتضت المصلحة ذلك. وله التصرف فيها بحسب ما يراه الإمام عليه السلام من المصلحة للمسلمين.
وانتفاع الأرض يصرف إلى المسلمين وإلى مصالحهم، وليس للمقاتلة فيه الأمثل ما لغيرهم من النصيب في الارتفاع.
وثانيها: أرض من أسلم أهلها عليها طوعا من غير قتال.
وحكمها أن تترك في أيديهم ملكا لهم يتصرفون فيها بالبيع والشراء والوقف وسائر أنواع التصرف، إذا قاموا بعمارتها.
ويؤخذ منهم العشر أو نصفه زكاة بالشرائط.
فإن تركوا عمارتها وتركوها خرابا كانت للمسلمين قاطبة، وجاز للإمام عليه السلام أن يقبلها ممن يعمرها بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع ونحو ذلك.
وعلى المتقبل بعد إخراج حق القبالة، ومؤونة الأرض، مع وجود النصاب العشر أو نصفه. وللإمام عليه السلام أن يعطي أربابها حق الرقبة من القبالة، على المشهور.
أفتى به الشيخ رحمه الله في المبسوط (1) والنهاية (2)، وأبو الصلاح (3) وهو الظاهر
صفحة ٤١
من عبارة المحقق نجم الدين في الشرائع (1)، واختاره العلامة في المنتهى (2) و التذكرة (3) والتحرير (ط).
وابن حمزة (5) وابن البراج ذهبا إلى أنها تصير للمسلمين قاطبة وأمرها إلى الإمام عليه السلام. وكلام شيخنا في الدروس (6) قريب من كلامهما فإنه قال: " يقبلها الإمام عليه السلام بما يراه ويصرفه في مصالح المسلمين ".
وابن إدريس (7) منع من ذلك كله، وقال: " إنها باقية على ملك الأول، ولا يجوز التصرف فيها إلا بإذنه ". وهو متروك.
احتج الشيخ بما رواه صفوان بن يحيى، وأحمد بن محمد بن أبي نصر (8)، قال: " ذكرنا له الكوفة وما وضع عليها من الخراج وما سار فيها أهل بيته ، فقال:
من أسلم طوعا تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر مما سقت السماء والأنهار، ونصف العشر مما كان بالرشا فيما عمروه منها، وما لم يعمروه منها أخذه الإمام عليه السلام فقبله ممن يعمره، وكان للمسلمين، وعلى المتقبلين في حصصهم العشر أو نصف العشر " (9).
وفي الصحيح عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: " ذكرت لأبي الحسن الرضا عليه السلام الخراج وما سار به أهل بيته، فقال: العشر ونصف العشر على من أسلم تطوعا تركت أرضه في يده، وأخذ منه العشر أو نصف العشر فيما عمر منها، وما لم يعمر أخذه الوالي فقبله ممن يعمره وكان للمسلمين، وليس
صفحة ٤٢
فيما كان أقل من خمسة أوساق شئ. وما أخذ بالسيف فذلك للإمام عليه السلام يقبله بالذي يرى كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله بخيبر " (1).
واعترض في المختلف (2) بأن السؤال وقع عن أرض الخراج ولا نزاع فيه، بل النزاع في أرض من أسلم أهلها عليها. ثم أجاب ب: أن الجواب وقع أولا عن أرض من أسلم أهلها عليها، ثم إنه عليه السلام أجاب عن أرض العنوة.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن العلامة في المختلف احتج بهاتين الروايتين على مختار الشيخ والجماعة، وهما في الدلالة على مختار ابن حمزة وابن البراج أظهر.
ثم احتج لهما برواية (3) لا تدل على مطلوبهما (4) بل ولا تلتئم مع مقالتهما، وليس لنا في بيان ذلك كثير فائدة. نعم، بمقتضى الروايتين: المتجه ما ذهبا إليه.
وثالثها: أرض الصلح، وهي: كل أرض صالح أهلها عليها.
