[الجزء الأول]
خطبة الكتاب
أحمد من شرح (1) صدورنا لمعرفة الفروع بالأصول ، وتلقانا بالإصلاح والقبول ، وفتح لنا أبوب الهداية ، وأشعل لنا أنوار جوهرة الدراية ، وأوضح لنا متن منهاج النجاة ، والوصول إلى منتهى كل أمنية وغاية ، وتفضل علينا بتوضيح العلم والتنقيح ، وتمييز سقيم الدليل من الصحيح ، هو الكافل بنجاتنا من بحور الغرق ، بركوب سفينة أشرف الفرق ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له شهادة من علم أن الأحكام منحصرة في الحلال والحرام ، وأن السنة والكتاب من الحكمة (2)وفصل الخطاب (3) أمرنا بالإجماع عند حقيقتهما ، وشرع القياس ، ونهانا عن مجاز غير مجازهما ، ومجمل الإلباس ، وميزنا بفهم منطوقهما (4)والترجيح ، وحبانا باستنباط جواهر نصهما والتلميح ، وخصنا بعموم الألاء ، ونبهنا على تقييد مطلقها بشكره تعالى ، فنسخ عنا رذيلة رداء التقليد بجمال لباس محكم الكتاب المجيد ، وأشهد أن سيدنا محمدا الأمين عبده ورسوله ، بما فيه نجاتنا يوم الدين صلى الله [وسلم] عليه وعلى آله الطاهرين.
صفحة ٢
(أما بعد) فإني لما رأيت الناس عالة (1)على الأصول لجمعها المنقول والمعقول ، وإقبالهم على الكافل بنيل السول لاختصاره وإيجازه وجمعه نفيس درر المسائل وإحرازه ، أحببت أن أعلق عليه ما به ينحل معقوده ومعانيه ، ويتضح منضوده ومبانيه ، وتحيى رسومه ومغانيه ، ليس بالطويل الممل ، ولا بالقصير المخل ، واضعا كل شيء إن شاء الله تعالى في محله ، مقتصرا على ما قصد غالبا من بيان المختار ودليله ، مشيرا إلى دفع شبهة الخصم وتعويله ، فالله أسأل أن يصلي ويسلم على نبينا محمد وآله ، وأن ينفع به الطالب ، ويسهله على الراغب ، وأن يجعله لنا من السعي المشكور ، الموجب للأجر الموفور ، ومن التجارة الرابحة التي لن تبور ، فإنه هو القدير الشكور ، العزيز الغفور ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
وهذا أوان الابتداء ، والله المستعان في الابتداء والانتهاء.
صفحة ٣
قال :(بسم الله الرحمن الرحيم) وجه البداية بالتسمية التأسي بقوله تعالى ?بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين?[ الفاتحة ] وقوله :((كل أمر ذي بال لم يذكر اسم الله عليه فهو أبتر))(1) الخبر المشهور ومعنى ((ذي بال)) مقصود فعله ، لا أن لم يكن مقصودا كطرف العين ، والحركة اليسيرة. والإجماع فإنه لا خلاف بين المسلمين في شرعية البداية باسم الله تعالى ، والأنسب تقدير متعلق الظرف من جنس ما جعلت التسمية مبدأ له من القراءة والتأليف لدلالته على تلبس كل الشروع فيه ابتدائه وانتهائه بالتسمية ولذا قال تعالى ? إقرأ بسم ربك الذي خلق?[العلق 1] وقال :((باسمك (2)ربي وضعت جنبي ، وباسمك ربي أرفعه))(3) وقال :((باسمك أحيا ، وباسمك أموت)) (الحمد لله) الحمد هو الوصف بالجميل على الجميل الاختياري ، فالوصف إشارة إلى المحمود به ، وهو ما وقع به الحمد ، وبه تخرج سائر شعب الشكر من فعل الجنان والأركان ، وبالجميل يخرج الاستهزاء ، وعلى الجميل إشارة إلى المحمود عليه الباحث على الحمد ، والجميل أعم مما في نفس الأمر أو في نظر الحامد والمحمود ، فلا نقض بمدح السلاطين بما هو ظلم في الحقيقة ، والمراد من الاختياري هو الصادر بالاختيار ، وما وقع على غير الاختياري كحمد الله على صفاته الذاتية ، فلتنزيله منزلة الاختياري إما لاستقلال الذات فيه أي لما كان ذاته تعالى كافيا فيهاكانت بمنزلة الاختيارية التي يستقل بها فاعلها ، فأطلق الاختياري على ما يعمها تغليبا ، أو باعتبار كونها مبادئ أفعال اختيارية ، والجلالة اسم للذات الواجب الوجود المستجمع لصفات الكمال (1)ولذا لم يقل للخالق ، أو الرازق ، أو نحوه مما يوهم اختصاصه بوصف دون وصف ، وأردف التسمية بالحمد لله لنحو ما تقدم في التسمية واختار فيهما هذا اللفظ الشريف ، والترتيب اقتداءا بالكتاب العزيز لأنه فاتحته ، وخاتمة دعاء أهل الجنة ، وأبلغ صيغ الحمد ، فيتعين في بر من حلف ليحمدن الله بأجل المحامد ، وجمعا بين روايات الابتداء ، فإنه روي ببسم الله الرحمن الرحيم ، وبسم الله ، وبالحمد لله - برفع الحمد وجره - كما لا يخفى على المتأمل ، ولأن المناسب لمقام التعظيم التصريح بالحمد ، وحصره عليه تعالى ، ولا ينتقض ذلك بوجوب شكر المنعم من عباد الله تعالى لرجوع الحمد إلى الكمال ، حتى كأنه لا حمد إلا الكامل ، وهو حمد الله تعالى.
