القسم الثاني
التحقيق
صفحة ١٦
بسم الله الرحمن الرحيم ... الحمد لله الأول بلا بداية ، والآخر بلا نهاية ، الواحد من غير عدد ، الباقي إلى غير غاية ولا أمد ، الذي خلق الخلق من حيوان وموات ، وفضل بعضهم على بعض درجات ، وخالف بين ألوانهم واللغات ، آيات تدلنا على وحدانيته وبينات ، تقودنا إلى فردانيته ، كما قال عز وجل : [ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ] (¬1) وبعث النبيين مبشرين ومنذرين بألسنة مختلفة ولغات شتى ، كل رسول بلسان قومه كما قال تعالى : [ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ] (¬2) ، حتى أفضت الرسالة إلى نبينا محمد عليه السلام ، فأبرزه في أشرف القبائل ، وأكرم المناصب ، وأرسله إلى الخلق كافة ، فضيلة اختصه بها من بينهم ، ودرجة فضله بها عليهم ، فأكمل به الرسالات ، وختم به النبوات ، وبعثه بأفصح اللغات ، وأعطاه كتابا سماه قرآنا ، ولما قد تقدم من الكتب مبينا وفرقانا ، فبلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، قائما بالحق ، ناطقا بالصدق ، حتى توفاه الله راضيا عنه مرضيا ، هاديا مهديا ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، والتابعين لهم بإحسان ، وسلم تسليما 0
... أما بعد 000
صفحة ١٧
فإنا وجدنا لغات الأمم أكثر من أن يحصيها أحد ، أو يحيط بها محيط ، كل أمة تتكلم بلسانها ، ولا يعرفون غير / لغتهم إلا القليل ، ليترجم بعضهم لبعض ووجدنا 2ب أفضل لغات الأمم كلها أربعة : العربية ، والعبرانية ، والسريانية ، والفارسية ؛ لأن الله أنزل كتبه على أنبيائه بالسريانية والعبرانية ، وروينا عن علي عليه السلام أنه قال : كان للمجوس كتاب بالفارسية 0 ورأينا أفضل اللغات الأربعة لغة العرب ، وهي أفصحها وأكملها ، ولم يحرص الناس على تعلم شيء من اللغات كحرصهم على تعلمها ، حتى أن جميع الأمم فيها راغبون ، وبالفضل لها مقرون ، وحتى أنهم نقلوا الكتب المنزلة مثل التوراة والإنجيل والزبور ، وسائر كتب الأنبياء إلى العربية ، وكذاك نقلوا كتب الأوائل ، من الفلسفة والطب والنجوم ، وغير ذلك ، ولم يرغب أحد من أهل القرآن والكتاب العربي في نقله إلى شيء من اللغات ، فإن الملوك وأهل الشرف من كل أمة قد رغبوا في نقل كتب لها مقدار صغير ، وخطر يسير إلى لغتهم ، فكيف بالقرآن الذي عظم الله شأنه ، وأعلى قدره ، وقد حاول بعضهم نقله ؛ فعسرعليهم ، فترجموا منه شيئا مثل [ بسم الله الرحمن الرحيم] (¬1) ، ومثل سورة الحمد ، على استحراج شديد ، ونقل بعيد ، وقال بعض العلماء باللغة : لو جهد الناس أن ينقلوا قوله تعالى: [ سيهزم / الجمع ويولون الدبر ] (¬2) وقوله : [ فانبذ إليهم على 3أ سواء ] (¬3) لما أمكن نقله على هذا الاختصار ، حتى يوسع الكلام فيه ، ويزال عن سننه ، فلغة العرب هي اللغة التامة الحروف ، الكاملة الألفاظ ، لم ينقص عنها شيء من الحروف ؛ فيشينها النقصان ، ولم يزد فيها شيء ؛ فتعيبها الزيادة ، وسائر اللغات فيها زيادة الحروف المولدة ، وتنقص عنها حروف هي أصلية ، والحروف التامة ثمانية وعشرون حرفا ، لا زيادة فيها ولا نقصان ، فمدار لغة العرب على هذه الحروف ، لم يزد عليها ، ولم ينقص عنها ، ولهذه الحروف أحياز (¬4) مختلفة ، ومدارج بعضها فوق بعض، فالحاء والعين والخاء والغين حيزها من الحلق ، والقاف والكاف حيزها اللهاة ، والجيم والضاد والشين حيزها شجر (¬5) الفم ، والصاد والسين والزاي حيزها أسلة اللسان (¬1) إلى أطراف الثنايا ، والطاء والتاء والدال حيزها الحنك (¬2) ينطبق اللسان ، والظاء والثاء حيزها اللثة ، والياء واللام والنون حيزها ذلق اللسان (¬3) إلى الشفتين ، والفاء والباء والميم حيزها الشفة ، والألف والياء والواو هوائية ، ليس لها جروس (¬4) ، ولا اصطكاك ؛ لأنها تنسل من تحت الحنك ، فهذه ثمانية وعشرون حرفا / مدارجها وأحيازها على ما ذكرنا ، 3ب
صفحة ١٩