وهي أرض الجزية، فيلزمهم ما يصالحهم الإمام - عليه السلام عليه من
صفحة ٤٣
نصف أو ثلث أو ربع أو غير ذلك، وليس عليهم شئ سواه.
فإذا أسلم أربابها، كان حكم أرضهم حكم أرض من أسلم طوعا ابتداء، ويسقط عنهم الصلح لأنه جزية.
ويصح لأربابها التصرف فيها بالبيع والشراء والهبة وغير ذلك.
وللإمام عليه السلام أن يزيد وينقص ما يصالحهم عليه بعد انقضاء مدة الصلح حسب ما يراه من زيادة الجزية ونقصانها.
ولو باعها المالك من مسلم : صح، وانتقل ما عليها إلى رقبة البائع وهذا إذا صولحوا على أن الأرض لهم.
أما لو صولحوا على أن الأرض للمسلمين وعلى أعناقهم الجزية كان حكمها حكم الأرض المفتوحة عنوة، عامرها للمسلمين ومواتها للإمام - عليه السلام.
ورابعها:
أرض الأنفال، وهي: كل أرض انجلى أهلها عنها وتركوها، أو كانت مواتا لغير مالك فأحييت، أو كانت آجاما وغيرها مما لا يزرع فاستحدثت مزارع، فإنها للإمام عليه السلام - خاصة لا نصيب لأحد معه فيها، وله التصرف فيها بالبيع والشراء والهبة والقبض، حسب ما يراه، وكان له أن يقبلها بما يراه من نصف أو ثلث أو ربع ويجوز له نزعها من يد متقبلها إذا انقضت مدة القبالة، إلا ما أحييت بعد موتها، فإن من أحياها أولى بالتصرف فيها إذا تقبلها بما يتقبلها غيره، فإن أبى كان للإمام نزعها من يده وتقبيلها لمن يراه، وعلى المتقبل بعد إخراج مال القبالة فيما يحصل: العشر أو نصفه.
مسائل الأولى: تقسيم الأرضين إلى هذه الأقسام الأربعة بعينه موجود في كلام
صفحة ٤٤
الشيخ في المبسوط والنهاية، بل تكاد عبارته تطابق العبارة المذكورة هنا. والظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في ذلك. فقد ذكره كذلك جماعة من المتأخرين كابن إدريس، والمحقق ابن سعيد، والعلامة في مطولاته " كالمنتهى " و " التذكرة "، ومتوسطاته " كالتحرير "، ومختصراته " كالقواعد " و " الإرشاد " وكذا شيخنا الشهيد في " الدروس ".
الثانية: قال الشيخ (1): " كل موضع أو جبنا فيه العشر أو نصف العشر من أقسام الأرضين إذا أخرج الإنسان مؤونته ومؤونة عياله لسنته - وجب عليه فيما بقي بعد ذلك الخمس لأهله " وهو متجه.
الثالثة: ما يؤخذ من هذه الأراضي: إما مقاسمة بالحصة، أو ضريبة تسمى (الخراج)، يصرف لمن له رقبة تلك الأرض.
فما كان من المفتوح عنوة فمصرفه للمسلمين قاطبة. وكذا ما يؤخذ من أرض الصلح أعني " الجزية ".
وما يؤخذ مما أسلم أهلها عليها إذا تركوا عمارتها: على ما سبق (2).
وما كان من أرض الأنفال: فهو للإمام عليه السلام وسيأتي تفصيل بعض ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
صفحة ٤٥
المقدمة الثانية في حكم المفتوح عنوة أعني المأخوذ بالسيف قهرا لأن فيه معنى الإذلال، ومنه قوله تعالى: " و عنت الوجوه للحي القيوم " أي: ذلت.