فإن قيل : ما افتتح ببسم الله غير مفتتح بالحمد لله والعكس ، فلا يمكن العمل بأحاديث الابتداء أجيب : بأن الافتتاح إما أمر عرفي يعتبر من حال الأخذ في التأليف إلى الشروع في البحث أو منقسم إلى حقيقي وإضافي فيمكن الجمع بتقديم أحدهما على الآخر ، فيكون الأول حقيقيا ، والآخر إضافيا. (على سوابغ نعمائه) إشعار بأنه حمد لله وشكر واجب وعليه قوله :((الحمد رأس الشكر ، ما شكر الله عبد لم يحمده)) (1).
فإن قيل : أداء حق الشكر يحصل بمجرد الحمد ولو في آخر الكتاب. أجيب : بأن الغرض الأصلي من الافتتاح بالحمد ربط الحاضر - الذي هو سوابغ النعماء - وجلب المزيد المشار إليه بقوله تعالى ? لئن شكرتم لأزيدنكم?[إبراهيم 7] ومنه (2)التأليف ، فتقديم الحمد على المجلوب - الذي هو التأليف أولى.
صفحة ٦
فإن قيل (1): قوله الحمد لله إخبار بثبوت الحمد لله والإخبار عن ثبوت الشيء ليس إياه. أجيب : بأن الإخبار بثبوت جميع المحامد لله تعالى عين الحمد ، كما أن قول القائل :(الله واحد) عين التوحيد ، وبأن مثل هذا القول المذكور إخبار واقع موقع الإنشاء ؛ إذ الظاهر أن المتكلم به ليس بصدد الإخبار والإعلام ، لأن المخاطب به هو الله تعالى ،ففيه وضع الظاهر موضع المضمر (2) ومعنى الحمد لله الحمد لك يا رب ، فقصد المتلفظ به إنشاء تعظيم الله بوصفه بالجميل ، وإيجاده بهذا اللفظ ، والسوابغ جمع سابغة ، والسبوغ الشمول ، والسابغ الكامل الوافي ، ومنه إسباغ الوضوء ، والسوابغ الدروع الواقية ، والنعماء ما قصد به الإحسان والنفع جمع نعمة (1) وهي أصول وفروع ، فالأصول (2): خلق الحي ، وخلق شهوته ، وإكمال عقله ، وتمكينه من المشتهى ، أوما في حكمه - وهو الأعواض كذا قيل ، والفروع: لا تحصى ، قال الله تعالى ?وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ?[ النحل 18].وأصله نعماؤه السوابغ ، كقطيفة ، جرد فحذف الموصوف وهو نعماؤه ، وأقيمت الصفة مقامه ، فقيل على السوابغ ، فالتبس بكل سابغ فرد الموصوف ، وأضيفت الصفة إليه ، وفيه استعارة بالكناية ، لأنه شبه النعمة بالثوب فأثبت لها ما هو من لوازمه - وهو السبوغ - تخييلا ، وإضافته إليها قرينة ذلك. (وبوالغ آلائه) جمع ألى - بالفتح والقصر ، وقد تكسر الهمزة - بمعنى النعمة ، قال تعالى ?فبأي آلاء ربكما تكذبان?[ الرحمن ] والكلام فيه كما في سوابغ نعمائه. (وصلواته) جمع صلاة ، والمراد منها هنا المعنى المجازي وهو الاعتناء بشأن المصلى عليه وإرادة الخيرله (3) أو المراد بها الرأفة ، وهي أشد الرحمة ، واجتماع الرحمة معها في قوله تعالى ? أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة?[البقرة 157] على حد اجتماع الرحمة والرأفة في قوله تعالى ? إنه بهم رؤوف رحيم?[التوبة 117] (4) والضمير(1)لله تعالى. (على سيدنا) (2) لما كان أجل النعم الواصلة إلينا هو دين الإسلام ، وبه توسلنا إلى النعيم الدائم في دار السلام ، وذلك بواسطة الرسول ، أردف (3)الحمد لله بالصلاة على نبيئه ، و(السيد) من ساد قومه سيادة فهو سيد ، وزنه فيعل ، فيكون أصله سيودا قلبت الواو ياء ، وأدغمت فيها الأولى ، والإضافة هنا لتشريف المضاف إليه (محمد) عطف بيان من سيدنا ، أو بدل ، لأن نعت المعرفة (4)إذا تقدمها أعرب بحسب العوامل ، وأعربت المعرفة بدلا ، أو عطف بيان ، وصار المتبوع تابعا كقوله تعالى ? إلى صراط العزيز الحميد* الله?