وللغة العرب مع هذا الكمال فضائل ليست لسائر اللغات ، فإن لها قانونا يرجع إليه ، ومعيارا تعير به ، ومقياسا يقاس عليه ، فإذا شرد حرف عنهم ، أو اعوج عن سننه أو اشتبه ، رجعوا إلى قانونهم ، ووزنوه بمعيارهم ؛ فأقاموا درأه ، وقوموا عوجه لكي لا تبطل معاني الأسماء فتمحق عن اللغة ، وتدرس كما درست عن سائر اللغات ، فقد بطلت عن اللغة الفارسية أسام حين غلبت عليها العرب ، مثل قولهم الحق والباطل ، والصواب والخطأ ، وغير ذلك مما لا يوجد لها أسام بالفارسية ، ومثل هذا الخطل قد دخل على سائر اللغات 0 وقد كان لسان العرب فسد حين تعربت العجم ، واختلط اللغتان ، ولحن أكثر الناس في كلامهم ، فاستدرك ذلك أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ، فوضع للناس رسما في النحو ، أخذه عنه أبو الأسود الدؤلي (¬1) من الدؤل ، وأسس العربية ، وفتح بابها ، ونهج سبيلها ، ووضع فيها قياسا 0 ... حكى الأصمعي (¬1) قال : سمعت أبا عمرو بن العلاء (¬2) يقول : جاء أعرابي إلى علي عليه السلام ، فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، كيف تقرأ هذا الحرف ؟ ( لا يأكله إلا الخاطون ) ، كل والله يخطو ، قال : فتبسم علي عليه السلام ، فقال : يا أعرابي [ لا يأكله إلا الخاطئون ] (¬1) ، قال : صدقت والله يا أمير المؤمنين / ما كان الله ليظلم عباده ، ثم التفت إلى أبي الأسود4أ الدؤلي ، فقال : إن الأعاجم قد دخلت في الدين كافة ، فضع للناس شيئا يستدلون به على صلاح ألسنتهم ، ورسم له الرفع والنصب والخفض ؛ فأخذ عن أبي الأسود يحيى بن يعمر (¬2) ، وكان مأمونا عالما ، وميمون الأقرن (¬3) ، وعنبسة الفيل (¬4) ، ونصر بن عاصم الليثي (¬5) ، ثم كان بعدهم عبد الله بن إسحاق الحضرمي (¬6) ، وكان أول من شرح النحو ، ومد القياس ، وشرح العلل (¬1) ، وكان معه أبو عمرو بن العلاء ، وأخذ يونس (¬2) عن أبي عمرو ، ومن بعدهم الخليل ابن أحمد (¬3) ، وأبو زيد (¬4) ، وسيبويه (¬1) ، والأخفش (¬2) ، فهؤلاء الأئمة في هذا اللسان ، ثم بنى على ذلك من جاء بعدهم من العلماء باللغة ممن ثقفت له الفطن ، حتى جعلوا له ديوانا يفزع إليه ، ويعتمد عليه ، فإذا وجدوا اللحن في كلامهم ردوه إلى ذلك المعيار ؛ فوزنوه به ، فقوموه ، وهذا ليس للأمم ، وهو علم جسيم ، له خطر عظيم ، ونظرنا في السمات التي وسمت العرب بها كلامها من الخفض والنصب والرفع ؛ فوجدناهم أدخلوا ذلك للإيجاز في القول ، والاكتفاء بقليله ، الدال على كثيره ، فقالوا : ضرب أخوك أخانا ، فدلوا برفع أحد الأخوين ، ونصب الآخر على الفاعل والمفعول به ، ولو كان مخرج الكلامين واحدا ، فقيل : ضرب أخوك أخونا ، أو أخاك أخانا ، لم يعلم السامع أيهما الضارب ، ومن المضروب ، وكذلك سموا معنيين باسم واحد ، فاجتمع لهم التوسعة في الكلام ، والإيجاز في القول ، من ذلك الضرب / كلمة واحدة تحتها تفسير بوجوه ، فقالوا للضرب في الوجه : 4 ب لطما ، وفي القفا : صفعا ، وفي الرأس : شجا إذا دمي ، فكان قولهم : لطم فلان فلانا أوجز من قولهم : ضربه على وجهه ، وقولهم : صفعه أوجز من قولهم : ضربه على قفاه ، فوسموا الحرفين كلاهما بسمة ، فعبرت عن كلمتين 0
صفحة ٢٥
... فالنحو معيار جميع كلام العرب ، ما كان منثورا ومنظوما ، وبالنحو يرتل كلام الله الذي هو القرآن ، فيعرب كل حرف منه به ، ويقوم عليه ، ومعنى النحو : القصد والحذو ، ويقال : ينحو ذلك النحو ، أي يحذو ذلك الحذو ، ويقال : أخذ نحوه إذا قصد قصده ، فكأنهم يقيموه نحوا ؛ لأنهم حذوا بعضه حذو بعض 0 ... ثم لهذه اللغة العروض الذي يقوم به الشعر خاصة ، فيعرف استقامته من انكساره ، ويميز سالمه من مزاحفه ، ويوزن به وزنا ؛ فيبين تقطيعه وأفاعيله وأعاريضه وضروبه ، وقد كان الخليل بن أحمد الفرهودي أول من استخرج العروض ، فاستنبط منه ومن علل النحو ما لم يستخرجه أحد ، ولم يسبق إليه ؛ فوضع له أصولا ، وقسم الشعر ضروبا ، وسماه بها ، وجعل لتلك الأقسام دوائر وأسطرا ، وبناه على الساكن والمتحرك من أحرف الكلمة ، والخفيف والثقيل ، وسمى الشعر بأسماء ، مثل : الطويل ، والبسيط ، والمديد ، والوافر،
