بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي وفقنا للتمسك بالعروة الوثقى والحبل المتين، وشوقنا بالترغيب في العمل إلى ما هو أبقى وأنجى من العذاب المهين، وهدانا إلى سلوك سبيل الطائفة المحقة الإمامية، وزادنا من الهدايا والعنايات، فكنا من الفرقة الناجية الاثني عشرية الذين خصهم الله سبحانه بأكمل العقل والحجى، فاتبعوا سنة أهل بيت النبوة ومصابيح الدجى وركبوا سفينة نوح التي من ركبها نجى (1) والصلاة والسلام على محمد وآله الكرام حجج الله على الأنام الذين فصلوا شرائع الإسلام وفصلوا الحلال والحرام وسنوا سنن الدين من الملك العلام ونهجوا لنا الطريق الموصلة إلى دار السلام، وأمروا بالتسليم والانقياد والاتباع ونهوا عن العناد والاختراع والابتداع، فنجى الذين سبقت لهم من الله الحسنى ووصلوا باتباع طريقتهم إلى المطلب الأقصى والمقصد الأسنى، واجتنبوا طريق أعدائهم وخالفوهم في أهوائهم وآرائهم.
وبعد: فيقول الفقير إلى الله الغني محمد بن الحسن الحر العاملي عامله الله بلطفه الخفي: لما رأيت كثيرا من ضعفاء الشيعة قد خرجوا عن طريق قدمائهم وأئمتهم في أحكام الشريعة وسلكوا مسالك أعدائهم المعاندين الذين تركوا الرجوع إليهم عليهم السلام في أحكام الدين، فابتدعوا لأنفسهم تسمية دينية فتسموا بالصوفية ولم ينتسبوا
صفحة ٢
إلى النبي والأئمة عليهم السلام، الذين هم خير البرية، فاستلزم ذلك موافقة الاعتقاد والأعمال من هؤلاء الضعفاء لأولئك الأعداء الأشقياء حيث كانوا يغرون الناس بإظهار التقوى واستشعار الزهد في الدنيا زيادة عما كان يظهره الأئمة عليهم السلام من ذلك، وناهيك به دليلا عن فساد سلوك تلك المسالك.
ثم سألني بعض الأصحاب عن حديث في الترجيع (1) وهو من جملة ما يتعلقون به من الشبهات، فألفت فيه رسالة تتضمن حل ما فيه من الإشكال وذكر جملة من التوجيهات وإبطال بعض ما يعتمدونه ويعتقدونه من التمويهات (2) فلما وقف عليها جماعة من الأصحاب التمسوا مني تأليف رسالة في هذا الباب تتضمن كشف أكثر تلك الخيالات وإبطال ما زخرفوه من المحالات وإن كان أكثرهم لا يرجى منه الاقلاع ولا يتصور منه التوبة والارتداع لما أشربت قلوبهم من حب هذا الابتداع ، لكن لينكشف ذلك لبعض أتباعهم ويمتنع باقي الشيعة حرسهم الله من أتباعهم ويوفقهم الله للإعراض عن الأغراض الدنية الدنيوية وينالوا السيادة بالسعادة والنشأة الأخرى الأخروية، فرأيت ذلك علي من أعظم الفروض الواجبة وحالت بيني وبينه العوائق المانعة والموانع الغالبة، ثم عاودني، فلم أجد بدا من الإجابة، فشرعت فيها راجيا من الله التوفيق للصواب والإصابة.
وسميتها الرسالة الاثني عشرية في الرد على الصوفية والله أسأل أن يسهل إتمامها على أحسن الوجوه وأن يهدي بها من يلتمس الهدى ويرجوه وهي مرتبة على
صفحة ٣
أبواب وفصول، ولا بأس بذكر فهرستها تقريبا لتداولها وتسهيلا لتناولها.
أما الأبواب فهي اثنا عشر:
الأول: في إبطال هذه النسبة وذمها.
الثاني: في إبطال التصوف وذمه عموما.
الثالث: في إبطال اعتقاد الحلول والاتحاد ووحدة الوجود.
الرابع: في إبطال الكشف الذي يدعونه وعدم اعتباره ونفي حجيته.