[إبراهيم 1 2] في قراءة الجر(5) (خاتم أنبيائه) صفة محمد إشارة إلى قوله تعالى? وخاتم النبيين ? [الأحزاب 40] فلا نبي بعده ، و(أنبياء) جمع نبي ، والنبي إنسان بعثه الله بشريعة ، والرسول أخص منه ، فهو إنسان كذلك يكون له كتاب وشريعة جديدة ، كذا عند القاسم وحفيده الهادي ، وقرره الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد (عليهم السلام) ، وقاضي القضاة ،(6) لقوله تعالى ?وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي?[ الحج 52] بالعطف المقتضي للتغاير وقوله وقد سئل عن الأنبياء ((مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا)) ، قيل : فكم الرسل منهم ؟ قال :((ثلاث مائة وثلاثة عشر)) (1) وقال الإمام المهدي (عليه السلام) وأبو القاسم (2)وغيرهما : بل هما سواء.
صفحة ١٠
قلت : ويضعف احتجاج الأول بالآية صدرها(3)وعلى الأول يكون بينهما عموم مطلق ، فكل رسول نبي ، ولا عكس ، وعلى الثاني مترادفان ، ولو قيل أن بينهما عموم من وجه لوجود الرسول بدون النبي كما في جبريل (عليه السلام)(4)والنبي بدون الرسول كما في من بعث إلى نفسه ، أو لتقرير شريعة غيره فقط ، واجتماعهما كما في نبينا لم يبعد ؛ اللهم إلا أن يقال الكلام مختص بالبشر ، فالأول هو الصواب فإن قلت : قوله تعالى ? ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك? [غافر 78] يقضي بعدم الحصر فيما ذكر(1). قلت : يحتمل أن الخبر بيان للمقصوص عليه في الآية فقط ، وأن يكون تعالى قد أخبره بالرسل كافة بعد هذه الآية الكريمة ، والله أعلم. والإضافة (2) لتعظيم المضاف إذ ضمير الغائب لله تعالى فيها أجمع ، ويجوز إعادته إلى الحمد بمعنى المحمود على طريق الاستخدام (3) كقول البحتري :
صفحة ١١
فسقى الغضا والساكنيه، وإن هم.... شبوه بين جوانحي، وقلوب(4) (وعلى آل سيدنا محمد) أكثر العلماء على إدخال على على الآل ردا على الإمامية فإنهم منعوا ذكر على بين النبي وآله ، وينقلون في ذلك حديثا :((من فصل بيني وبين آلي بعلى لم تنله شفاعتي)) وأصل آل أهل لمجيء تصغيره أهيلا ، وقيل : أول من آل إليه الأمر ، وأهل الرجل آله ؛ لأنه يؤول إليه خص استعماله بأولي الشرف والخطر ، وإضافته إلى المظهر كما فعل المصنف أكثر(1)
صفحة ١٢
والمذهب الصحيح في الآل ما ذهب إليه أهل سفينة النجاة وأتباعهم أنهم علي وفاطمة والحسنان ومن انتسب إلى الحسنين في كل عصر من مؤمنيهم (عليهم السلام) لقيام الأدلة التي صارت لاشتهارها كالأهلة مما لا يسعه هذا المقام (2) وسيأتي شطر صالح إن شاء الله تعالى في حجية إجماعهم من ذلك ما رواه الحاكم النيسابوري بإسناده إلى عبد الله بن جعفر قال : لما نظر رسول الله إلى الرحمة هابطة قال :((ادعوا آلي ، ادعوا آلي ادعوا آلي)) فقالت صفية : من يا رسول الله ؟ فقال :((أهل بيتي علي وفاطمة والحسن والحسين)) ، فلما جاؤوا إليه ألقى عليهم كساءه ، ثم رفع يديه ، ثم قال :((اللهم هؤلاء آلي ، فصل على محمد وعلى آل محمد)) وأنزل الله تعالى :?إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت?...الآية [الأحزاب 35]. وفي هذا الخبر رد على الكسائي وغيره في المنع من إضافة الآل إلى الضمير ، وعلى الإمامية في المنع من الفصل بين النبي والآل بعلى(1) - كما سبق -.
