ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين
[الأعراف: 149] فأبى الله أن يقبل توبة بني إسرائيل إلا بالحال التي كرهوا أن يقاتلوهم حين عبدوا العجل، فقال لهم موسى: { يقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم } قال: فصفوا صفين ثم اجتلدوا بالسيوف. فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف، فكان من قتل من الفريقين شهيدا، حتى كثر القتل حتى كادوا أن يهلكوا حتى قتل بينهم سبعون ألفا، وحتى دعا موسى وهارون: ربنا هلكت بنو إسرائيل، ربنا البقية البقية فأمرهم أن يضعوا السلاح، وتاب عليهم. فكان من قتل شهيدا، ومن بقي كان مكفرا عنه. فذلك قوله: { فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم }. حدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: { باتخاذكم العجل } قال: كان موسى أمر قومه عن أمر ربه أن يقتل بعضهم بعضا بالخناجر، فجعل الرجل يقتل أباه ويقتل ولده، فتاب الله عليهم. حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: { وإذ قال موسى لقومه يقوم إنكم ظلمتم أنفسكم } الآية. قال: فصاروا صفين، فجعل يقتل بعضهم بعضا، فبلغ القتلى ما شاء الله، ثم قيل لهم: قد تيب على القاتل والمقتول. حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها برزوا ومعهم موسى، فتضاربوا بالسيوف، وتطاعنوا بالخناجر، وموسى رافع يديه. حتى إذا فتر أتاه بعضهم قالوا: يا نبي الله ادع الله لنا وأخذوا بعضديه يشدون يديه، فلم يزل أمرهم على ذلك حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيدي بعضهم عن بعض، فألقوا السلاح. وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم، فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى: لا يحزنك، أما من قتل منكم فحي عندي يرزق، وأما من بقي فقد قبلت توبته. فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة في قوله: { فاقتلوا أنفسكم } قال: قاموا صفين فقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم كفوا.
قال قتادة: كانت شهادة للمقتول وتوبة للحي. حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال لي عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: قام بعضهم إلى بعض يقتل بعضهم بعضا، ما يتوقى الرجل أخاه ولا أباه ولا ابنه ولا أحدا حتى نزلت التوبة. قال ابن جريج، وقال ابن عباس: بلغ قتلاهم سبعين ألفا، ثم رفع الله عز وجل عنهم القتل، وتاب عليهم. قال ابن جريج: قاموا صفين، فاقتتلوا بينهم، فجعل الله القتل لمن قتل منهم شهادة، وكانت توبة لمن بقي. وكان قتل بعضهم بعضا أن الله علم أن ناسا منهم علموا أن العجل باطل فلم يمنعهم أن ينكروا عليهم إلا مخافة القتال، فلذلك أمر أن يقتل بعضهم بعضا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما رجع موسى إلى قومه، وأحرق العجل وذراه في اليم خرج إلى ربه بمن اختار من قومه، فأخذتهم الصاعقة، ثم بعثوا. سأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم. قال: فبلغني أنهم قالوا لموسى: نصبر لأمر الله، فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يقتل من عبده، فجلسوا بالأفنية وسلت عليهم القوم السيوف، فجعلوا يقتلونهم، وبكى موسى وبهش إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم، فتاب عليهم وعفا عنهم، وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف. حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: لما رجع موسى إلى قومه، وكانوا سبعون رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه. فقال لهم موسى: انطلقوا إلى موعد ربكم، فقالوا: يا موسى أما من توبة؟ قال: بلى { فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم } الآية.... فاخترطوا السيوف والجرزة والخناجر والسكاكين. قال: وبعث عليهم ضبابة، قال: فجعلوا يتلامسون بالأيدي، ويقتل بعضهم بعضا. قال: ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله ولا يدري، ويتنادون فيها: رحم الله عبدا صبر حتى يبلغ الله رضاه. وقرأ قول الله جل ثناؤه:
وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين
[الدخان: 33] قال: فقتلاهم شهداء، وتيب على أحيائهم. وقرأ: { فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم }. فالذي ذكرنا عمن روينا عنه الأخبار التي رويناها كان توبة القوم من الذنب الذي أتوه فيما بينهم وبين ربهم بعبادتهم العجل مع ندمهم على ما سلف منهم من ذلك. وأما معنى قوله: { فتوبوا إلى بارئكم } فإنه يعني به: ارجعوا إلى طاعة خالقكم وإلى ما يرضيه عنكم. كما: حدثني به المثنى بن إبراهيم قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: { فتوبوا إلى بارئكم } أي إلى خالقكم.
وهو من برأ الله الخلق يبرؤه فهو بارىء. والبرية: الخلق، وهي فعيلة بمعنى مفعولة، غير أنها لا تهمز كما لا يهمز ملك، وهو من «لأك»، لكنه جرى بترك الهمزة، كذلك قال نابغة بني ذبيان:
إلا سليمان إذ قال المليك له
قم في البرية فاحددها عن الفند
وقد قيل: إن البرية إنما لم تهمز لأنها فعيلة من البرى، والبرى: التراب. فكأن تأويله على قول من تأوله كذلك أنه مخلوق من التراب. وقال بعضهم: إنما أخذت البرية من قولك بريت العود، فلذلك لم يهمز. قال أبو جعفر: وترك الهمز من بارئكم جائز، والإبدال منها جائز، فإذ كان ذلك جائزا في باريكم فغير مستنكر أن تكون البرية من برى الله الخلق بترك الهمزة. وأما قوله: { ذلكم خير لكم عند بارئكم } فإنه يعني بذلك توبتكم بقتلكم أنفسكم وطاعتكم ربكم خير لكم عند بارئكم لأنكم تنجون بذلك من عقاب الله في الآخرة على ذنبكم، وتستوجبون به الثواب منه. وقوله: { فتاب عليكم } أي بما فعلتم مما أمركم به من قتل بعضكم بعضا. وهذا من المحذوف الذي استغني بالظاهر منه عن المتروك، لأن معنى الكلام: فتوبوا إلى بارئكم، فاقتلوا أنفسكم، ذلكم خير لكم عند بارئكم، فتبتم فتاب عليكم. فترك ذكر قوله «فتبتم» إذ كان في قوله: { فتاب عليكم } دلالة بينة على اقتضاء الكلام فتبتم. ويعني بقوله: { فتاب عليكم } رجع لكم ربكم إلى ما أحببتم من العفو عن ذنوبكم، وعظيم ما ركبتم، والصفح عن جرمكم { إنه هو التواب الرحيم } يعني الراجع لمن أناب إليه بطاعته إلى ما يحب من العفو عنه. ويعني بالرحيم: العائد إليه برحمته المنجية من عقوبته.
[2.55]
صفحة غير معروفة