/ والكامل ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والسريع ، والمنسرح ، والخفيف5أ والمضارع ، والمقتضب ، والمجتث ، والمتقارب ، إلى سائر ما رسم فيه ؛ فاستتب له فيه الأمر ، وانقاد عليه القياس ، فوزن به الشعر وزنا سويا ، وسماه عروضا ، يعني أنه راض به الصعب من الشعر الملتوي عن وجهه حتى قومه ، ثم إن للغة العرب ديوانا ليس لسائر لغات الأمم ، وهو الشعر ، الذي قد قيدوا به المعاني الغريبة ، والألفاظ الشاردة ، فإذا احتاجوا إلى معرفة حرف مستصعب ، أو لفظ نادر التمسوه في الشعر الذي هو ديوان لهم متفق عليه ، مرضي بحكمه ، والشعر هو الكلام الموزون على روي واحد ، المقوم على حذو واحد ، قد حذي البيت بالبيت حذو النعل بالنعل ، وإنما سموه شعرا لأنه الفطنة بالغوامض من الأسباب ، وسموا الشاعر شاعرا ؛ لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره من معاني الكلام وأوزانه ، ومنه قولهم : ليت شعري ، أي ليتني أشعر به ، وسموا الكلمات المنظومة المؤلفة بعضها إلى بعض موزونا قافية ، أي أنه الكلام الذي يقفو بعضه بعضا على مثال واحد ، ومعنى القصيدة أنها الكلمة التي ملئت بالمعاني ، وكثرت فيها الألفاظ المستحسنة ، يقال : ناقة قصيدة أي ممتلئة كثيرة الشحم سمينة 0 ...
صفحة ٢٦
/ ولم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حاجته 5ب وإنما قصدت القصائد ، وطول الشعر على عهد عبد المطلب ، وعهد هشام بن عبد مناف ، وما روي لعاد وثمود وحمير وتبع فغير صحيح (¬1) ، فمن الشعر الصحيح القديم قول زهير بن جناب الكلبي (¬2) لبنيه (¬3) : ( الكامل المجزوء )
أبني إن أهلك فقد أورثتكم مجدا بنيه
وجعلتكم أولاد سا دات زنادكم وريه
من كل ما نال الفتى قد نلته إلا التحيه (¬4)
والموت خير للفتى فليهلكن وبه بقيه
من أن يرى الشيخ البجا ل يقاد يهدى بالعشيه
صفحة ٢٧
ولمعدي كرب الحميري من آل ذي رعين، وكان قد عمر (¬5) : (الوافر) أراني كلما أفنيت يوما أتاني بعده يوم جديد (¬1)
يعود بياضه في كل يوم ويأبى لي شبابي ما يعود
... ويقال : أول من قصد القصائد ، وذكر الوقائع مهلهل بن زهير الكلبي في قتل أخيه كليب ، قتلته بنو شيبان ، واسم مهلهل ربيعة (¬2) ، وقال أبو عبيدة (¬3) :
صفحة ٢٨
اسمه عدي ، وسمي مهلهلا لهلهلة شعره كهلهلة الثوب ، ويقال لاختلافه واضطرابه ، ويقال لبيت قاله (¬1) ، وهو: ( الكامل )
صفحة ٢٩
لما توعر في الكراع هجينه هلهلت أثأر جابرا أو صنبلا / ثم كان امرؤ القيس ، وهو أول من ابتدع في الشعر أشياء كان السابق إليها6أ من استيقاف صحبه في الديار ، وذكر الطلول ، وشبه النساء بالظباء ، والخيل بالعقبان والعصا ، وقيد الأوابد ؛ فاتبعه الشعراء على ذلك ، واستحسنوه منه ، ولما أراد الله من صيانة هذه اللغة ، وادخارها إلى الوقت الذي أنزل بها كتابه وبعث بها رسوله عليه السلام ، ألهمهم فتكلموا بالشعر الرصين المحكم ، من غير أن يعرفوا عروضا أو نحوا ، حتى أبرزوه في ذكر الإحسان والمآثر ، ومدح الملوك والنبلاء ، وفي ذكر المثالب والسباب ، وهجاء أهل الضغائن ، وفي الوقائع والحروب ، ونشر كل شاعر محاسن أيام قبيلته ، ومفاخرها ، ومساوئ أهل الشنآن والبغضاء ، واستفتحوا كلامهم بذكر النسيب ، وبسطوه بصفات الديار والقفار ، والنجع والأمطار ، ونعت الخيل والإبل والوحش ، وغير ذلك مما يطول ذكره ؛ فتقيدت به الألفاظ العربية ، والمعاني اللطيفة ، وحفظه الرواة ، ودونوه ، فرواه السلف للخلف ، واصطلح أهل المعرفة على صحة أصول اللغة فيه ، فرغب في تعلمه أهل الهمم ، وصار ديوانا لهم في الجاهلية ، عليه يعتمدون ، وبحكمه يرتضون / وصار الشعراء فيهم بمنزلة الحكام ، يقولون ؛ فيرضى قولهم ، 6 ب ويحكمون فيمضي حكمهم ، وكان علقمة بن علاثة (¬1) ، وعامر بن الطفيل (¬2) تحاكما إلى هرم بن قطبة الفزاري ؛ فاحتجر عن الحكومة بينهما ، وقد ساق كل واحد منهما معه إبلا لينحرها عند الحكومة ، ومع عامر أعشى قيس ، ومع علقمة الحطيئة ، قد حضرا ليقول كل واحد منهم في صاحبه عند النفور ، ويذكر فضله ؛ ليخلد على الدهر ، فلما امتنع هرم من الحكومة ، انتدب الأعشى ، فكان أدهى من الحطيئة ، فأنشد قصيدة نفر فيها عامرا على علقمة ، قال فيها : ( السريع )