الخامس: في إبطال ما يعتقدونه من سقوط التكاليف الشرعية عنده.
السادس: في إبطال ما يعتقدونه عبادة من الجلوس في الشتاء وما ابتدعوه من الرياضة.
السابع: في إبطال ما يعتقدونه من أفضل العبادات من القتل (1) والسقوط على الأرض والاضطراب.
الثامن: في إبطال ما يعتقدونه كذلك من الرقص والصفق بالأيدي والصياح.
التاسع: في إثبات ما يبطلونه ويمنعون منه من السعي على الرزق وطلب المعاش والتجمل.
العاشر: في تحريم ما يستحلونه ويعدونه عبادة من الغناء.
الحادي عشر: في إبطال ما يفعلونه من الذكر الخفي والجلي على ما ابتدعوه.
الثاني عشر: في إبطال ما صار شعارا لهم من موالاة أعداء الله ومعاداة أولياء الله.
وأما الفصول:
ففيما يلحق بتلك المقاصد المقصودة وما يناسبها وهي اثنا عشر فصلا.
الأول: في تحريم الاقتداء بأعداء الدين ومشابهتهم ومشاكلتهم.
الثاني: في تحريم الابتداع في الدين.
صفحة ٤
الثالث: في ذكر بعض مطاعن مشائخ الصوفية وسادتهم وكبرائهم وما ظهر من قبائحهم وفضائحهم.
الرابع: في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامس: في تحريم تركهما والتقاعد عنهما.
السادس: في وجوب المجادلة في الدين والمناظرة لبيان الحق.
السابع: في وجوب مجاهدة أعداء الدين والمبتدعين مع الشرائط.
الثامن: في وجوب اجتناب معاشر أهل البدع ووجوب ترك مخالطتهم رأسا.
التاسع: في جواز لعن المبتدعين والبراءة منهم بل وجوبهما.
العاشر: في تحريم التعصب للباطل.
الحادي عشر: في عدم جواز حسن الظن بالعامة واتباع شئ من طريقتهم المختصة بهم.
الثاني عشر: في وجوب جهاد النفس والتوبة من الكفر والابتداع والفسق وسأذكر في جميع الأبواب والفصول في الاحتجاج على كل واحد من هذه المطالب والأصول اثني عشر وجها من الأدلة، أما من صريح العقل والاعتبار، أو من صحيح النقل والأخبار إن شاء الله تعالى.
وقد اخترت تقديم الاعتبارات العقلية غالبا كما قد اشتهر بين جماعة المتأخرين لأن الاحتجاج بها في الحقيقة على المخالفين أو على من هو أسوأ حالا منهم في سوء الاعتقاد وصعوبة الانقياد للأئمة المعصومين عليهم السلام ولا يخفى أن أكثر المطالب المذكورة من جملة الضروريات، وربما يعد بعضها من البديهيات فلا يحتاج إلى برهان وبيان، ولا يشك فيها أحد من أهل الإيمان، بل جميعا كذلك عند العلماء الكاملين والمخلصين من المؤمنين إذ كثيرا ما تختلف الضروريات النظريات بالنسبة إلى الناظرين، فما يكون نظريا عند قوم يكون ضروريا عند آخرين.
وأنا أذكر ما يخطر بالبال من الاحتجاجات في جميع هذه المقامات استظهارا
صفحة ٥
في تحقيق الحق من الباطل واحتياطا للتمييز بين الحالي والعاطل (1).
فلقد كثرت الشكوك والشبهات عند جماعة من التابعين لأهل الدين وكادت ظلمة ليل الظنون أن يمحور نور الشمس اليقين فقابل بين صحائف الماضين وصحاف الباقين واتق الله إن الله يحب المتقين (2).
فائدة ولنذكر الأسباب والوجوه التي اقتضت الالتزام بهذا العدد الشريف (12) هنا غالبا والتيمن والتبرك به، وقد ذكر بعضه جماعة من العلماء استشهادا واستدلالا على ما هو أعظم من هذا المطلب وجملة ما أوردوه في توجيه الالتزام بهذا العدد الشريف من الوجوه اثنا عشر.