وفيه مسائل الأولى: قد قدمنا أن هذه الأرض للمسلمين قاطبة، لا يختص بها المقاتلة، لكن إذا كانت محياة وقت الفتح. ولا يصح بيعها والحالة هذه ولا وقفها ولا هبتها، بل يصرف الإمام عليه السلام حاصلها في مصالح المسلمين مثل: سد الثغور ومعونة الغزاة وبناء القناطر، ويخرج منها أرزاق القضاة والولاة وصاحب الديون وغير ذلك من مصالح المسلمين.
ذهب إلى ذلك أصحابنا كافة.
قال الشيخ في " المبسوط " (1) عندما ذكر هذا القسم من الأرضين:
" ويكون للإمام النظر فيها وتقبيلها وتضمنها بما شاء، ويأخذ ارتفاعها ويصرفه في مصالح المسلمين وما ينوبهم: من سد الثغور ومعونة المجاهدين وبناء القناطر وغير ذلك من مصالح المسلمين، وليس للغانمين في هذه الأرض خصوصا شئ، بل هم والمسلمون سواء، ولا يصح بيع شئ من هذه الأرضين ولا هبته ولا معاوضته ولا تمليكه ولا وقفه ولا رهنه ولا إجارته ولا إرثه. ولا يصح
صفحة ٤٦
أن يبني دورا ولا منازل ولا مساجد وسقايات، ولا غير ذلك من أنواع التصرف الذي يتبع الملك. ومتى فعل شيئا من ذلك كان التصرف باطلا، وهو باق على الأصل ".
هذا كلامه رحمه الله بحروفه. وكلامه في النهاية قريب من ذلك، وكذا كلام ابن إدريس في السرائر.
والذي وقفنا عليه من كلام المتأخرين عن زمان الشيخ رحمه الله غير مخالف لشئ من ذلك. فهذا العلامة في كتابه منتهى المطلب وتذكرة الفقهاء والتحرير مصرح بذلك.
قال في " المنتهى " (1): " قد بينا أن الأرض المأخوذة عنوة لا يختص بها الغانمون بل هي للمسلمين قاطبة إن كانت محياة وقت الفتح، ولا يصح بيعها ولا هبتها ولا وقفها، بل يصرف الإمام حاصلها في المصالح مثل: سد الثغور ومعونة الغزاة وبناء القناطر، ويخرج منها أرزاق القضاة والولاة وصاحب الدين وغير ذلك من مصالح المسلمين ".
وقد تكرر في كلامه نحو هذا: قبل وبعد، وكذا قال في التذكرة والتحرير، فلا حاجة إلى التطويل بإيراد عبارته فيهما.
وقد روى الشيخ في التهذيب عن حماد بن عيسى، قال:
" رواه بعض أصحابنا عن العبد الصالح أبي الحسن الأول عليه السلام في حديث طويل، أخذنا منه موضع الحاجة قال: " وليس لمن قاتل شئ من الأرضين وما غلبوا عليه إلا ما احتوى العسكر ". إلى أن قال:
" والأرض التي أخذت عنوة بخيل وركاب فهي موقوفة متروكة في يدي من يعمرها ويحييها، ويقوم عليها على صلح ما يصالحهم الوالي على قدر طاقتهم من
صفحة ٤٧
الخراج: النصف أو الثلث أو الثلثان، وعلى قدر ما يكون لهم صالحا ولا يضربهم، فإذا خرج منها نماء بداء، فأخرج منه العشر من الجميع مما سقت السماء أو سقي سيحا، ونصف العشر مما سقي بالدوالي والنواضح، فأخذه الوالي فوجهه في الوجه الذي وجهه الله تعالى له " إلى أن قال: " ويؤخذ بعد ما بقي من العشر، فيقسم بين الوالي وبين شركائه الذين هم عمال الأرض وأكرتها، فيدفع إليهم أنصباءهم على قدر ما صالحهم عليه، ويأخذ الباقي، فيكون ذلك أرزاق أعوانه على دين الله، وفي مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام وتقوية الدين في وجوه الجهاد وغير ذلك مما فيه مصلحة العامة، ليس لنفسه من ذلك قليل ولا كثير. وله بعد الخمس الأنفال.