علقم لا لست إلى عامر الناقض الأوتار والواتر
قد حكمتموه فقضى بينكم أبلج مثل القمر الباهر
لا يأخذ الرشوة في حكمه ولا يبالي غبن الخاسر
صفحة ٣١
فقام أصحاب عامر إلى الإبل فنحروها ، وقالوا نفر عامر ، وطارت له على علقمة بقول الأعشى ، من غير حكومة هرم 0 ... وروى حماد بن زيد عن ابن عون (¬1) عن ابن سيرين (¬2) ، قال : قال عمر بن الخطاب رحمة الله عليه : كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم غيره ، فجاء الله بالإسلام ، فلما كانت الفتوح ، واطمأنت العرب بالأمصار ، وراجعوا رواية الشعر لم يؤولوا إلى ديوان مدون ، ولا كتاب مكتوب ، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل ، فحفظوا بعضا ، وذهب عنهم كثير منه (¬3) 0 فكان الشعر في الجاهلية على ما روي عن / أبي عمرو بن العلاء أنه 7 أقال : كانوا بمنزلة الأنبياء فيهم ؛ لأن العرب لم يكن في أنديتهم كتاب يرجعون إليه ، ولا حكم يأخذون به ، وكان الشعر عندهم علما لا علم فوقه ، وكان هذا أول ما نشأ الشعر ، ثم رغب الملوك في اصطناع الشعراء ؛ لما وجدوا في الشعر من المنافع ؛ فأعطوهم العطايا السنية ، فدعاهم ذلك إلى أن خلطوا الباطل بالحق ، وشابوا الكذب بالصدق ، فقالوا في الممدوح ما ليس فيه ، فنزلوا رتبة عن تلك الدرجة ، ثم نزل القرآن بتهجين الشعر ، حين شبه الكفار القرآن به ، فقال عز وجل تكذيبا لقولهم : [ وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ] (¬1) وقال : [ والشعراء يتبعهم الغاوون ] (¬2) فقيل في تفسير هذا : إنهم الشعراء الذين هجوا رسول الله ، مثل كعب بن الأشرف (¬3) ، وابن الزبعرى (¬4) ، وغيرهما قبل إسلامهما ممن آذوا رسول الله بهجائهم ، والغاوون هم الذين اتبعوهم من كفار قريش ، ثم استثنى المؤمنين منهم ، فقال : [إلا الذين آمنوا] (¬1) يعني عبد الله بن رواحة ، وحسان بن ثابت وغيرهم ، نصروا رسول الله بلسانهم ، ودفعوا عنه بشعرهم ، فلولا ما في الشعر من النفع والضر لما استثنى الله المؤمنين ، ولا جعلهم ممن انتصروا للرسول عليه السلام ممن ظلمه بشعره ، فقال : [وانتصروا من بعد ما ظلموا ] (¬2) فهجن ما تخرصوه من الكذب ، وما لفظوا به من الكفر بهجائهم رسول الله ، ولم يهجن غيره من الشعر ، ولا أسقط ما فيه من النفع ، ولا أبطل ما فيه من الحكمة ، فقد أنشد النبي صلى الله عليه وسلم (¬3) : " من الطويل "
حي ذوي الأضغان تسب قلوبهم ... تحيتك (¬4) القربى فقد يرقع النعل
/ وإن دحسوا (¬5) بالود (¬6) فاعف تكرما وإن غيبوا عنك الحديث فلا تسل 7ب
فإن الذي يؤذيك منه سماعه وإن الذي قالوا وراءك لم يقل
صفحة ٣٤
فقال النبي عليه السلام: ( إن من الشعر حكمة، وإن من البيان سحرا ) (¬7) 0 وكان النبي عليه السلام في منزلته من الله ، ومحله من النبوة ، وفضله على جميع الأنبياء يستحسن الشعر ، ويستنشده ، ويغضب من قبيل الشعر ، ويقبل عليه ، ويعفو به عن المخطئين ، ويقبل منهم التوبة ، ويعطي على قيل الشعر ، ويأمر حسان بأن يهجو قريشا ، وأن يأتي أبا بكر ليخبره بمعايبهم ، وكان أبو عزة الجمحي (¬1) قد هجاه ، فأسر يوم بدر كافرا ، فقال : يا رسول الله إني ذو عيال وحاجة فامنن علي ، من الله عليك ، قال : نعم على أن لا تعين علي ، يعني بشعره ، قال فعاهده وأطلقه ، ثم قال : " من الطويل"
ألا أبلغا عني النبي محمدا بأنك حق والمليك شهيد
ولكن إذا ذكرت بدرا وأهلها تأوه مني أعظم وجلود (¬2)
صفحة ٣٥
وعاد في هجائه ثم أسر يوم أحد ، فقال : يا رسول الله من علي ، فقال عليه السلام : ( لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ، والله لا تمسح عارضيك بمكة ، وتقول : خدعت محمدا مرتين) (¬3) 0 فقتله ، وقتل هبيرة بن أبي وهب (¬4) وكان شاعرا شبب بنساء رسول الله ، وبكى قتلى بدر 0 وتوعد عبد الله بن الزبعرى ، وكان قد رثى قتلى بدر ، ثم أسلم ، فمدح النبي عليه السلام ، فقبل منه ، وعفا عنه ، وأسلم فقبل إسلامه 0