الأول: إن الإسلام والإيمان مبنيان على أصلين حاصلان بكلمتين هما:
لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وآله، وكل واحدة منهما اثني عشر حرفا.
وكذا قوله عليه السلام: أنه لا نبي بعدي (3) وكذا جملة من أسماء الأنبياء عليهم السلام وأوصافهم كقولنا: آدم خليفة الله، نوح خالصة الله، إبراهيم الخليل، داود نبي الله سليمان بن داود، موسى كليم الله، عيسى روح الله، محمد حبيب الله سلام الله عليهم.
الثاني: قوله تعالى: ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر
صفحة ٦
نقيبا (1) فجعل عدة النقباء القائمين بهذه الفضيلة اثني عشر.
الثالث: قوله عليه السلام: لما بايع الأنصار ليلة العقبة: اخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا عدة نقباء بني إسرائيل، ففعلوا فكان ذلك طريقا متبعا وعددا مطلوبا.
الرابع: قوله تعالى (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) وقطعناهم اثني عشر أسباطا أمما (2) فجعل الأسباط الهداة إلى الحق اثني عشر.
الخامس: قوله تعالى: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) (3) ومعلوم أن الكلمتين الأوليين (الأولتين) اثنا عشر حرفا وكذا الأخيرتان مع ملاحظة تشديد الميم وما ثبت من تواتر النصوص (4) على الأئمة الاثني عشر عليهم السلام وكذا أسمائهم أو جملة من ألقابهم وأوصافهم كل واحد اثني عشر حرفا كقولنا: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فاطمة بنت محمد، الحسن المجتبى أبو محمد الحسن، الحسين الشهيد الحسين بن علي، الحسن والحسين، علي بن الحسين، سيد العابدين، الإمام الباقر، أبو جعفر بن علي، الإمام الصادق، جعفر بن محمد، الإمام الكاظم، أبو الحسن موسى، أبو الحسن الرضا: علي بن موسى الرضا، محمد بن علي تقي: أبو جعفر بن علي، علي بن محمد نقي، أبو الحسن علي، الحسن العسكري، أبو محمد الحسن، القائم المهدي محمد بن الحسن عليهم السلام (5).
صفحة ٧
السادس: إن مصالح العالم محتاجة إلى الزمان وكل واحد منهما: في وقت الاعتدال اثني عشر ساعة، فعلم أن نظام العالم موقوف على هذا العدد.
السابع: إن نور الشمس والقمر يهدي الخلق إلى طرقهم ومنافعهم وهما يسيران في البروج الاثني عشر، فظهر احتياج العالم إلى هذا العدد.
الثامن: قوله عليه السلام: الأئمة من قريش (1) وهذا الحديث الشريف اثنا عشر حرفا والذي عليه علماء النسب: إن كل من ولده النضر بن كنانة فهو قرشي (2) وبينه وبين النبي صلى الله عليه وآله اثني عشر أباهم أصل هذا الشرف الجليل ومنبع هذا المجد الأثيل وفروعه أيضا اثنا عشر هم الأئمة عليهم السلام.
التاسع: قوله تعالى: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله (3) فكانت شهور السنة اثني عشر وهي قوام العالم وفيها تقع التكاليف والعبادات.
العاشر: قوله تعالى: (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشر عينا) (4) فكانوا اثني عشر قبيلة وعدد العيون اثني عشر.
الحادي عشر: ما روي عنهم عليهم السلام أن أوصياء موسى عليه السلام كانوا اثني عشر، وكذا أوصياء عيسى، وكذا أوصياء جماعة من الأنبياء وإن خلفاء المهدي في زمانه يكونون اثني عشر.
صفحة ٨
الثاني عشر: ما ذكره بعض العلماء إن أقسام الرياح اثني عشر، وإن بدن الإنسان مركب من اثني عشر عرقا يتفرع عنها غيرها فظهر شرف هذا العدد وأن به قوام الدين والدنيا ونظام العالم ولذلك التزم به جماعة من العلماء في مصنفاتهم والله أعلم.