صفحة ١٣
(وأوليائه) جمع ولي خلاف العدو ، والمراد من والاه وناصره في الدين من الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى يوم الدين ، والضمير للنبي أردف الصلاة على النبي بالصلاة على الآل ؛ لأن حكم الصلاة عليهم حكم الصلاة (عليه السلام) ، لقوله :((لا تصلوا علي الصلاة البتراء )) (2)الخبر وفي حديث آخر :((من صلى صلاة لم يصل علي وعلى أهل بيتي لم تقبل منه)) وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) :((لو صليت صلاة لم أصل فيها على النبي وعلى أهل بيته لعلمت أنها لا تتم)) (وبعد:) أي بعد زمن الفراغ من الحمد والصلاة حذف المضاف إليه لكونه معلوما ، وبني على الضم ، ومحله النصب بأما المقدرة في نظم الكلام المحذوفة لتعويض الواو عنها اختصارا مع الربط الصوري (1)فالفاء في (فهذا) لأجلها (2)أوغير مقدرة والعامل ما يفهم من السياق مثل : أقول كذا (3)ذكره الجم الغفير من شراح مثل هذا المحل ، وفيه أنه ذكر الرضي أن حذف أما لا يطرد إلا إذا كان ما بعد الفاء أمرا ، أو نهيا ، وما قبلها منصوبا به ، أو بمفسر به ، فلا يقال : زيدا فضربت ، ولا زيدا فضربته بتقدير أما ، فيجوز أن تكون (4)لإجراء الظرف مجرى الشرط كما ذكر في نحو ?وإذ اعتزلتموهم?[ الكهف 16] وسيبويه في قولهم : زيد حين لقيته فأنا أكرمه ، والإشارة (1)إلى المرتب الحاضر في الذهب من المعاني المخصوصة ، أو ألفاظها (2)، أو نقوش ألفاظها ، أو المركب من اثنين منها ، أو من ثلاثتها (3)سواء كان وضع الديباجة قبل التأليف أو بعده ؛ إذ لا وجود لواحد منها في الخارج.
فإن قيل : نفي وجود النقوش في الخارج خلاف المحسوس. أجيب : بأن الخارج من النقوش لا يكون إلا شخصيا ، وليس المراد وصف ذلك الشخص بتلك الأوصاف ، وإنما الغرض وصف نوعه - وهو النقش الكتابي - أعم من أن يكون ذلك الشخص أو غيره مما يشاركه في ذلك المفهوم ، ولا شك في أنه لا حضور لهذا الكلي في الخارج ، فاستعمال لفظ الإشارة على سبيل المجاز تنزيلا للمعقول منزلة المحسوس تنبيها على ظهروه ، وترغيبا ، وتنشيطا
وهذا مبتدأ خبره (مختصر) أي قليل اللفظ كثير المعنى ( في علم (4) أصول الفقه) أي في بيان أو تبيين ، أوتحصيل ما به تحصل ملكته.