... وكان كعب بن زهير هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم / فكتب إليه 8أ أخوه بجير بن زهير أن رسول الله قد قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ، ويؤاخذه بشعره ، فأقدم عليه ، فإنه لا يقتل أحدا أتاه مستسلما ، فجاء متنكرا ، وأنشده مادحا له بقصيدته التي يقول فيها (¬1) : " من البسيط "
أنبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول
وهي كلمة طويلة ، وكساه النبي عليه السلام بردة اشتراها منه بعد ذلك معاوية ، وهي التي يلبسها الخلفاء في الأعياد إلى اليوم 0
... فهذا ما روي عن النبي عليه السلام في شأن الشعر والشعراء ، وكان كثير من الصحابة يقولون الشعر ، وقد روي عن أبي بكر ، وعمر ، وعلي ، وغيرهم 0
صفحة ٣٦
... وإنما استعان النبي عليه السلام بالشعراء لأن العرب من أهل الجاهلية لم يعرفوا كتابا يفزعون إليه ، ولا حكما يقتدون به أجل عندهم من الشعر والشعراء ، ففزعوا إلى الشعراء عند ظهور النبي عليه السلام ، وحملوهم على هجائه ، وذم ما جاء به من الإسلام ، فاستمالوا قلوب العرب إلى ما طبعوا عليه ، فقابل رسول الله شعراءهم بشعراء من المسلمين ؛ فردوا عليهم ، وثبتوا قول رسول الله عليه السلام ، فكان رد الشعراء عنه نصرة له ، ومعونة عليهم ، فلما اتصل من الدين النظام ، وظهرت كلمة النبي عليه السلام ، وأجابته العرب ، وخمد الباطل ، وبطل الاقتداء بالشعراء ، واستغني عنهم ، صاروا أتباعا بعد أن كانوا متبوعين ، فقصدوا الملوك وأولي الثروة ؛ فتملقوهم ، وتضرعوا إليهم ، وتكسبوا بالشعر ، فاستهان الناس بهم / وقلوا في عيونهم، فجروا على ذلك في صدر الإسلام وبعده برهة 8 ب من الدهر ، ونشأ فيهم شعراء مطبوعون ، ليس لهم قرائح الأولين من شعراء الجاهلية والمخضرمين ، فاعتادوا المسألة ، وجعلوها صناعة ، فلما طال ذلك ملهم الناس ، وبرزت العطايا ، وصار الشعر ضعيفا هزلا ، بعد أن كان حكما فصلا ، فبقي النفع بالديوان الأول ، والاحتجاج به على الكلام المختلف فيه ، والقول المتنازع في تأويله ، ولولا ما بالناس من الحاجة إلى تعليم اللغة ، والاستعانة بالشعر على غريب القرآن ، وغريب الحديث ؛ لبطل الشعر وانقرض ذكر الشعراء ، ولعفا الدهر على آثارهم ، ولم يحتج أحد ممن شاهد التنزيل ، وسمع ألفاظ الرسول إلى ذلك ؛ لأنهم قوم عرب مطبوعون على الفصاحة ، ومعرفة اللغة ، واحتاج إليه من بعدهم ؛ لأن الإسلام انتشر ، واختلطت اللغات ، قال الزهري (¬1) : إنما أخطأ الناس في كثير من تأويل القرآن لجهلهم بلغة العرب 0 ... وقد حث النبي وأصحابه على تعلم اللغة والإعراب ، فروى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال : ( أعربوا القرآن ) (¬1) ، وقال عمر بن الخطاب (¬2) : تعلموا إعراب القرآن كما تعلمون حفظه ، وقال الحسن البصري (¬3) : إن الرجل ليقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك فيها0
صفحة ٣٨
فلما كان كذالك راض الناس أنفسهم بتعلم العربية ، ولم يجدوا إلى ذلك سبيلا أوضح من الشعر ، فحفظوا دواوين الشعراء ، فبقي الشعر الأول الصحيح المعاني / مستعملا محفوظا 0 ... ... ... ... ... 9أ وروى أبو عبيدة بإسناد له عن عكرمة (¬1) ، قال : رأيت ابن عباس وعنده نافع بن الأزرق (¬2) ، وهو يسأله ، ويطلب منه الاحتجاج باللغة ، فسأله عن قول الله [ والليل وما وسق ] (¬3) فقال : وما جمع ، ألم تسمع إلى قول الشاعر : (الرجز) إن لنا قلائصا حقائقا مستوسقات لو يجدن سائقا (¬1)
وسأله عن قوله " [والتفت الساق بالساق] (¬2) فقال : الشدة بالشدة ، فسأله عن الشاهد فأنشده (¬3) : "من الطويل"
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
صفحة ٤٠