وقد آن الشروع في تفصيل ذلك الاجمال ولنبدأ بالأبواب لاشتمالها على المقصود بالذات، فأقول وبالله التوفيق:
صفحة ٩
الباب الأول في إبطال هذه النسبة وذمها بمعنى عدم جواز الانتساب الديني الصوف وأهله، ويدل على ذلك اثني عشر وجها:
الأول: عدم ظهور دلالة شرعية على وجوب هذه النسبة كما يدعون ولا على استحبابها ورجحانها، بل ولا على جوازها مع كونها من المهمات الدينية، لما يترتب عليها من الأحكام الكلية والاعتقادات الأصولية المباينة لاعتقاد الإمامية، فكيف جاز لهم أن ينتسبوا هذا الانتساب ويفرعوا عليه ما يلزمه ويدعوا وجوبه من غير حجة؟! ولا دليل ويبين حجية هذا الدليل ويقرره وجوه اثنا عشر:
أحدها: جزم العقل بأنه لا يقبل القول بغير دليل ولا الدعوى بغير بينة.
وثانيهما: إجماع العقلاء على مطالبة القائل بالحجة والمدعي بالبينة والفرق بين هذا وما قبله واضح بل لا تلازم بينهما وإن كثيرا من الأمور المجمع عليها لا يدل عليها العقل.
وثالثهما: قوله تعالى: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين).
(قل فأتوا بكتاب من عند الله) وغير ذلك من الآيات التي مضمونها مطالبة المدعي بالحجة والدليل.
ورابعهما: إن هذا الأمر على قولهم من أعظم مهمات الدين وأجل أركان الإيمان ويزعمون أن سبب النجاة منحصر فيه، وليس على الحق أحد إلا من قال به، ومثل ذلك
صفحة ١٠
لو كان حقا لظهر دليل قطعا عاديا، وقد صرح باستلزام عدم الدليل لعدم المدلول في مثل هذه الصورة جماعة من العلماء منهم المحقق في المعتبر (1) مع عدم علمهم به في غيرها.
وخامسها: إنه يمتنع عادة مع تمام شفقة النبي والأئمة عليهم السلام بالشيعة وكمال اعتنائهم بتقرير الشريعة أن لا يتعرضوا لهذا الأمر العظيم ويهملوه بغير دليل ويذهبوا إلى بيان الآداب وأحكام البول والجماع وغيرهما من الجزئيات. هذا مما لا تقبله العقول، فعلم أنه ليس بمأمور به شرعا، والأظهر ذلك منهم عليهم السلام قطعا لعدم المانع منه وعدم وجود التقية في إظهاره.
وسادسها: ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام لولده محمد بن الحنفية: واعلم يا بني أنه لو كان إله آخر لأتتك رسله ولرأيت آثار مملكته (2) ألا ترى إن فيه دلالة وإشارة إلى أن الأمور العظيمة يجب ظهور آثارها وشياع أخبارها، فهذا دليل لذاك وكل منهما دليل على أصل المطلب.
وسابعها: ما نقل متواترا من الأمر بطلب العلم ووجوبه وعدم جواز القول والعمل بغير العلم (3).
وثامنها: ما ثبت من النهي عن العمل بالظن وأنه لا يغني من الحق شيئا (4) فكيف يجوز العمل بغير دليل في الاعتقادات ونحوها من المهمات؟!!
وتاسعها: ما ثبت من وجوب الرجوع إلى أهل العصمة عليهم السلام في جميع الأحكام والمهام فعلم عدم جواز العمل بغير دليل، ولا يوجد عنهم ما يدل على الأمر بهذه النسبة (5).
صفحة ١١
وعاشرها: ما ثبت من عدم جواز التقليد في الأصول ومرجعهم في هذه النسبة إلى التقليد عند التحقيق وهي تتعلق بالأصول كما يأتي إن شاء الله تعالى.
وحادي عشرها: ما ثبت من وجوب الرجوع إلى رواة الحديث فيما رواه من الأحكام عنهم عليهم السلام (1) وهم مجمعون على إنكار هذه النسبة وفيما نقلوه دلالة على عدم جواز القول والعمل بغير دليل.
ثاني عشرها: ما ثبت أيضا من وجوب التوقف والاحتياط في كل ما يعلم حكمه وحصل فيه شبهة، فعلم عدم جواز العمل بغير دليل والله أعلم.