صفحة ١٥
فإن قيل : ما معنى ظرفية نحو البيان للألفاظ ؟. أجيب : بأنها مجازية إقامة للشمول العمومي مقام الشمول الظرفي ، ووجه الشمول وجود البيان بوجود الألفاظ ، ولا عكس (1)
صفحة ١٦
والأصول جمع أصل ، وهو لغة : ما يبتنى عليه غيره من حيث يبتني عليه ، فبقيد الحيثية خرج أدلة الفقه مثلا من حيث تبتني على علم التوحيد فإنها بهذا الاعتبار فروع لا أصول ، وهذا القيد لا بد منه في تعريف الإضافيات إلا أنه كثيرا ما يحذف لشهرة أمره ، ثم نقل الأصل في عرف الفقهاء والأصوليين إلى معان : مثل الراجح يقال الأصل الحقيقة والمستصحب يقال تعارض الأصل والظاهر كمدعي دين(1)،فالأصل عدمه ؛ إذ خلق بريا عنه،والظاهر صدق المدعي لإسلامه وديانته والقاعدة الكلية يقال لنا أصل وهو أن الأمر للوجوب والدليل يقال : الأصل في هذه المسئلة الكتاب والسنة ، وقد قامت القرينة هنا على أنه المراد ، لأن الإضافة (2)إلى الفقه تدل عرفا على أن المراد الدليل ، والابتناء يشمل الحسي كابتناء السقف على الجدران ، وأعالي الجدار على أساسه ، وأغصان الشجر على دوحته ، والعقلي كابتناء الحكم على دليله ، وبالإضافة إلى الفقه الذي هو معنى عقلي يعلم أن الابتناء ههنا عقلي ، فيكون أصول الفقه ما يبتني الفقه عليه ، ويستند إليه ، ولا معنى لمستند العلم ومبتناه إلا دليله
والفقه لغة : فهم المعنى الخفي. واصطلاحا (3) : اعتقاد الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية (4)وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
صفحة ١٧
(قريب المنال) خبر بعد خبر - أي مناله قريب - يظفر الطالب بفهم القواعد منه بسهولة في زمن قريب ، (غريب المنوال) (المنوال) في الأصل الخشبة التي يطوي عليها الحائك ما ينسجه ، فإذا أريد وصف شيء بالجودة وعدم النظير قيل هذا الشيء لم ينسج غيره على منواله من الثياب لانحطاطها عنه في الجودة ، والمراد هنا أنه مخالف لأساليب سائر كتب الفن (1) في ترتيبه وتهذيبه ، واختصاره وتقريبه (كافل لمن اعتمده إن شاء الله ببلوغ الآمال) أي متحمل ضامن من باب المجاز العقلي (2)والآمال جمع أمل ، وهو الترقب لأمر مرجو(3)(وارتقاء ذروة الكمال) (الارتقاء ) هو الارتفاع ، والذروة: بضم الذال المعجمة وكسرها ، وقد تفتح - رأس كل شيء.
صفحة ١٨
وقبل الشروع في مقاصد العلم أشار إلى تعريفه وضبط أبوابه إجمالا ليكون للطالب زيادة بصيرة ، لأن كل علم مسائل كثيرة تضبطها جهة واحدة باعتبارها يعد (1) علما واحدا يفرد بالتدوين ، ومن حاول تحصيل كثرة تضبطها جهة واحدة فالأولى أن يعرفها بتلك الجهة لتعذر معرفتها بغيرها ، أو تعسرها ، لأن الكثرة إن لم تكن محصورة لزم أن يستغرق أوقاته في تحصيل شرط الطلب - أعني تصور المطلوب - فيفوته ما يعنيه ، ويضيع وقته فيما لا يعنيه ، وإن كانت محصورة لزم أن يستغرق كثيرا من أوقاته في تحصيل شرط الطلب ، فربما لا يسع باقي الوقت لتحصيل المطلوب ، أو يمل عن تحصيل الشرط ، فيتقاعد عن الطلب ، ويلزمه الأمران ، فحده اللقبي - وهو العلم - الذي إذا لوحظ معناه الأصلي أشعر بمدح أو ذم ، وهذا يشعر بابتناء الفقه في الدين على مسماه ، فهو صفة مدح ، وخصه بالذكر دون الإضافي لأنه المقصود الأهم هنا
صفحة ١٩
فقال (هو) أي علم أصول الفقه ، يطلق تارة على المعلومات - أي القواعد المذكورة - وهو اصطلاح أكثر أصحابنا وأبي الحسين ، وتارة على العلم بها ، وهو اصطلاح أكثر الأشعرية والمصنف (علم) جنس يشمل كل علم بمعنى الملكة (بقواعد) أي بسبب معرفة قواعد (1) إن كانت الباء سببية أو علم القواعد نفسها إن كانت للتعدية وجمعها تنبيها على أنه لا يحصل بمعرفة بعضها فقط والقاعدة : حكم كلي ينطبق على جزئياته ليتعرف أحكامها منه كما يقال : الأمر للوجوب ، فهذا ينطبق على نحو :? أقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ?[ البقرة 43] و? أتموا الصيام?[ البقرة 187]? ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم? [ الحج 29] من صيغ الأمر ، وكما يقال في القياس مثلا : كل فرع شارك أصلا في علة حكمه وجب إلحاقه به ، وكل حكم دل عليه القياس فهو ثابت (يتوصل بها) فيه إشارة إلى أن هذا العلم وصلة إلى غيره ، وليس مقصودا بالذات ، والمراد من التوصل هو التوصل القريب المستفاد من باء السببية الظاهرة في السبب القريب ، فلا يرد ما قاله [الإمام] المهدي عليه السلام من دخول كل علوم الاجتهاد فيه ، فإنه ما من فن إلا ويتوصل به إلى الاستنباط المذكور ، لأن التوصل بسائر العلوم غيره إليه (1)ليس بقريب ؛ إذ يتوصل بالعربية مثلا إلى معرفة كيفية دلالة الألفاظ على مدلولاتها الوضعية ، وبواسطة ذلك يقتدر على استنباط الأحكام من الكتاب والسنة وكذا فإنه يتوصل بقواعد الكلام إلى ثبوت الكتاب والسنة ووجوب صدقهما (إلى استنباط) أي استخراج (الأحكام) جمع حكم ، وستأتي إن شاء الله تعالى (الشرعية) احتراز عن الحسية كالعلم بأن النار محرقة ، والاصطلاحية كالعلم بأن الفاعل مرفوع ، والعقلية كالعلم بأن المثلين والضدين لا يجتمعان (الفرعية) أي التي يتعلق بها كيفية عمل (1)واحترز بها من الأصولية. (عن أدلتها) متعلق باستنباط ، وبه يخرج علم المقلد ، وما علم من ضرورة الدين كالصلاة والصوم ، ومنه علم جبريل والرسول (2) (التفصيلية) احترز به عن الإجمالية كمطلق الكتاب والسنة فلا يستند في إباحة البيع مثلا إلى كون الكتاب قاطعا يجب العمل به ؛ بل إلى قوله ?وأحل الله البيع وحرم الربا?[ البقرة 275] فالحكم إنما يستخرج من الدليل التفصيلي لا الإجمالي - كما بينا - ، وفي هذا الحد نظر لاستلزامه الدور لتوقفه على الفرعية التي لا تعرف إلا به ، والأخصر ما ذكرته في المغني تأمل
وغايته العلم (3)بأحكام الله تعالى ، وهي سبب الفوز بالسعادة الدينية والدنيوية وموضوعه الذي يبحث عنه في الدليل (1)
صفحة ٢٢
واستمداده من الكلام لتوقف الأدلة على معرفة الصانع ، وصدق المبلغ ، إذ هو كلام في خطاب الله تعالى ، وخطاب رسوله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) ومن العربية (2)فيما تمس الحاجة إليه من الحقيقة والمجاز ونحوهما ، لأن الأدلة من الكتاب والسنة عربية ومن الأحكام (3)والمراد علمها بالحد ليمكن إثباتها أو نفيها بعد ذلك في أفراد المسائل ، كما إذا قيل الأمر للوجوب فإنه يستحيل القول بذلك مع جهل ماهيته وحكمه الوجوب على الكفاية ، لأن من نزلت به حادثة شرعية لا يخلوا إما أن يكون عالما أو عاميا إن كان عالما فلن يمكنه معرفة الحكم إلا بدلالة شرعية مفصلة ، وهي فرع على العلم بها على الجملة ، وإن كان عاميا ففرضه سؤال العالم ، والعالم لا بد له مما ذكرنا (1)
صفحة ٢٤
(وينحصر) العلم ، أوالمختصر ، أو المقصود منه ، أو المبحوث عنه ، فلا يضر خروج الخطبة عن الأبواب (في عشرة أبواب) والظرفية على تقدير عود الضمير إلى ما عدا المختصر ظاهرة ، وعلى تقدير عوده إليه يكون من انحصار الكل في الأجزاء ، مثل انحصار البيت في الجدران الأربعة والسقف ، فإن قلت : حصر الكل في الأجزاء لا يتصور ؛ لأن الحصر هو جعل الشيء في محل محيط به ، فالمحيط حاصر ، والمحاط به محصور مظروف ، وشأن الكل مع أجزائه على العكس ، فإن الكل يحيط بالأجزاء ، فكيف يكون محصورا فيها ؟. أجيب : بأن المراد من المختصر هو المفهومات ، ومن الأبواب العشرة هو العبارات بناء على أن الألفاظ قوالب المعاني وظروفها (1)ويجوز أن يكون المراد من الانحصار المذكور ههنا هو انحلال الكل إلى ما منه تركيبه (2)
ثم لما ذكر الأبواب أولا أراد أن يعيدها على سبيل التعريف
العهدي فقال:
[الباب الأول ]
(الباب) في الأصل بوب ، تحرك حرف العلة ، وانفتح ما قبله ، فقلت ألفا بدليل تصغيره على بويب ، وتكسيره على أبواب ، وهو لغة : معروف ، واصطلاحا : اسم لجملة من الكتاب مشتملة على عبارات معينة محدودة دالة على معان مخصوصة بفصول غالبا.