والأنفال: كل أرض خربة قد باد أهلها، وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، ولكن صولحوا عليها وأعطوا بأيديهم من غير قتال. وله رؤوس الجبال، وبطون الأودية، والآجام، وكل أرض ميتة لا رب لها. وله صوافي الملوك مما كان في أبديهم من غير وجه الغصب، لأن الغصب كله مردود. وهو وارث من لا وارث له " (1) الحديث بتمامه.
وهذا الحديث وإن كان من المراسيل إلا أن الأصحاب تلقوه بالقبول، ولم نجد له رادا، وقد علموا بمضمونه. واحتج به على ما تضمن من مسائل هذا الباب العلامة في المنتهى. وما هذا شأنه فهو حجة بين الأصحاب، فإن ما فيه من الضعف ينجبر بهذا القدر من الشهرة.
بقي شئ واحد وهو: أنه تضمن وجوب الزكاة قبل حق الأرض، وبعد ذلك يؤخذ حق الأرض. والمشهور بين الأصحاب أن الزكاة بعد المؤن. نعم، هو قول الشيخ رحمه الله.
صفحة ٤٨
وروى الشيخ في الصحيح عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال:
" ما أخذ بالسيف فذلك للإمام عليه السلام - يقبله بالذي يرى، كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله بخيبر، قبل أرضها ونخلها، والناس يقولون لا تصح قبالة الأرض والنخل، إذا كان البياض أكثر من السواد، وقد قبل رسول الله صلى الله عليه وآله خيبر (1).
وفي معناه: ما رواه أيضا مقطوعا عن صفوان بن يحيى وأحمد بن أبي نصر (2).
الثانية: موات هذه الأرض أعني المفتوحة عنوة وهو ما كان في وقت الفتح مواتا للإمام عليه السلام خاصة (3) لا يجوز لأحد إحياؤه إلا بإذنه إن كان ظاهرا.
ولو تصرف فيها متصرف بغير إذنه كان عليه طسقها. وحالة الغيبة: يملكها المحيي من غير إذن.
ويرشد إلى بعض هذه الأحكام ما أوردناه في الحديث السابق عن أبي الحسن الأول عليه السلام - (4). وأدل منه ما رواه الشيخ في الصحيح عن عمر بن يزيد: " أنه سمع رجلا يسأل الصادق عليه السلام عن رجل أخذ أرضا مواتا تركها أهلها فعمرها وأكرى أنهارها وبنى فيها بيوتا وغرس فيها نخلا وشجرا، قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام: " كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: من أحيا أرضا من المؤمنين فهي له وعليه طسقها يؤديه إلى الإمام من أهل بيتي، فإذا ظهر القائم عليه السلام فليوطن نفسه على أن تؤخذ منه " (5).
صفحة ٤٩
وروى الشيخ عن محمد بن مسلم قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الشراء من أرض اليهود والنصارى، فقال: ليس به بأس " إلى أن قال:
" وأي قوم أحيوا شيئا من الأرض وعمروها فهم أحق بها وهي لهم " (1).
الثالثة: قال الشيخ في النهاية والمبسوط، وكافة الأصحاب: لا يجوز بيع هذه ولا هبتها ولا وقفها - كما حكيناه سابقا عنهم لأنها أرض المسلمين قاطبة، فلا يختص بها أحد على وجه التملك لرقبة الأرض، إنما يجوز له التصرف فيها، ويؤدي حق القبالة إلى الإمام عليه السلام، ويخرج الزكاة مع اجتماع الشرائط. فإذا تصرف فيها أحد بالبناء والغرس صح بيعها، على معنى: أنه يبيع ماله من الآثار وحق الاختصاص بالتصرف لا الرقبة ذاتها لأنها ملك المسلمين قاطبة.