الثاني: ترتب المفاسد الشنيعة الدينية على هذه النسبة الشنيعة الدينية على هذه النسبة التي انتسب إليها الصوفية ومن المعلومات الواضحة أن ما ترتب عليه مفسدة واحدة دينية كان قبيحا شرعا ووجب تركه، فكيف ما يترتب عليه مفاسد كثيرة؟!
وهي تزيد على اثنا عشر، ولا حاجة إلى تعدادها، فقد عرفتها في فهرست الأبواب والفصول ويأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى.
الثالث: إن هذه النسبة في الحقيقة نسبة إلى أعداء الله وأعداء المعصومين عليهم السلام ومشاكلة لهم وسلوك لمسالكهم واقتداء بهم، فيجوز عند من يخاف الله أن ينتسب في الدين إلى أعدائه ويقتدى بهم في أفعاله وأقواله وآرائه وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يدل على تحريم ذلك.
الرابع: تتبع طريقة النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام والاقتداء بهم في أقوالهم وأفعالهم وتركهم وتقريرهم وإنكارهم فإنهم لم ينسبوا ولا أحد منهم ولا من شيعتهم هذه النسبة إلى قريب من زماننا هذا ولا أمروا بها ولا رخصوا فيها وإجماعهم عليهم السلام بل قول واحد منهم حجة.
الخامس: احتجاجهم عليهم السلام على الذين انتسبوا هذه النسبة وتشنيعهم عليهم وإظهارهم لعداوتهم في كل زمان كما يأتي بعضه إن شاء الله تعالى هنا وفي الباب
صفحة ١٢
الآتي والفرق بين هذا وما قبله ظاهر، فإن ذلك استدلال لسلوكهم لغير هذه الطريقة وهذا استدلال بتصريحهم بالاحتجاج والإنكار.
السادس: قوله تعالى: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا (1) الآية أجمع العامة والخاصة على أنها نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام وقوله تعالى: اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (2) نقل الفريقان أيضا إنها نزلت في أهل البيت. وقوله تعالى:
(بل ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (3) ويتبع غير سبيل المؤمنين (4) (ولا تتخذوا بطانة من دونكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة (5) وغير ذلك (6).
وبالجملة يستفاد من هذه الآيات خصوصا الأولى المشتملة على الحصر ومن مواضع أخر من الكتاب والسنة بمعونة ما مضى ويأتي عدم جواز الانتساب الديني إلى غيرهم عليهم السلام.
السابع: إجماع جميع الشيعة الإمامية واتفاق الفرقة الاثني عشرية على ترك هذه النسبة واجتنابها مباينة أهلها في زمن الأئمة عليهم السلام وبعده إلى قريب من هذا الزمان لم يكن أحد من الشيعة صوفيا أصلا كما يظهر لمن تتبع كتب الحديث والرجال وسمع الأخبار، بل لا يوجد للتصوف وأهله في كتب الشيعة وكلام الأئمة عليهم السلام ذكر إلا بالذم، وقد صنفوا في الرد عليهم كتبا متعددة ذكروا بعضها في فهرست
صفحة ١٣
كتب الشيعة (1) وقد نقل الاجماع منهم جماعة من الأجلاء يأتي ذكر بعضهم إن شاء الله فكيف جاز الآن لضعفاء الشيعة الخروج عن هذا الاجماع وعن طريقة أهل العصمة؟!
صفحة ١٤
قال بعض المحققين من مشايخنا المعاصرين: اعلم أن هذا الاسم وهو اسم التصوف كان مستعملا في فرقة من الحكماء الزايغين عن الصواب، ثم بعدهم في جماعة من الزنادقة وأهل الخلاف من أعداء آل محمد عليهم السلام كالحسن البصري (1) وسفيان الثوري (2) ونحوهما.
ثم جاء فيمن جاء بعدهم وسلك سبيلهم كالغزالي (3) رأس الناصبين لأهل البيت ولم يستعمله أحد من الإمامية لا في زمن الأئمة عليهم السلام ولا بعده إلى قريب من هذا الزمان فطالع بعض الإمامية كتب الصوفية، فرأى فيها ما يليق ولا ينافي قواعد الشريعة فلم يتجاوزه إلى غيره.
