المتأمل لكتابنا هذا، إذا فكرت في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدًا للقوم الظالمين) أنك لم تجد ما وجدت لهذه الألفاظ من المزية الظاهرة، والفضيلة الزائدة، إلا لأمر يرجع إلى ارتباط بعضها ببعض، وأنه لم يعرض لها هذا الحسن الوافر، والشرف الكامل إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، وكذلك إلى آخرها.
وأن الفضل حصل من امتزاجها وتلاؤمها. فإن لحقك في ذلك أدنى شك فتأمل هل ترى لفظة منها، لو أخذت من مكانها، وأفردت من بين أخواتها، كانت مؤدية من الحسن ما تؤديه وهي في موضعها من الآية؟ فصح لنا من هذا القول أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي مفردة فقط. ومن أدل الدليل على ذلك، أن ألفاظ القرآن الكريم قد نطق بها العرب قبل نزوله على النبي، ﷺ، وليس فيه لفظة من الألفاظ (إلا) وقد تكلموا بها، وجاءت عنهم. ولولا ذلك لما كان عربيًا، لأنه لما نزل على لغة القوم وكلامهم، ونحن قد رأينا القرآن الكريم يفوق جميع كلامهم، ويعلو عليه مع كونه واردًا على لغتهم قد تكلموا بألفاظه ونطقوا بها، ثبت لنا من ذلك أن ألفاظ القرآن الكريم إنما تفضل سائر الكلام من حيث تركيبها ونظمها. وهي من حيث الانفراد مساوية لكلام العرب، حيث هي عين ألفاظهم ونفس كلامهم. وهذا مما لا شك فيه ولا ارتياب، فاعرفه.
ومما يشهد بذلك ويؤيده، أنك ترى اللفظة تروقك في كلام، وتزداد بها إعجابًا واستحسانًا، ثم تراها في كلام آخر، فتثقل عليك وتستكرهها. مثال ذلك أن لفظة الأخدع، قد جاءت في بيتين من الشعر، وهي في أحدهما لائقة حسنة، وفي الآخر ثقيلة مستكرهة، كقول الصمة بن عبد الله بن طفيل في الحماسة:
1 / 66