روى الشيخ عن صفوان بن يحيى عن أبي بردة بن رجاء، قال:
" قلت لأبي عبد الله عليه السلام: كيف ترى في شراء أرض الخراج؟ قال:
ومن يبيع ذلك وهي أرض للمسلمين؟! قال: قلت: يبيعها الذي هي في يديه؟
قال: ويصنع بخراج المسلمين ماذا؟ ثم قال: لا بأس، يشتري حقه منها ويحول حق المسلمين عليه، ولعله يكون أقوى عليها وأملك بخراجها منه " (2).
وهذا صريح في جواز بيع حقه، أعني آثار التصرف، ومنع بيع رقبة الأرض.
ولا نعرف أحدا من الأصحاب يخالف مضمون الحديث.
وعن محمد بن مسلم قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الشراء من أرض اليهود والنصارى، فقال: ليس به بأس، قد ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله على أهل خيبر، فخارجهم على أن يترك الأرض بأيديهم يعملونها ويعمرونها فلا أرى به بأسا لو أنك اشتريت منها " (3) الحديث.
وهذا يراد به ما أريد بالأول من بيع حقه منها، إذ قد صرح أولا بأنها ليست
صفحة ٥٠
ملكا لهم، وإنما خارجهم النبي صلى الله عليه وآله فكيف يتصور منهم بيع الرقبة والحالة هذه؟
وقريب من ذلك ما روى حسنا عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام - قال:
" سمعته يقول رفع إلى أمير المؤمنين عليه السلام رجل مسلم اشترى أرضا من أراضي الخراج، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: له ما لنا، وعليه ما علينا، مسلما أو كافرا، له ما لأهل الله وعليه ما عليهم " (1).
وهذا في الدلالة كالأول.
وعن حريز عن محمد بن مسلم وعمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
" سألته عن ذلك، فقال: لا بأس بشرائها، فإنها إذا كانت بمنزلة ما في أيديهم يؤدي عنها " (2).
وأولى من ذلك ما رواه محمد الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام وقد سأله عن السواد ما منزلته؟ فقال:
" هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم ولم يخلق بعد.
فقلنا: الشراء من الدهاقين؟ قال: لا يصلح إلا أن يشتري منهم على أن يصيرها للمسلمين، فإن شاء ولي الأمر أن يأخذها أخذها. قلنا: فإن أخذها منه؟ قال:
يرد إليه رأس ماله، وله ما أكل من علتها بما عمل " (3).
وفي التذكرة رواه هكذا، قال: (يود) بالواو بدل الراء من الوداء مجزوما
صفحة ٥١
لأنه أمر للغائب محذوف اللام. وما أوردناه أولى.
فإن قلت: إذا جوزتم البيع ونحوه تبعا لآثار التصرف، فكيف يجوز لولي الأمر أخذها من المشتري، وكيف يرد رأس ماله، مع أنه قد أخذ عوضه، أعني تلك الآثار؟
قلت: لا ريب أن ولي الأمر له أن ينتزع أرض الخراج من يد متقبلها إذا انقضت مدة القبالة وإن كان له بها شئ من الآثار فانتزاعها من يدي المشتري أولى بالجواز، وحينئذ فله الرجوع برأس ماله لئلا يفوت الثمن والمثمن. لكن الذي يرد الثمن يحتمل أن يكون هو الإمام عليه السلام لانتزاعه ذلك، ويحتمل أن يكون البائع، لما في الرد من الإشعار بسبق الآخذ. وقوله " وله ما أكل " أنه يريد به المشتري.
وفي معنى هذه الأخبار أخبار أخر كثيرة، أعرضنا عنها إيثارا للاختصار.
تنبيهات الأول: قد عرفت أن المفتوحة عنوة لا يصح بيع شئ منها ولا وقفه ولا هبته.
قال في المبسوط: " ولا يصح أن يبني دورا ولا منازل ولا مساجد وسقايات ولا غير ذلك من أنواع التصرف الذي يتبع الملك، ومتى فعل شيئا من ذلك كان التصرف باطلا، وهو باق على الأصل ".