ثم سرى الأمر إلى تعلق بعضهم بجميع طريقتهم وصار من تبع بعض مسالكهم سندا لهم ثم انتهت الحال إلى أن جعل الغناء والرقص والصفق أفضل العبادات وصارت اعتقادهم في النواصب والزنادقة إنهم على الحق فتركوا أمور الشريعة وأظهروا للعوام حسن هذه الطريقة وساعدهم رفع المشقة في تعلم علوم الدين وأكثر التكاليف حتى أنهم يكتفون بالجلوس في مكان منفرد أربعين يوما ولا يحتاجون إلى شئ من أمور الدين وساعدهم ميل الطبع إلى اللذة حتى النظر إلى صور الذكور المستحسنة والتلذذ به، وأتعبوا أنفسهم في الرياضيات المنهي عنها في شرعنا لعل أذهانهم تصفو، وليت شعري لو حصل ذلك، فأي فرق بين المؤمن والكافر؟ فإن كفار
صفحة ١٥
الهند وغيرهم كذلك يخبرون بمثل ما يدعونه، بل بما هو أبلغ منه وأهل التسخير والشعبذة تظهر منهم ما يدعي هؤلاء وأهل الكرامات كانت تظهر منهم من غير هذه الرياضة وأهل التقوى لم يدعوا شيئا من ذلك.
ثم انتهى الأمر إلى أن صار التصوف غير مشروط بالعلم، بل بمجرد تغيير اللباس المتعارف عند أكثر أهل الناس وتلبيس الظاهر بذلك وترك الباطن أما فارغا أو حملوا مما يعلم الله وصار من زهده وصلاحه بطريق الشريعة المطهرة ممقوتا عندهم لأنه إذا سئل: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وهؤلاء يدعون أنهم يقولون: قال الله بلا واسطة وربما يقولون: قال رسول الله ويدعون المشافهة مع أن بينهما ألف سنة فما زاد (انتهى).
الثامن: ما رواه جماعة من الأصحاب في الكتب المعتمدة عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: يا علي أنا وأنت موليا هذه الأمة فمن انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله (1) ومن جملة ما رواه الصدوق رئيس المحدثين في كتاب من لا يحضره الفقيه وناهيك به بعد ما صرح بما صرح في أول كتابه، ورواه الكليني في الديات، وهذا الحديث الشريف كما ترى صريح في عدم جواز انتساب أحد من الأمة إلى غير مواليه واستحقاق من انتسب إلى غيرهم اللعن من النبي عليه السلام وغيره فكيف يجوز الانتساب الديني إلى الصوف وإلى أهله الذين كانوا أعداء الله ورسوله وحججه عليهم السلام بل لو لم يكونوا أعدائهم ولا مخالفين لهم في شئ لما كان الانتساب إليهم جائزا كما يدل عليه هذا الحديث وغيره من الأدلة.
التاسع: ما رواه شيخنا الجليل الشيخ بهاء الدين محمد العاملي في كتاب الكشكول قال: قال النبي صلى الله عليه وآله: لا تقوم الساعة حتى يخرج قوم من أمتي اسمهم صوفية ليسوا مني وإنهم يهود أمتي إلى أن قال: هم أضل من الكفار وهم أهل النار (الحديث).
صفحة ١٦
أقول: من نظر التصريحات السابقة والآتية علم أن كثيرا من مهمات الدين لم يرد فيها تصريح ومبالغة إلى هذه الغاية وذلك مقتضى الشرع حيث علموا عليهم السلام إن هذه الفتنة من أعظم الفتن الدينية وأقوى الشبهات عند ضعفاء الإمامية حيث إن المتقدمين والمتأخرين من الصوفية ما زالوا يغرون الناس ويخدعونهم بإظهار الزهد والورع والعبادة ليظهروا أن ذلك أقوى أسباب السعادة ثم في أثناء ذلك يزينون لهم تلك البدع التي تخرجهم من الدين القويم وتضلهم عن الصراط المستقيم كاعتقاد الحلول والاتحاد وغير ذلك حتى أنهم قد أوجبوا انقسام الإمامية قسمين كل منها يضلل الآخر وصار الأتباع يجالسون رؤساء الفريقين ويقبلون قول كل منهم والآخر يخرجون من الدين بالكلية نعوذ بالله من شر هذه البلية؟!
