ولن أكرر هنا أن الحقوق الدينية لا تعطي حقوقا في الأرض، وإلا كان للمسلم الأفغاني والصيني والإندونيسي حقوق في أراضي الحجاز، وهو ما لم يدعه مسلم عاقل أو رشيد.
ولن أكرر ما سبق وقلته في أعمالي المنشورة عن كون إسرائيلي اليوم أمرا يختلف تماما عن بني إسرائيل التوراتيين، وإلا كان على السيد نتانياهو أن يقدم لنا أهم وثيقة تؤكد تلك الحقوق، وأنه وفق منطقه هو عليه أن يقدم لنا شهادة إثبات نسب تعود به رأسا للنبي يعقوب المعروف بإسرائيل.
نعم نحن نعلم أن في الأزمنة الخوالي كانت هناك العقود المكتوبة بين أفراد مجتمعات الأمم المتحضرة لتؤكد الحقوق، أما القانون كما في مصر القديمة فقد كان للدنيا مثلا، ولكنا نعلم من توراة السيد نتانياهو أن أولئك الذين ينتسب إليهم لم يكونوا ممن يفكون الخط؛ لذلك عمل يعقوب مع خاله الآرامي رجمة حجارة لتكون علامة شاهدة على عقدهما أسماها «يجر سهدوثا»، وأعطى ابراهيم سبع نعاج لأبيمالك ملك جرار الفلسطيني وزرع شجرة أثل عند بئر سبع «لذلك سميت كذلك؛ أي إن بئر سبع سميت بهذا الاسم نسبة للنعاج السبع والقسم) كي تكون شاهدة على عقده مع أبيمالك حول ملكية أحد الآبار - وليس شيئا كالنيل مثلا - أو بالنص التوراتي «وأقام إبراهيم سبع نعاج من الغنم وحدها، فقال أبيمالك لإبراهيم: ما هي هذه السبع نعاج التي أقمتها وحدها؟ فقال إنك سبع نعاج تأخذ من يدي لكي تكون لي شهادة بأني حفرت هذا البئر؛ لذلك دعا ذلك الموضع بئر سبع لأنهما حلفا كلاهما هناك، فقطعا ميثاقا بئر سبع ... وغرس إبراهيم أثلا في بئر سبع» (سفر التكوين، 21: 28-31).
وهو ذات الأمر الذي تكرر مرة أخرى مع أبيمالك الفلسطيني لكن البطل هذه المرة لم يكن إبراهيم بل ابنه إسحاق، وكان النزاع حول البئر التي سميت بئر سبع أي بئر القسم/القسم الذي أقسموه على عهد غير مكتوب فهي تعني الرقم سبعة كما تعني أيضا القسم أو الحلف (انظر: سفر التكوين، 26: 22-23).
مجرد بئر كانت البداية، وحولها تناقضت رواية التوراة مما يشير إلى بطلان القصة بكاملها من أول سرد لها بكتاب ينعت بالمقدس.
نعم نحن نعلم أنهم لم يكونوا من بين الشعوب التي تعرف الكتابة حينذاك، حتى إن على ذمة التوراة بين إبراهيم وبين الله ليأخذ العهد الأعظم وهو المزعوم قد حدث على ذمة التوراة بين إبراهيم وبين الله ليأخذ أرض فلسطين من الله، كان بموجب عقد موثق مختوم بخاتم واضح، وكان أي ختم؟ وأي توثيق؟ كما تقول التوراة: «وقال الله لإبراهيم وأما أنت فتحفظ عهدي أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم، هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك، يختتن منكم كل ذكر في لحم غرلتكم (أي في القضيب الذكري) فيكون علامة عهد بيني وبينكم» (التكوين، 17: 9-11).
وبالطبع ليست تلك هي الوثيقة التي نطلبها من السيد نتانياهو ليؤكد الحقوق التاريخية التي يدعيها؛ فلا هو يستطيع إبراز تلك الوثيقة للإعلام العالمي، ولا أي محكمة يمكنها أن تأخذ بهذه الوثيقة المعتمدة بختم الطهارة (بالطبع هي غير الطهارة الثورية). ناهيك عن أنه إذ كان هذا الختم وتلك الوثيقة إعلانا عن امتلاك بئر سبع (البئر فقط وليس المدينة) فلا شك أن المطالبين بحق الملكية وما يملكون من صكوك إثبات لن تكفيهم آبار الدنيا (لعلماء النفس رأي في تلك القصة وهي عندهم تعبير عن الفعل الجنسي، فالقضيب معروف والبئر رمز الفرج).
والغريب في أمر نتانياهو أنه يؤكد حقوقه اليوم في فلسطين اعتمادا على حقوق الآباء الأولين وإقامتهم في فلسطين، رغم أن توراة السيد نتانياهو تؤكد وتعيد وتزيد أن أرومة العبريين إبراهيم ذاته كان غريبا على أرض فلسطين، وهو الأمر الذي ظل يكرره أخلافه من بعده، مما جعل كلام السيد نتانياهو غريبا غرابتهم على فلسطين. انظر معي يا سيد نتانياهو توراتك إذ تقول بلسان إبراهيم وأخلافه: (1) «فخرجوا معا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان» (تكوين، 11: 31).
أي إن القبيلة الإبراهيمية جاءت إلى فلسطين وافدة من أرض أخرى وبلاد أخرى، وقد أثبتنا في كتابنا «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول» أن أور الكلدانيين هذه تقع في بلاد أرمينيا الحالية ولا علاقة لها بالمنطقة. (2)
وقال الرب لإبراهيم: «اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك» (تكوين، 12: 1). (3) «أنا الرب الذي أخرجك من أور الكلدانيين ليعطيك هذه الأرض لترثها» (تكوين، 15: 7). (4) «لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان» (تكوين، 17: 7-8).
صفحة غير معروفة