صفحة ٢٥
(الأول) من أبوب الكتاب. قال الزجاج : الأول لغة ابتداء الشيء ، ثم يجوز أن يكون له ثان ، وأن لا يكون نقله عنه جماعة منهم الواحدي في التفسير ، والله أعلم. (في) بيان (الأحكام) وإنما قدمها على الأدلة ، لأن الدليل من حيث هو دليل يتعذر إثباتها به مع جهل ماهيتها (الشرعية) المنسوبة إلى الشرع المستفادة منه ، إما بنقله لها عن حكم العقل ، كإباحة ذبح بعض الحيوانات ، فإن قضية العقل فيه التحريم (1) أو بالإمساك عنه ، كتحريم ذبح الخنزير ، فإنه مقرر لحكم العقل (2)مع صحة النقل (3) والشرع : ما ورد عن الله تعالى ، أوعن رسول الله حكمه (1) نصا أو كان وصلة إلى العلم به (2)أو ظنه كالقياس مما لم يكن للعقل فيه قضية مطلقة (3)وهي المبتوتة الضرورية ، وهي ما كان الحكم ووجهه فيها مقترنين ذكره في حواشي الفصول من باب النسخ عن الفقيه : قاسم(4) كشكر المنعم ، أو الاستدلالية (5)كمعرفة الله تعالى ، فهذا عقلي وإن طابقه السمع ، وهذا لا يجوز نسخه (و) في بيان (توابعها) من الصحة ونحوها ، وإنما سميت هذه توابع ولم تسم أحكاما ، لأنها صفات للأحكام ، ولذا يقال : واجب صحيح ومؤدى
صفحة ٢٧
[الأحكام الشرعية]
فالأحكام (1)خمسة (هي : الوجوب ، والحرمة ، والندب ، والكراهة ، والإباحة) لأن دليل الحكم إما أن يقتضي الفعل ، أو لا ، والأول إما أن يمنع من الترك أو لا ، الأول الوجوب (2)والثاني الندب ، وإن لم يقتض الفعل ، فأما أن يقتضي الترك أو لا إن اقتضى الترك ، فإما أن يمنع من الفعل أو لا ، فإن منع منه فحظر وإلا فالكراهة وإن لم يقتض الترك ، والمفروض أنه لم يقتض الفعل فلا محالة يكون مخيرا فيه - وهو الإباحة(3) (وتعرف) أي تحد (1)الأحكام وتوابعها (بمتعلقاتها) أي بحدود متعلقاتها - بفتح اللام - وهي الأفعال الاختيارية الشرعية
صفحة ٢٨
[الواجب]
(فا) لوجوب قد عرفته (2)ومتعلقه هو ا ( لواجب) فهو فعل اقتضاه الدليل ، ومنع من تركه ، وكذا سائر الأقسام قد أفاد التقسيم السابق حدودها وحدود متعلقاتها ولها حدود غير ما أفاده التقسيم ، ذكر منها ما سيأتي ،
فالواجب لغة: الساقط قال تعالى ? فإذا وجبت جنوبها?[ الحج 36] ومنه وجبت الشمس ، والثابت ومنه الإلزام ، يقال : وجب الشيء إذا لزم ، وأوجبه الله واستوجبه - أي استحقه - وغير ذلك (3)
واصطلاحا :(ما يستحق الثواب بفعله ، والعقاب بتركه) أي فعل يستحق المكلف به الثواب بفعله ، وبتركه العقاب ، فتخرج سائر متعلقات أقسام الحكم كلها ؛ إذ ليست كذلك ، ولا حاجة إلى زيادة قيد بوجه ما حتى يدخل الموسع ، والمخير ، والكفاية ؛ إذ لا يتصور ترك الموسع إلا بتركه في جميع وقته ، لأنه واجب في جزء ما من الوقت مطلقا ، ولا ترك المخير إلا بترك جميع آحاده المعينة ، لأن وجوبها على البدل ، وكذا الكفاية فإنه واجب على الكل مع سقوطه بفعل البعض أو واجب على البعض لا بشرط التعيين وعلى كلا التقديرين فلا يتصور تركه إلا بترك جميع الأشخاص وأيضا فإنه بزيادته ترد صلاة الساهي والنائم ، وصوم المسافر ، لأن تاركهما يستحق العقاب على تقدير انتفاء العذر ، والتفضي عنه تعسف ، والله أعلم.