وقد حكينا عبارته قبل ذلك.
وقال ابن إدريس (1):
" فإن قيل: لما نراكم تبيعون وتشترون وتقفون أرض العراق وقد أخذت عنوة؟ قلنا: إنما نبيع ونقف تصرفنا فيه وتحجيرنا وبناءنا، فأما نفس الأرض فلا يجوز ذلك فيها ".
صفحة ٥٢
قال العلامة في المختلف (1) بعد حكاية ذلك عن ابن إدريس هذا، وهو يشعر بجواز البناء والتصرف، قال:
" وهو أقرب ".
قلت : هذا واضح لا غبار عليه. يدل عليه ما تقدم من قول الصادق عليه السلام " اشتر حقه منها "، وأنه أثر محترم مملوك لم يخرج عن ملك مالكه بشئ من الأسباب الناقلة، فيكون قابلا لتعلق التصرفات به.
ونحو ذلك قال في التذكرة (2) في كتاب البيع فإنه قال:
" لا يصح بيع الأرض الخراجية لأنها ملك للمسلمين قاطبة لا يختص بها أحد، نعم يصح بيعها تبعا لآثار المتصرف ".
وكذا قال في القواعد (3) والتحرير (4).
ثم نعود إلى كلامه في المختلف فإنه قال فيه في آخر المسألة من كتاب البيع:
" ويحمل قول الشيخ على الأرض المحياة دون الموات ".
قلت: هذا مشكل لأن المحياة هي التي تتعلق بها هذه الأحكام المذكورة، وأما الموات: فإنها في حال الغيبة مملوكة للمحيي، ومع وجود الإمام - عليه السلام لا يجوز التصرف فيها إلا بإذنه، مع أن الحمل لا ينافي ما قربه من مختار ابن إدريس لأن مراده بأرض العراق: المعمورة المحياة التي فيها: لا يجوز بيعها ولا هبتها لأنها أرض الخراج.
نعم: يمكن حمل كلام الشيخ رحمة الله على حال وجود الإمام عليه السلام وظهوره، لا مطلقا.
الثاني: نفوذ هذه التصرفات التي ذكرناها إنما هو في حال غيبة الإمام عليه
صفحة ٥٣
السلام أما في حالة ظهوره فلا، لأنه إنما يجوز التصرف فيها بإذنه. وعلا هذا فلا ينفذ شئ من تصرفات المتصرف فيها استقلالا.
وقد أرشد إلى هذا الحكم كلام الشيخ في " التهذيب " (1)، فإنه أورد على نفسه سؤالا وجوابا محصله مع رعاية ألفاظه بحسب الإمكان أنه:
" إذا كان الأمر في أموال الناس ما ذكرتم من لزوم الخمس فيها وكذا الغنائم وكان حكم الأرضين ما بنيتم من وجوب اختصاص التصرف فيها بالأئمة عليهم السلام، إما لاختصاصهم بها كالأنفال أو للزوم التصرف فيها بالتقبيل والتضمين لهم مثل أرض الخراج، فيجب أن لا يحل لكم منكح، ولا يخلص لكم متجر، ولا يسوغ لكم مطعم على وجه من الوجوه!
فيل له: إن الأمر وإن كان كما ذكرت من اختصاص الأئمة عليهم السلام بالتصرف في هذه الأشياء، فإن هنا طريقا إلى الخلاص.
ثم أورد الأحاديث التي وردت بالإذن للشيعة في حقوقهم عليهم السلام حال الغيبة، ثم قال:
إن قال قائل: إن ما ذكر تموه إنما يدل على إباحة التصرف في هذه الأرض ولا يدل على صحة تملكها بالشراء والبيع، ومع عدم صحتهما لا يصح ما يتفرع عليهما!