في مسائل كثيرة مشهورة عند أهل النقل (¬4) 0 ... ونحن ذاكرون في كتابنا هذا بعون الله وتوفيقه معاني أسماء ، واشتقاقات ألفاظ وعبارات عن كلمات غريبة ، يحتاج الفقهاء إلى معرفتها ، ولا يستغني الأدباء عنها ، وفي تعلمها نفع كثير، ونبدأ بذكر أسماء الله تعالى وصفاته ، وذكر معانيها ، وما يجوز أن يتأول منها ، ثم نتبع ذلك بذكر أسماء لها ذكر في الشريعة ، فنذكر معانيها واشتقاقاتها ؛ لأن أرفع درجات العلماء ، وأجل مراتب الأدباء ، معرفة أسماء الأشياء ، والعلم بحقائقها ، فإن الله تعالى أظهر فضيلة آدم بأن علمه [الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين 0 قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ] (¬1) وإنما صار الفضل في معرفة أسماء الأشياء ؛ لأن كل شيء يعرف باسمه ، ويستدل عليه بصفته ، والصفة تقوم مقام / الاسم ، وتكون خلفا منه ، والله تعالى يعرف بأسمائه ، 9ب وينعت بصفاته ، ولا درك للمخلوقين إلى غير ذلك ، وصفاته أسماؤه ، كقولك : الرحمن الرحيم ، هما من صفاته ، وهما أسماؤه ، وكذلك أسماء المخلوقين وصفاتهم ، فكل شيء يعرف باسمه ، ويستدل عليه بصفته من شاهد يدرك ، وغائب لا يدرك ، وربما يدعى الشيء باسم لا يعرف اشتقاقه من أي اسم هو ، بل يكون مصطلحا عليه ، قد خفي على الناس ما أريد به ، ولأي شيء سمي بذلك الاسم ، كقولك : الفرس والحمار والجمل والحجر ، وأشباه ذلك ، ومن الأسماء أسماء مشتقة من معان قد فسرت العلماء اشتقاقها ومعانيها ، كقولك : آدم ، قالوا : إنما سمي بذلك لأنه أخذ من أدم الأرض، والإنس سمي بذلك لظهوره ، والجن لاختفائه ، ويكون اسم بمنزلة الصفة ، كقولك : محمد ، مشتق من الحمد ، والحسن ، مشتق من الحسن ، والحمد والحسن مصطلح عليهما ، وعلى هذا كل اسم مشتق من غيره ، فالأول مصطلح عليه ، والمصطلح عليه لا يجوز أن يكون مشتقا من آخر ، ولا يعرف معناه إلا الله تعالى ، ومن الأسماء ما يجر معنيين ، كقولك : الزكاة ، قالوا : هو من النمو والزيادة ، يقال : زكا الزرع إذا طال ، ويكون من الطهارة ، قال الله : [قد أفلح من زكاها] (¬1) أي طهرها ، ومن الأسماء ما يجر ثلاثة معان أو أكثر ، كقولك : الدين ، يكون الطاعة ، ويكون الجزاء ، ويكون الحساب ، ويكون العادة ، ومن الأسماء ما هي قديمة في كلام العرب ، واشتقاقاتها /10 أمعروفة ، ومنها أسام دل عليها رسول الله صلى الله عليه في هذه الشريعة ، ونزل بها القرآن ، فصارت أصولا في الدين ، وفروعا في الشريعة ، لم تكن تعرف قبل ذلك ، وهي مشتقة من ألفاظ العرب ، وأسام جاءت في القرآن ، لم تكن العرب تعرفها ، ولا غيرهم من الأمم ، مثل : تسنيم ، وسلسبيل ، وغسلين ، وسجين ، والرقيم ، وإتبرق ، سجيل ، وغير ذلك ، وزعم قوم أن في القرآن شيء من ألفاظ العجم ، مثل : طه ، واليم ، والطور ، والربانيون ، والزيتون ، والصراط ، والفردوس ، وغير ذلك ،وأن بعضها بالسريانية ، وبعضها بالرومية ، وبعضها بالفارسية ، وهذا خطأ عظيم ، والصواب في ذلك والله أعلم أن يقال : هذه حروف أصلها أعجمية إلا أنها سقطت إلى العرب ؛ فعربتها بألسنتها ، وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها ، فصارت عربية ، ثم نزل القرآن بها 0 ... ومن أسماء الأنبياء في كتاب الله : إبراهيم ، وإسماعيل ، وموسى ، وعيسى ، إنما هي بالعبرانية ، أو بالسريانية : أبروهم ، وأشمويل ، وميشا ، وأيسوا ، فعربتها العرب ، فهذه الأسماء أعجمية الأصول ، عربية الألفاظ ، فمن قال : إنها أعجمية ، فقد صدق ، ومن قال : إنها عربية ، فقد صدق ، لما ذكرنا ، ومن ذلك : المؤمن ، والمسلم ، والمنافق ، والكافر ، لم تكن العرب تعرفها ؛ لأن الإسلام والكفر والنفاق ظهر على عهد رسول الله ، وإنما كانت العرب تعرف الكافر كافر نعمة ، وتعرف المؤمن من جهة الأمان ، والمنافق فلا ذكر له في لغة العرب ، قال الله في المسلم : / [ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ] (¬1) 10 ب فيجوز أن يكون سماهم بتلك اللغة باسم كان معناه الإسلام ، لأن الله أنزل صحف إبراهيم بالسريانية ، وكان