[البقرة: 111]. إلا أنه روي عن ابن عباس قول غير ذلك. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: { من دون الناس } يقول: من دون محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين استهزأتم بهم، وزعمتم أن الحق في أيديكم، وأن الدار الآخرة لكم دونهم. وأما قوله: { فتمنوا الموت } فإن تأويله: تشهوه وأريدوه. وقد روي عن ابن عباس أنه قال في تأويله: «فسلوا الموت». ولا يعرف التمني بمعنى المسألة في كلام العرب، ولكن أحسب أن ابن عباس وجه معنى الأمنية إذا كانت محبة النفس وشهوتها إلى معنى الرغبة والمسألة، إذ كانت المسألة هي رغبة السائل إلى الله فيما سأله. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس: { فتمنو الموت } فسلوا الموت { إن كنتم صادقين }.
[2.95]
وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن اليهود وكراهتهم الموت وامتناعهم عن الإجابة إلى ما دعوا إليه من تمني الموت، لعلمهم بأنهم إن فعلوا ذلك فالوعيد بهم نازل والموت بهم حال، ولمعرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه رسول من الله إليهم مرسل وهم به مكذبون، وأنه لم يخبرهم خبرا إلا كان حقا كما أخبر، فهم يحذرون أن يتمنوا الموت خوفا أن يحل بهم عقاب الله بما كسبت أيديهم من الذنوب، كالذي: حدثني محمد بن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد فيما يروي أبو جعفر، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس:
قل إن كانت لكم الدار الآخرة
[البقرة: 94] الآية، أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم } أي لعلمهم بما عندهم من العلم بك والكفر بذلك. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس: { ولن يتمنوه أبدا } يقول: يا محمد ولن يتمنوه أبدا لأنهم يعلمون أنهم كاذبون، ولو كانوا صادقين لتمنوه ورغبوا في التعجيل إلى كرامتي، فليس يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم. حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:
فتمنوا الموت إن كنتم صادقين
[البقرة: 94] وكانت اليهود أشد فرارا من الموت، ولم يكونوا ليتمنوه أبدا. وأما قوله: { بما قدمت أيديهم } فإنه يعني به بما أسلفته أيديهم. وإنما ذلك مثل على نحو ما تتمثل به العرب في كلامها، فتقول للرجل يؤخذ بجريرة جرها أو جناية جناها فيعاقب عليها: نالك هذا بما جنت يداك، وبما كسبت يداك، وبما قدمت يداك فتضيف ذلك إلى اليد، ولعل الجناية التي جناها فاستحق عليها العقوبة كانت باللسان أو بالفرج أو بغير ذلك من أعضاء جسده سوى اليد. قال: وإنما قيل ذلك بإضافته إلى اليد لأن عظم جنايات الناس بأيديهم، فجرى الكلام باستعمال إضافة الجنايات التي يجنيها الناس إلى أيديهم حتى أضيف كل ما عوقب عليه الإنسان مما جناه بسائر أعضاء جسده إلى أنها عقوبة على ما جنته يده فلذلك قال جل ثناؤه للعرب: { ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم } يعني به: ولن يتمنى اليهود الموت بما قدموا أمامهم في حياتهم من كفرهم بالله في مخالفتهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة، ويعلمون أنه نبي مبعوث.
فأضاف جل ثناؤه ما انطوت عليه قلوبهم وأضمرته أنفسهم ونطقت به ألسنتهم من حسد محمد صلى الله عليه وسلم، والبغي عليه، وتكذيبه، وجحود رسالته إلى أيديهم، وأنه مما قدمته أيديهم، لعلم العرب معنى ذلك في منطقها وكلامها، إذ كان جل ثناؤه إنما أنزل القرآن بلسانها وبلغتها. وروي عن ابن عباس في ذلك ما: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: { بما قدمت أيديهم } يقول: بما أسلفت أيديهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج: { بما قدمت أيديهم } قال: إنهم عرفوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي فكتموه. وأما قوله: { والله عليم بالظالمين } فإنه يعني جل ثناؤه: والله ذو علم بظلمة بني آدم: يهودها ونصاراها وسائر أهل الملل غيرها، وما يعملون. وظلم اليهود كفرهم بالله في خلافهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا يستفتحون به وبمبعثه، وجحودهم نبوته وهم عالمون أنه نبي الله ورسوله إليهم. وقد دللنا على معنى الظالم فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
[2.96]
يعني بقوله جل ثناؤه: { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } اليهود يقول: يا محمد لتجدن أشد الناس حرصا على الحياة في الدنيا وأشدهم كراهة للموت اليهود. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد فيما يروي أبو جعفر عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } يعني اليهود. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن أبي العالية: { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } يعني اليهود. حدثني المثنى، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. وإنما كراهتهم الموت لعلمهم بما لهم في الآخرة من الخزي والهوان الطويل. القول في تأويل قوله تعالى: { ومن الذين أشركوا }. يعني جل ثناؤه بقوله: { ومن الذين أشركوا } وأحرص من الذين أشركوا على الحياة، كما يقال: هو أشجع الناس ومن عنترة، بمعنى: هو أشجع من الناس ومن عنترة، فكذلك قوله: { ومن الذين أشركوا } لأن معنى الكلام: ولتجدن يا محمد اليهود من بني إسرائيل أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا. فلما أضيف «أحرص» إلى «الناس»، وفيه تأويل «من» أظهرت بعد حرف العطف ردا على التأويل الذي ذكرنا. وإنما وصف الله جل ثناؤه اليهود بأنهم أحرص الناس على الحياة لعلمهم بما قد أعد لهم في الآخرة على كفرهم بما لا يقر به أهل الشرك، فهم للموت أكره من أهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث لأنهم يؤمنون بالبعث، ويعلمون ما لهم هنالك من العذاب، وأن المشركين لا يصدقون بالبعث، ولا العقاب. فاليهود أحرص منهم على الحياة وأكره للموت. وقيل: إن الذين أشركوا الذين أخبر الله تعالى ذكره أن اليهود أحرص منهم في هذه الآية على الحياة هم المجوس الذين لا يصدقون بالبعث. ذكر من قال هم المجوس: حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: { ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة } يعني المجوس. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع { ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة } قال: المجوس. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: { ومن الذين أشركوا } قال: يهود أحرص من هؤلاء على الحياة. ذكر من قال: هم الذين ينكرون البعث: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد فيما يروي أبو جعفر، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا } وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت فهو يحب طول الحياة، وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي بما ضيع مما عنده من العلم.
صفحة غير معروفة