العاشر: ما أورده مولانا الفاضل الكامل العالم العامل ملا أحمد الأردبيلي في كتاب حديقة الشيعة (1) قال: نقل الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن مولانا علي بن محمد الهادي عليه السلام في جملة حديث طويل قال: الصوفية كلهم مخالفونا وطريقتهم مغايرة طريقنا وإن هم إلا نصارى أو مجوس هذه الأمة (الحديث).
أقول: فظهر من هذا ظهورا واضحا عدم جواز الاقتداء بهم والانتساب إلى طريقتهم ومذهبهم.
الحادي عشر: ما رواه في الكتاب المذكور (2) بإسناده عن الرضا عليه السلام قال:
لا يقول بالتصوف أحد إلا لخدعة أو ضلالة أو حماقة (3) وأما من سمى نفسه صوفيا للتقية (4) فلا إثم عليه.
صفحة ١٧
ورواه بإسناد آخر (1) وزاد فيه: وعلامته أن يكتفي بمجرد التسمية ولا يقول بشئ من عقائدهم الباطلة.
أقول: في هذا الحديث تصريح بتحريم هذه النسبة وعدم جواز هذه التسمية في غير وقت التقية ولا مجال إلى تأويله، وقد تضمن الحكم بثبوت الإثم على التسمية بالتصوف في غير التقية مع ملاحظة النهي في أول الحديث وفي آخره وهل يترتب الإثم إلا على المحرم؟! وفيه دلالة واضحة على أن الصوفية مخالفون للحق وإلا لم يكن لذكر التقية معنى.
الثاني عشر: إن هذه النسبة في الأصل وضعت للانتساب إلى الصوف وهو مذموم شرعا، فقد روي الكليني وغيره عنهم عليهم السلام: أنهم قالوا: لا يلبس الصوف والشعر إلا من علة (2).
وروي أيضا عنهم عليهم السلام أنهم قالوا: خير ثيابكم القطن الأبيض فليلبسه أحياؤكم وكفنوا فيه موتاكم (3).
فظهر أن الصوف ليس من خير الثياب فيكون مرجوحا مذموما مكروها (4) أو خلاف الأولى، وكفاه ذما وشوما ما ظهر من المفاسد المترتبة على ملازمته والانتساب إليه، فكيف يجوز الانتساب إلى شئ مذموم مرجوح شرعا واعتقاد تفضيله ورجحانه وهل ذلك إلا مخالفا وتغييرا لأحكام الدين؟!
وأعجب من ذلك أنهم يعتقدون انحصار الزاهد في لبسه وإظهاره واتخاذه شعارا تعللا (معللا - ظ) بما روي أن النبي صلى الله عليه وآله لبس الصوف أو كان يلبسه (5) مع أن ذلك
صفحة ١٨
إن ثبت لا دلالة فيه على جواز هذه النسبة فضلا عن رجحانها أو وجوبها وإلا لانتسب إليه وأمر بذلك، ولا ريب أن النبي والأئمة عليهم السلام لبسوا أكثر الملابس المباحة وأنواعها بحسب ما اقتضاه الحال، والقصد بيان الجواز والنص على نفي التحريم لأن البيان الفعلي أقوى من القولي وأرادوا الجمع بينهما غالبا ولا كلام في إباحة تلك الملابس، إنما الكلام في رجحانها وجواز الانتساب الخاص إليها.
فصل فإن قلت: قول الصدوق في عيون الأخبار وغيره: حدثنا فلان الصوفي وفي بعضها حدثنا فلان عن فلان الصوفي يدل على خلاف ما تقدم من أنه لم يكن أحد من الشيعة صوفيا؟
قلت: هذا يحتمل وجوها.