قيل له: قد قسمنا الأرضين على ثلاثة أقسام. أرض يسلم أهلها عليها فهي ملك لهم يتصرفون فيها، وأرض تؤخذ عنوة أو يصالح أهلها عليها فقد أبحنا شراءها وبيعها لأن لنا في ذلك قسما لأنها أراضي المسلمين، وهذا القسم أيضا يصح الشراء والبيع فيه على هذا الوجه، وأما الأنفال وما يجري مجراها فليس يصح تملكها بالشراء، وإنما أبيح لنا التصرف حسب.
صفحة ٥٤
ثم استدل على حكم أراضي الخراج برواية أبي بردة بن رجاء السالفة، الدالة على جواز بيع آثار التصرف دون رقبة الأرض.
وهذا كلام واضح السبيل، ووجهه من حيث المعنى أن التصرف في المفتوحة عنوة إنما يكون بإذن الإمام عليه السلام وقد حصل منهم الإذن لشيعتهم حال الغيبة فتكون آثار تصرفهم محترمة بحيث يمكن ترتب البيع ونحوه عليها.
وعبارة شيخنا في " الدروس " (1) أيضا ترشد إلى ذلك حيث قال:
" ولا يجوز التصرف في المفتوح عنوة إلا بإذن الإمام عليه السلام، سواء كان بالبيع أو بالوقف أو غيرهما، نعم في حالة الغيبة ينفذ ذلك ".
وأطلق في " المبسوط " أن التصرف فيها لا ينفذ، أي: لم يقيد بحال ظهور الإمام عليه السلام أو عدمه. ثم قال:
وقال ابن إدريس: " إنما يباع ويوقف تحجيرنا وبناؤنا وتصرفنا لا نفس الأرض ".
ومراده بذلك أن ابن إدريس أيضا أطلق جواز التصرف في مقابل إطلاق " الشيخ " رحمه الله عدم جوازه. والصواب: التقييد بحال الغيبة، فينفذ، وعدمه بعدمه، وهذا ظاهر بحمد الله تعالى.
المقدمة الثالثة في بيان أرض الأنفال وحكمها الأنفال جمع نفل بسكون الفاء وفتحها وهو: الزيادة ومنه: النافلة. والمراد به هنا: كل ما يخص الإمام عليه السلام وقد كانت الأنفال لرسول الله صلى
صفحة ٥٥
الله عليه وآله في حياته، وهي بعده للإمام القائم مقامه صلى الله عليه وآله.
وضابطها: كل أرض فتحت من غير أن يوجف عليها بخيل ولا ركاب، والأرضون الموات، وتركة من لا وارث له من الأهل والقرابات، والآجام، والمفاوز، وبطون الأودية، ورؤوس الجبال، وقطائع الملوك.
وقد تقدم في الحديث السابق الطويل عن أبي الحسن الأول عليه السلام ذكر ذلك كله (1).
وقد روى الشيخ عن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
قلت له: ما تقول في قول الله تعالى: " يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله "؟ قال: الأنفال لله تعالى وللرسول وهي: كل أرض جلا أهلها من غير أن يحمل عليها بخيل ولا رجال ولا ركاب، فهي نفل لله وللرسول (2).
وعن سماعة بن مهران قال: سألته عن الأنفال، فقال: كل أرض خربة أو شئ كان للملوك فهو خالص للإمام عليه السلام ليس للناس فيها سهم.
قال: ومنها البحرين لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب (3).
وفي مرسلة العباس الوراق عن رجل سماه عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
" إذا غزا قوم بغير إذن الإمام عليه السلام فغنموا كانت الغنيمة كلها للإمام عليه السلام وإذا غزوا بإذن الإمام عليه السلام فغنموا كان الخمس للإمام " (4) ومضمون هذه الرواية مشهور بين الأصحاب، مع كونها مرسلة، وجهالة بعض رجال سندها، وعدم إمكان التمسك بظاهرها، إذ من غزا بإذن الإمام لا يكون خمس غنيمته كلها للإمام عليه السلام.
صفحة ٥٦