إسماعيل هو الذي تكلم بالعربية ، ولم يوجد اسم الإسلام في كلام العرب ، ولا كان قبل مبعث النبي ، وإنما نزل القرآن بلغة قريش ، وهم من ولد إسماعيل ، فقد دل على أن إبراهيم لم تكن لغته العربية ، وإن الذين سماهم المسلمين إنما هو بلغته ، ومثل ذلك كثيرة في الشريعة ، لا تعرفها العرب على هذه الأصول ، مثل : الأذان ، والصلاة ، والركوع ، والسجود ، لأن الأفعال التي كانت هذه الأسماء لها لم تكن منهم ، وإنما سنها النبي عليه السلام ، وعلمها الله إياه ، وقد كانت الصلاة ، والصيام ، وغير ذلك في اليهود والنصارى ، وكانت اليهودية والنصرانية في العرب ، ويقال : إن المجوسية لم تكن فيهم ، على ما ذكره الرواة ، ورووا إن أول من مجس من العرب حاجب بن زرارة الدارمي (¬2) ، وأهل بيته ، ولم يتمجس أحد منهم قبله غيره 0
صفحة ٤٤
... ونقول : إن الأعمال التي في شريعة الإسلام قد كان مثلها في اليهود والنصارى ، ولكن لم يكونوا يسمونها هذه الأسماء ؛ لأن شرائعهم لم تكن بلسان العرب ، فلما جاء الله بالإسلام ، وبين هذه الأشياء ، اقتدوا بأهل الإسلام ، وصاروا عيالا عليهم ، وقبلوا منه صلى الله عليه ، مع تكذيبهم إياه آيات محكمات / وكلمات بينات أتي بها في هذه الشريعة لم تعرفها الأمم ، فلما وردت 11 أعليهم قبلوها قبولا اضطرارا ، فأول ذلك كلمة الإخلاص ، وهي قول : لا إله إلا الله ، هذه كلمة جعلها مركز دين الإسلام وقطبه ، ولم تكن الأمم السالفة تقولها على هذا اللفظ بهذا الاختصار ، فلما قالها ، ودعا الناس إليها ، فاستعظمت العرب ذلك ؛ لأنهم كانوا يسمون أصنامهم آلهة ، فقال الله حكاية عنهم : [ إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين ] (¬1) يعني جاءتها وهي الحق ، وإلى ذلك دعا المرسلون ، ولكن لم يؤدوها على هذا اللفظ ، بهذا الكمال والاختصار ، وقبلها أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ثم [ بسم الله الرحمن الرحيم ] (¬2) هي آية أنزلها الله على محمد عليه السلام ، وجعلها فاتحة الكتاب ، وفاتحة كل سورة ، فصار ذلك قدوة لجميع الأمم ، قد أقروا بفضلها ، وجعلوها مسطرة في صدر كتبهم ، ولم يكن ذلك لسائر الأمم ، ولا عرفوها إلا ما ذكره الله عن سليمان بن داود أنه كتب بها إلى بلقيس ، فلم يدونوها هذا التدوين ، ولا عرفوا لها الفضل المبين حتى جاء الله بالإسلام ، فقبلتها (¬3) الأمم أحسن قبول ، هذا إلى الكلمات غيرها ، مثل قوله : [ الحمد لله رب العالمين ] (¬4) وقد كان فيما تقدم من الكتب تحميد وتمجيد ، ولكن لم يكن على هذا الاختصار ، ومثل قول : لا حول ولا قوة إلا / بالله ، وحسبنا الله ونعم الوكيل 11 ب وتوكلت على الله ، وروى سفيان (¬1) عن أبي الزناد (¬2) عن سعيد بن جبير (¬3) ، قال : ما أعطي أحد إنا لله وإنا إليه راجعون إلا النبي عليه السلام ، ولو أوتيه أحد لأوتيه يعقوب ، حيث يقول : [يا أسفى على يوسف] (¬1) ، فهذه الكلمات كلها ظهرت في الإسلام ، على لسان محمد عليه السلام ، باللسان العربي ، ولم يكن لسائر الأمم هذا النظم العجيب ، والاختصار الحسن ، فلما وردت عليهم اضطروا إلى قبولها وتدوينها والإقرار بفضلها ، ولفظوا بها عند وجوب الشكر ، وطلب الصبر في وقت الاتكال والتسليم لأمر الله ، وعند فاتحة كلامهم ، وخاتمته ، وعند كل حادث نعمة ، ونازل ملمة ، وإن كان العلماء الماضون ، ومن درج من الصالحين قد عرفوا معانيها ، فإنهم لم يرسموها هذا الترسيم لأممهم ، على هذا الكلام والإحكام ، وادخرها الله لنبيه تفضيلا له وتشريفا لمنزلته 0
... وإنما حذفوا الألف من [ بسم الله الرحمن الرحيم ] (¬2) ، لأنها في صدر كل سورة ، وكثرت مع هذا على ألسنتهم ؛ فاستخفوا حذفها لأنها وقعت في موضع معروف ، لا يجهل القارئ معناه ؛ لأن من شأن العرب ألا تجاوز (¬3) الاختصار والحذف ، ألا ترى أنك تقول : بسم الله عند ابتداء كل فعل تأخذ فيه من مأكل أو مشرب أو ذبيحة ، فخف عليهم الحذف ، ولم يحذفوا الألف من قوله : [ فسبح باسم ربك العظيم ] (¬4) وأشباهها ، لأنها لم تكثر كثرة بسم الله ، وقال / قوم إنما 12أ حذفت الألف من بسم الله لأن الأصل كان سم ، تقول : هذا اسم الشيء ، وسم الشيء ، وأنشد : " من الرجز "