أحدها: أن يكون الصوفي هناك نسبة إلى بيع الصوف أو حياكته أو نحوهما لأن أكثر الرواة والعلماء كانت لهم صناعات وتجارات ينتسبون إليها ويعرفون ليتميزوا عمن يشاركهم في أسمائهم ولا قصور في ذلك ولا هو نسبة دينية ولا يترتب عليه مفسدة وجواز مثله معلوم قطعا وقد كان من أصحاب الأئمة عليهم السلام من ينسب إلى مثل هذا كالصيرفي والطاطري والشعيري والطيالسي والقلانسي وغيرهم، وفي ذلك رد على هؤلاء الصوفية المانعين من طلب الرزق لما هو مأثور من ثناء الأئمة عليهم السلام على جماعة منهم.
وثانيها: أن يكون نسبة إلى لبس الصوف من غير أن يكون اعتقادهم موافقا لاعتقاد الصوفية، إذ لم يكن معهودا كما يعلم بالتتبع، ومعلوم أن من أكثر من شئ أو لازمه حسن أن ينتسب إليه لغة وعرفا، وليست هذه نسبة دينية فتخرج عن موضع البحث.
وثالثها: أن يكون نسبة إلى قبيلة من قبائل العرب، فقد قال صاحب الصحاح:
صفحة ١٩
صوفه أبو حي من مضر وهو الغوث بن مراد بن طانحة بن إلياس بن مضر كانوا يخدمون الكعبة في الجاهلية ويجيزون الحاج أي يفيضون بهم وكان يقال في الحج أجيزي الصوفة وقال الشاعر:
حتى يقال أجيزي الصوفانا (انتهى) ومثله في القاموس إلا أنه غلط الجوهري في الاستشهاد بالبيت وقال إن الصحيح فيه الصفوانا.
ورابعها: أن يكون المذكورون صوفية بالمعنى المشهور الآن ويكونوا من العامة إذ هؤلاء غير معروفين بتشيع ولا تعديل وكثيرا ما يروى في مثل تلك المواضع عن مخالفين ومجاهيل لأن أكثرها مشتملة على أحكام معلومة كفضائل الأئمة عليهم السلام وثواب الأعمال ونحو ذلك.
وخامسها: على تقدير التنزل عن جميع ذلك نقول يمكن أن يكون هؤلاء صوفية شيعة لكنهم شذاذ مجاهيل لا عبرة بهم وهم بمنزلة النادر الذي لا حكم له ولا يدل تصوفهم لو ثبت على صحة التصوف ولا يمكن جعله سندا له إذ ليسوا بمعصومين ولا قولهم حجة وهل هم على ذلك التقدير إلا بمنزلة الواقفية (1) والفطحية (2)
صفحة ٢٠
والزيدية (1) بل الخطابية (2) والنصرية (3) (النصيرية - ظ).
فإن قلت: قد صنف الشيخ المفيد، كتابا في الرد على أصحاب الحلاج وقد كانوا شيعة وهو يدل على خلاف ما ادعيتموه.
قلت: أولئك فرقة شاذة أيضا قد أجمعت الشيعة على خروجهم عن الدين وعلى البراءة منهم ولعنهم ولعن رئيسهم بأمر الأئمة عليهم السلام كما يأتي إن شاء الله حتى قتل رئيسهم بإشارة الإمام عليه السلام فانقرضوا ولم يبق منهم إلا الشاذ.
فإن قلت: أهل التصوف ينقلون طريقتهم عن الأئمة عليهم السلام نقلا متصلا بأمير المؤمنين عليه السلام وقد نقل ذلك حتى الشيعة في كتب الكلام.
قلت: هذا لا يدل على صحة طريقتهم بل هو دال على بطلانها لأنهم ذكروا أن كل قسم وأهل كل علم وصناعة ومذهب ينتسبون إلى علي عليه السلام وينسبون مذهبهم وصناعتهم إليه ولم يثبت انتساب الصوفية ونحوهم ولا ترى لذلك ذكرا في نهج البلاغة ولا غيره وقد ذكروا في هذا المقام أن المعتزلة والأشاعرة وأصحاب المذاهب الأربعة كلهم ينتسبون إلى علي عليه السلام وينتهي علمهم إليه وهل يدل ذلك على
صفحة ٢١