مصداقها من الكثرة في عهده صلوات الله عليه فالجواب أن ما تحقق فيه أربعون كما كان في أول جمعة وقعت بالمدينة فإنهم كانوا أربعين، وكان المجمع بهم مصعب بن عمير قبل مقدم النبي ﷺ فهذا العدد هو أقل ما وقع اتفاقًا١ وبه علم أن صيغة المبالغة في "جمعة" المفيدة للكثرة تصدق على هذا المقدار قطعًا وأن الذي يراه غير مجزئ لا حجة معه لا من لغة ولا من نقل ومنه يعلم ملحظ الإمام الشافعي في اشتراطه أربعين كأنه لحظ أن الجمعة لا بد فيها من وفرة الجمع وكثرته لما تفيده مادتها، ثم رأى أن الصحابة اجتزءوا بهذا العدد وأقروا عليه وفي اجتزئاهم بذلك وعتباره تجميعًا فائدة كبرى لأنه لولا هذا البيان لكان في اللفظ إجمال يضطرب فيه الفكر سيما وقد يرى أن المقدار المذكور ينحط عن درجة الكفاية في التجميع لما تفهمه المبالغة. ولذا ذهب ذاهب إلى اشتراط ثمانين فباكتفاء الصحابة وإقرارهم على أربعين علم أن هذا العدد مما يصدق عليه اللفظ لغة وشرعًا. نعم قد يبقى النظر فيما انحط عن هذا المقدار هل يكفي لاحتمال صدق الصيغة عليه أو لا لأنه لم يؤثر إقامتها بأقل منه ولا أذن في عهده صلوات الله عليه وعهد خلفائه الراشدين لأهل القرى الصغيرة أن يجمعوا٢. الأمر فيه
_________
١ قلت: هذه واقعة حال: ووقائع الأحوال لا يستدل بها بحال، وعدم العلم بالشيء لا يستلزم العلم بعدمه كما هو معلوم لدى الفقهاء فما يدرينا أن يكون هناك حوادث وقعت لم نعلم بها، وهل لأحد أن يدعي الإحاطة بها بعد الله ﵎؟ أليس من الجائز أن يكون قد صلوا الجمعة في بعض القرى الصغيرة بأقل من هذا العدد. ثم لم ينقل إلينا، أو نقل ولم نطلع عليه؟ بلى. ومما يقرب ذلك أن عمر بن عبد العزيز ﵁ كتب إلى قاضيه في الجزيرة عدي بن عدي أيما أهل قرية ليسوا بأهل عمود ينتقلون فأمر عليهم أميرًا يجمع بهم. أخرجه ابن أبي شيبة في "باب من كان يرى الجمعة في القرى وغيرها" من "المصنف" "١: ٢٠٤: ١، ٢". "ناصر الدين".
٢ قلت: هذا على ما أحاط به المؤلف ﵀ أو من نقل عنه، وإلا لو اطلع على "مصنف ابن أبي شيبة" وما فيه من الآثار المنافية لذلك لما ادعى ذلك، فقد نقلت عنه آنفًا أمر عمر بن عبد العزيز كل قرية صغيرة أو كبيرة بلغ عددها الأربعين أو لم يبلغ أن يصلوا الجمعة. وسلفه في ذلك عمر بن الخطاب، فقد كتبوا إليه يسألونه عن الجمعة، فكتب جمعوا حيثما كنتم رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، وأطلق ولم يقيد وهو يعلم أن في القرى الصغيرة والكبيرة، وما يبلغ العدد فيها الأربعين وما لا يبلغ، فهو نص من الخليفة الراشد على عدم صحة اشتراط الأربعين، وهو الذي رجحناه في رسالتنا "الأجوبة النافعة" "ص٣٦-٣٨" ولذلك قال مالك: كان أصحاب محمد في هذه المياه بين مكة والمدينة يجمعون. "ناصر الدين".
1 / 56