وإليك مثالين على هذا، فقد أنبتت أمة الرومان على عهد جوليوس قيصر خطيبين بليغين ذربي اللسان، مستكملي البيان، أحدهما تميل فطرته إلى رفعة وطنه وسعادة قومه وهو سيشرون، وثانيهما مندفع بجبلته إلى الشرور وخراب الأوطان وشق عصا الاتحاد وإشعال جذوة العصيان، وهذا هو كاتلينا، فأما الأول فقد أبقى له التاريخ ذكرا مؤرخا ومثالا واضحا متبلجا؛ حيث وقف في المجلس يخطب ضد كاتلينا عدو وطنه ومفرق جامعة أمته بقوله: «حتام نصبر يا كاتلينا ونتحمل الإهانة وأنت لا تنثني عن غيك؟ أتظننا جاهلين ما فعلته وما تفعله؟! ولكن يا له من عصر تعيس، وجيل خبيث يعيش فيه المنافق الخائن! لا ، بل يدخل المجلس بوقاحة ليراقب أعماله ويعلم من من أعضائه المجتمعين يلزم إهلاكه. قد مضى زمن الشجاعة ومحبة الوطن، كيف لا وبوبليوس سيبيو وهو خارج عن دائرة الحكومة قدر أن يقتل من قبل تيبيريوس غراكس؛ لأنه أراد أن يلقي الشغب بين الشعب؟! ونحن القنصلين رئيسي الجمهورية ومدبري ممالك الدنيا نترك الآن كاتلينا على قيد الحياة وهو رجل خائن يريد أن يهلك العالم بالقتل والحريق.
أيها الآباء، إنني طبعت على الشفقة، ولكن ضميري يوبخني على التواني والإهمال في وقت أصبحت فيه بلادنا محاطة بالأخطار الهائلة، فاعلموا أن عدونا الألد الذي هو مقيم داخل أسوار المدينة، قد جهز جيشا جرارا يزداد كل يوم عددا وعددا، وهو محتل الديار الأترورية ومستعد للقتال ... إلخ.»
وأما الثاني فقد حفظ له التاريخ ذكرا ذميما، واستجر عليه أبد الدهر سخطا عظيما؛ لأنه جمع حوله نفرا من الشبان وممن لا عمل لهم ووقف يخطب فيهم، حاضا على القتل والنهب وحرق روما، بقوله: «قد ساءت يا قوم أحوالنا، وأصبح زمام الأحكام بأيدي بعض أنفس ظالمين، يتسلطون على أمم الأرض ويتمتعون بالأموال التي يسلبونها الملوك والأمراء، غير مبالين بالشعب كأن الشعب عبد خاضع طوعا أو كرها لما ينهون عنه ويأمرون به، فهبوا نخلع ثوب الذل ونمت شرفاء في ساحة القتال أو نبلغ المنى، واعلموا أن نجاحنا قريب وأكيد، وأن الحرية والأموال والفخار هي ثمر الانتصار، فبادروا إلى اجتناء ما طالما تمنيتموه.» فهذان الخطيبان المتدفقان كانا يتنازعان قلوب الأمة بفصاحتهما وذلاقة لسانيهما وتأثير صوتيهما، حتى انشعبت الأمة لعهدهما إلى شعبتين، وكان الفوز لسيشرون المخلص لوطنه والمتفاني في محبة ملته.
وإذا شئت أن تعرف كيف تؤثر الخطب البليغة في قلوب الناس فارجع إلى وقعة ذي قار لترى هانئ بن مسعود وقد وقف في قبيلة بكر بن وائل يحثها على مقاتلة جيوش كسرى من عرب وعجم، بقوله: «يا قوم، مهلك معذور خير من منجى مغرور، وإن الجزع لا يرد القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، والمنية خير من الدنية، واستقبال الموت خير من استدباره. فالجد الجد فما من الموت بد.» فانتصرت هذه القبيلة على جيوش كسرى الجرارة ومن والاها من قبائل العرب بما بعثه هانئ في رجالها من الحماس والنخوة بقوله هذا.
ومن أراد أن يعرف ما للخطابة من التأثير فوق ذلك، قلنا له: إن لويس السادس عشر وزوجته وولده بقوا أحياء مصونين من غارة الشعب الفرنسوي مدة حياة ميرابو؛ لأنه حازب الملكية في آخر حياته وانتصر لها انتصارا كبيرا، فلما مات ميرابو وتلاشى صوته المؤثر انبرى لامارتين لتأييد الشعب في مطالبه، وجاهر بتفصيل الحكومة الجمهورية، فأدت خطبته إلى قتل الملك وأهله وولده، وفوق هذا كله لا ننسى خطب غلادستون وسلسبوري، وهل يجهل المصريون أو يتجاهلون بعد ما ذكرناه هنا منزلة الخطابة؟! وهلا ينهض فريق من نبغاء الناشئين ويبحر إلى بلاد الغرب ليتلقف من أساليب خطبهم مثالا يجري على منواله.
والآن وجب علينا أن نذكر لهم طرفا من سيرة ذيموستين أشهر خطباء اليونان؛ ليروا كيف يجد ذو النفس الكبيرة حتى يصير ذا قدر كبير وخطر عظيم، فقد أحس بضعف في منطقه وقصور في لفظه قبل أن يشتهر أمره، فعمد إلى مكان منفرد لبث به وحيدا بضع سنين مشتغلا بالمطالعة والدرس وإصلاح ما كان يحول دون لفظه من الخلل الطبيعي، وقيل إنه ابتنى غرفة تحت الأرض وكان ينزل إليها مهتما بتحسين حركته وصوته ولفظه، وكان يبقى في تلك الحجرة أحيانا ثلاثة أشهر أو أربعة متوالية يحلق نصف شعره؛ ليتعذر عليه الخروج إذا حملته النفس الأمارة بالسوء عليه، وكان يتسلق أحيانا قمة الجبل حيث ينشد القريض بصوت جهوري، ويذهب أحيانا إلى شاطئ البحر فيعالج إصلاح لفظه بجعل الحصى في فمه، ويخاطب الأمواج حتى هان عليه بعد ذلك كله أن يدخل قاعات الخطب ويرقى المنابر حتى اقتاد زمام الحزب الكريم الذي كان يجتهد لتوصيد استقلال أثينا واليونان معا.
فهكذا ينبغي أن يفعل المصري الذي يرى نفسه كفؤا لأن يؤدي خدمة جليلة لوطنه، ويجد أن مقاله أهون شيء ينفع به وطنه. فإذا اجتمع لدينا عدد عديد من الخطباء المسمعين الذين يمكنهم أن يخطبوا في البلاد الأوروبوية، مبينين حالة مصر وفعال المحتلين بها، ويتهيأ لهم أن يسوقوا هذا الشعب الجامد بعصا التأثير البالغ إلى مواقف النشاط والإقدام والعمل، انتظرنا أن يكون لنا مستقبل سعيد.
1
أبو شادي
فقدان الخطابة من مصر
صفحة غير معروفة