الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي
محقق
عبد الكريم سامي الجندي
الناشر
دار الكتب العلمية
رقم الإصدار
الأولى ١٤٢٦ هـ
سنة النشر
٢٠٠٥ م
مكان النشر
بيروت - لبنان
وَقَالَ آخر:
لعلِّيَ إنْ مالَتْ بِيَ الرِّيحُ مَيْلَة ... عَلَى ابنِ أبي ذُبَّان أَن يَتَندّما
وَقد تَأتي كَاد بِمَعْنى الْإِرَادَة لاشْتِرَاكهمَا فِي معنى المقاربة، كَقَوْلِك: كَاد الْحَائِط أَن يمِيل، وضربه حَتَّى كَاد أَنْ يَمُوت، أَي أَرَادَ أَن يمِيل وَأَن يَمُوت، وَقَالَ الشَّاعِر فِي هَذَا الْمَعْنى:
كَادَت وَكِدْتُ وَتلك خيرُ إِرَادَة ... لَوْ عَاد من وَصْلِ الحبيبةِ مَا مضى
وَقد قيل فِي قَول اللَّه: " إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أخفيها " أنَّ مَعْنَاهُ أكاد أقيمها، فَحذف. ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: أخفيها وَأَن الْكَلَام انْتهى إِلَى أكاد، وَأَنه وقف تَامّ، وأخفيها ابْتَدَأَ كَأَنَّهُ قَالَ: أخفيها لِتُجْزَى، لتجزي إِخْبَار بصلَة الْفِعْل الَّذِي هُوَ الْإخْفَاء.
وَقَرَأَ بَعْض الْقُرَّاء: أكاد أخفيها بِفَتْح الْهمزَة بِمَعْنى أُظْهرها، يُقَال: خفيت الشَّيْء إِذا أظهرته وأخفيته إِذا سترته، وروى النَّبيّ ﷺ أَنَّهُ: " لعن المختفي والمختفية " يَعْنِي النباش والنباشة، سميا بذلك لإظهارهما مَا ستر بالمواراة والإخفاء والدفن، وَرويت هَذِهِ الْقِرَاءَة عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر وَغَيره، وَمن هَذَا الْمَعْنى قَول الشَّاعِر:
دَابَ شَهْرَيْن ثُمَّ شَهْرًا دَبِيكَا ... بَاركين يَخفيان غَمِيرًا
وَقَالَ آخر:
فَإِن تَكْتُمُوا الداءَ لَا نَخْفهِ ... وإنْ تبعثُوا الْحَرْبَ لَا نَقْعُدِ
وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
خَفَاهُنَّ من أنفاقهن كأنّمَا ... خفَاهُنَّ ودقٌ من عشيٍّ مجلبُ
وخفيت وأخفيت جَمِيعًا يرجعان إِلَى أصل وَاحِد، خفيت أَي أزلت الْإخْفَاء وأخفيت أَي فعلت الْإخْفَاء، وَنحن نبين مَا فِي هَذِهِ الْكَلِمَة من الْقُرْآن والمعاني ووجوه التَّفْسِير وَطَرِيق الْإِعْرَاب والتأويل فِي موَاضعه من كتبنَا فِي الْقُرْآن إِن شَاءَ اللَّه.
وأمّا قَول جريج للصَّبِيّ: من أَبُوك؟ فقد يسْأَل السَّائِل فَيَقُول: كَيفَ من قَالَ من أَبوك والعاهر لَيْسَ بأب لمن أَتَت بِهِ البغيُّ من مَائه فِي حكم الشَّرِيعَة؟ قيل: فِي هَذَا وَجْهَان من التَّأْوِيل أَحدهمَا: أَنَّهُ جائزٌ أَن يكون فِي شَرِيعَة هَؤُلَاءِ الْقَوْم إِلْحَاق ولد العاهر بِهِ إِذَا حملت أمه بِهِ مِنْهُ.
وَالْوَجْه الآخر: أَن يكون جريج قَالَ هَذِه عَلَى وَجه التَّمْثِيل أَوْ كنى بِهِ تَنْزِيها لألفاظه عَلَى جِهَة التَّشْبِيه، فقد تُضَاف الْأُبُوَّة لفظا من طَرِيق التجاوز والاستعارة إِلَى من لَيست لَهُ ولادَة وَلَا نسب بَينه وَبَين من ينْسب إِلَيْهِ وَلَا قرَابَة، فَيُقَال: فلَان أَبُو الأرامل واليتامى إِذَا كفلهم وبرّهم ووصَلَهم، وَقَامَ بتدبير أُمُورهم وكَنَفَهُم كَفعل الْآبَاء الْوَالِدين لمن ولدُوا من الْبَنِينَ.
وَقد روى فِي بَعْض قراءات من رويت عَنْهُ الْقِرَاءَة من الْمُتَقَدِّمين " النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم وَهُوَ أَب لَهُم وأزواجه أمهاتهم " وَعبر عَنِ الْأزْوَاج بأنهن للْمُؤْمِنين أُمَّهَات
1 / 19