وإلا فالأمر منوط برئيس العلماء ووجيههم عند الأمراء فإنه مسموع الكلمة مطاع الإشارة في ذلك مرهوب المقام بين العامة، فإذا أمر المبتدعين في المساجد بترك بدعتهم فإنهم يرضخون له رهبة منه. حتى إذا عانده أحد فإن له من الوجاهة ما يمكنه رفع ذلك، كأن يعلم والي البلدة أو حاكمها وهو ينفذ له مرامه، وذلك أن الحاكم يأمر رئيس الشرط أن يرسل من جنده من ينذر المبتدعين بأن من لم يقلع عن بدعته فإنه يودع في السجن، فإذا حضرت الشرط وأرهبت المبتدعين فلا تلبث البدعة أن تذهب كأمس الدابر وتصبح حديثًا من الأحاديث.
ولقد شاهدنا في عصرنا وما قبله أن المدرسين في الجامع الأموي كانوا يصلون العشاء جماعات متعددة كل مدرس يؤم تلامذته عند حلقته، وهكذا في رمضان فلا تحصى جماعات التراويح. ولا تسل عن التسابق في حلبة الاستعجال وأيهم يفرغ قبل، مما يؤسف كل عاقل، وهكذا بعد صلاة الجمعة في جماعات الظهر. فتراءى لمفتي الشام أن ينهي عن هذه البدعة -بدعة تقسيم المصلين وتفريق كلمة المجمعين- فأمر الفقهاء والمدرسين في هذا الجامع بالكف عن هذا التفرق والتفريق، وأن ينضموا للإمام الراتب فقط، فرضخ الكثير منهم وهدوا إلى نبذ تلك العادة السيئة؛ وأبى البعض فاستعان المفتي على دحر عناده ومحو إصراره بالوالي، فأوعز إلى رئيس الشرط فأرسل من ينهاه على إصراره ويحذره عاقبة استكباره، فلما رأى ما ليس في الحسبان استخذى واستكان، فشكرت الألسنة هذه الحسنة وبالله التوفيق.
ولا يزال كثير من الدمشقيين يذكرون ما كان في عهد والي سورية رشدي باشا الشرواني فإنه أمر بترك كثير من العوائد المبتدعة من الصياح في المساجد والأناشيد فيها، والجهر بالأوراد المشوش على المصلين، وضجة المنشدين في الجنائز، وما شاكل ذلك مما حمده العقلاء وشكروا سعيه المبرور فيه. إلا أنه بعد عزله "عام ١٢٨٢" ما لبثت تلك العوائد الموروثة أن عادت إلى شكلها الأول. ولا يخفى أن محوها متوقف على نظرة صادقة من الرؤساء وفقهم الله تعالى.
1 / 33