وثم وراء النقل علم يدق عن ... مدارك غايات العقول السليمة ... وقال الغزالي: ليس معنى قوله: ((فقد رآني)) أنه رأى جسمي، وإنما المراد: أنه رأى مثالا، صار ذلك المثال آلة يتأدى بها معنى الذي في نفسي إليه، وآلة تكون تارة حقيقة، وتارة خيالية، والنفس غير المثال المتخيل، فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم- ولا شخصه، بل هو مثاله على التحقيق.
... وقال في بعض فتاويه: من رأى الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم- في المنام فلم ير حقيقة شخصه المودع روضة المدينة المنورة، وإنما رأى مثاله لا شخصه، وذلك المثال مثال روحه المقدسة عن الصورة والشكل. قال الطيبي: المعنى: من رآني في المنام بأي صفة كنت، فليبشر، وليعلم أنه قد رآني رؤى الحق، وكذا قوله ((فقد رآني)) فالشرط والجزاء إذا اتحدا دلا على الغاية في الكمال، أي: فقد رآني رؤيا ليس بعدها شيء، ولا يخفى طيب نشر هذا القول. وما أحسن ما قال:
ليته خصني برؤية وجه ... زال عن كل من رآه الشقاء
أو بتقبيل راحة كان لله ... وفي الله أخذها والعطاء
... وأما رؤيته - صلى الله عليه وآله وسلم - في اليقظة بعد موته، فلم تنقل عن أحد من الصحابة والتابعين، وقد اشتد حزن فاطمة - صلوات الله على أبيها وعليها - حتى ماتت كمدا بعده بستة أشهر، وبيتها مجاور لضريحه الشريف، ولم ينقل عنها رؤيتها له - صلى الله عليه وآله وسلم- في المدة التي تأخرتها عنه، وإنما يحكى ذلك عن بعض الصالحين عن أنفسهم أنهم رأوه في المنام، فرآه في اليقظة، أخذا بظاهر حديث: ((من رآني في المنام فسيراني في اليقظة)) قيل: والمنكر لذلك إما أن يكون ممن يؤمن بكرامات الأولياء أو لا. فإن كان الثاني فقد سقط البحث معه فإنه يكذب ما أثبتته السنة بالدلائل الواضحة، وإن كان الأول فهذه منها؛ لأن الأولياء يكشف لهم بخرق العادات عن أشياء في العالمين: العلوي والسفلي مع التصديق بذلك.
صفحة ٤٠