صفحة ٢٩
تنبيه: وإنما امتنع تكليف الغافل الذي لا يدري كالنائم
والساهي ، لأن مقتضى التكليف بالشيء الإتيان به امتثالا ، وذلك يتوقف على العلم بالتكليف ، والغافل لا يعلم ذلك فامتنع تكليفه وإن وجب عليه بعد يقظته ضمان ما أتلفه من المال ، وقضاء ما فاته من الصلاة في زمن غفلته لدليله وكذا الملجى وهو من يدري ولا مندوحة له عن الوقوع عليه كالملقى من شاهق على شخص لعدم قدرته على ذلك ، لأن الملجى إليه واجب الوقوع ، ونقيضه ممتنع ، ولا قدرة على واحد من الواجب والممتنع.
[ الحرام]
(والحرام) يرادفه (1) القبيح والمحظور (بالعكس) اللغوي ،
فهو ما يستحق المكلف به العقاب بفعله ، والثواب بتركه.
[ المندوب]
(والمندوب) لغة : هو المدعو إليه. قال الجوهري :يقال : ندبه لأمر ، فانتدب - أي دعاه له فأجاب - سمي الفعل به لدعاء الشرع إليه ، وأصله المندوب إليه ، فتوسع بحذف حرف الجر فاستكن الضمير. واصطلاحا :(ما يستحق الثواب) أي فعل يستحق المكلف الثواب (بفعله) ، فيخرج الحرام ، والمكروه ، والمباح ، (ولا عقاب في تركه) ، خرج الواجب ، ولا حاجة إلى زيادة مطلقا لإخراج المخير والكفاية ، لأن العقاب عام لوروده في سياق النفي ، أو لأن الإطلاق يفهم من الإطلاق (2)والخلاف في كونه تكليفا أو لا لفظي ، لأن مبنى الثاني (3) على أن معنى التكليف إلزام ما فيه كلفة ، والأول (4) على أن معناه طلب ما فيه كلفة ، ولا شك أن المكلف إذا فعل المندوب رغبة في الثواب شق عليه ذلك كفعل الواجب ، فكان الخلاف عائدا إلى تفسير معنى التكليف ، ولم يتوارد النفي والإثبات على معنى واحد ، والله أعلم.
صفحة ٣٠
[ المكروه]
(والمكروه) لغة : خلاف المحبوب. واصطلاحا :(بالعكس) اللغوي من المندوب ، فهو ما يثاب على تركه ، ولا يعاقب على فعله ، فتخرج الأحكام الأربعة
إن قيل المباح قد يثاب تاركه ، ولا يعاقب فاعله ، أما
انتفاء العقاب عن فاعله فظاهر ، وإما إثابة تاركه فباعتبار فعله واجبا أو مندوبا.
أجيب : بأن قيد الحيثية معتبر في التعريفات ، فالمراد أنه يثاب تاركه من حيث أنه تاركه ، وإثابته فيما ذكر من حيث أنه فعل واجبا أو مندوبا ، لا من حيث أنه ترك مباحا وهو ظاهر ، وبقيد الحيثية أيضا لا يرد أن الفاسق لا يستحق الثواب بفعل الواجب والمندوب ، ولا بترك المحظور والمكروه ، لأن عدم استحقاقه الثواب بذلك إنما كان لانحباطه بملابسة المعاصي لا من حيث أنه فعل أو ترك ، والله أعلم وقد يطلق على الحرام كقول بعض أصحابنا : يكره النفل في الثلاثة الأوقات.
[ المباح ]
(والمباح) لغة : الموسع فيه. واصطلاحا :(ما لا ثواب ولا عقاب في فعله ولا تركه) (1)فتخرج الأحكام الأربعة ، ولو قال ما لا ثواب في فعله ولا تركه لكفى ، فتأمل. والإباحة حكم غير مكلف به ، إذ التكليف إلزام أو طلب ما فيه مشقة وكلفة ، ولا طلب في المباح ، وغير مأمور به ، لأن الأمر طلب ، والطلب ينافي الإباحة للزوم ترجيح المطلوب على مقابله ، واستلزام الإباحة تساوي الطرفين ومنع التساوي خلاف الضرورة والإجماع.
(والفرض والواجب مترادفان) لا فرق بينهما عند الجمهور (خلافا) للناصر والداعي عليهما السلام و( للحنفية) ففرقوا بينهما ، بأن الفرض قطعي دليله قطعي الدلالة والسند ، والواجب ظني دليله ظني الدلالة أو السند أو كليهما.
صفحة ٣١