صفحة ٤٦
بسم الذي في كل سورة سمه (¬5) قال : وإنما أدخلوا الألف عمادا له ، لأن السم ناقص ؛ لأنها حرفان ، فضم إليهما الألف ليكون تاما ، فلما دخلت عليه الباء ردوه إلى أصله ، فقالوا : بسم ، ألا ترى أنك إذا صغرت الاسم ، قلت : سمي ، فأسقطت الألف ، ورددت الكلمة إلى أصلها ، فهي أيضا تذهب في الوصل والإدراج إذا ألحقت فيه الباء ، ولو كانت أصلية ثبتت في التصغير ، ويقال : إن الاسم مأخوذ من السمو والرفعة ، وقيل هو السمة ، وما من شيء إلا وقد وسمه الله باسم ، يدل على ما فيه من الجوهر ، فاحتوت الأسماء على جميع العلم بالأشياء ، فعلمها آدم ، وأبرز فضيلته في العلم على الملائكة ، فأول ما بدا من العلم أسماؤه عز وجل ، وأول أسمائه الله ، ثم الأسماء كلها منسوبة إليه ، فالاسم سمة الشيء ، والصفة ظهور الشيء وبروزه ، فالاسم للنطق ، والصفة للنظر ، والاسم للسان ، والصفة للعين ، وقال معمر بن المثنى : بسم الله مجازه : هذا اسم الله ، أو بسم الله أول كل شيء ، ونحو ذلك ، وقال : بسم الله إنما هو بالله (¬1) ، لأن اسم الشيء هو الشيء بعينه ، واحتج بقول لبيد (¬2) : ( من الطويل )
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
وتابعه على ذلك أكثر الناس 0
... وقال آخرون : الاسم غير المسمى ؛ لأن الأسماء هي المنبئة عن الشخوص التي تولد الأفعال / فالمسمى هو الشخص ، والاسم عبارة عنه ، وهو غيره 12 ب لأن الاسم لفظ ، والشخص معنى سواه ، وقد يسمى الشيء الواحد بأسماء كثيرة ، فيقع عليها العدد ، مثل السيف ، فإنه يسمى : السيف ، والمشرفي ، والمهند والقاضب ، والصمصامة ، والعضب ، وأشباه ذلك ، فلو كان الاسم هو المسمى ، لكان المسمى بعدد أسمائه 0
صفحة ٤٧
اشتقاق أسماء الله ومعانيها الله عز وجل : تفرد الله بهذا الاسم ، فلم يسم به شيء من الخلق ، ولم يوجد هذا الاسم لشيء من الأشياء : وأسماؤه كلها نعوت وصفات (¬1) لهذا الاسم الواحد ، فهو مستول على الأسماء كلها ، منسوب إليه ، قال الله تعالى : [ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها] (¬2) ، وهذا الاسم ليس بمشتق من النعت ، كالقادر من القدرة ، والراحم من الرحمة ، والعالم من العلم ، وأصله الإله معرف بالألف واللام ، والألف من نسج الكلمة ، لأنه في الأصل أله ، والألف أدخلت فيه مع اللام للتعريف ، فلما أدخلت فيه ألف التعريف سقطت الألف الأصلية ، وتركت الهمزة ، ولكثرة ما تجري على ألسنتهم ، وأدغمت لام المعرفة في اللام التي تليها ، وفخمت ، وأشبعت حتى أطبق اللسان بالحنك لفخامة ذكره تعالى ، ثم صارت الألف واللام فيه كأنها من نسج الكلمة ، فقيل : الله ، ومن العرب من حذف الألف واللام من الله ، فيقول : لاه أفعل ذاك ، يريد : الله لا أفعل / ذاك على طريق القسم ، قال ذو الأصبع (¬3) : 13أ (من البسيط )
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب عني ولا أنت دياني فتخزوني
ومنهم من يدخل في لاه الميم ، فيقول : لاهم ، قال الشاعر (¬4) : ( من الرجز )
لاهم هذا خامس إن تما أتمه الله وقد أتما
صفحة ٤٨
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما فقال في بيت : لاهم ، وقال في آخر اللهم ، فأدخل فيه الألف واللام (¬1) 00000 الميم كما يقال في الدعاء اللهم 0
... وقال الحسن البصري : اللهم مجمع الدعاء ، وقال أبو رجاء العطاردي (¬2) : الميم في قولك : اللهم جماعة سبعين اسما من أسماء الله ، واللهم هو في الأصل الله ، فضم إليه أم ، يريدون يا الله أمنا بخير ، فكثرت في الكلام فاختلطت ، ويقال أممت فلانا إذا قصدته في الأمر، وتقول : يا الله أمنا بخير : أي اقصدنا وتعمدنا ، فاشتقاق الله في الأصل إله كما ذكرنا ، وهو مأخوذ من أله يأله إذا تحير ، كأن القلوب تأله أي تتحير عند الفكر في عظمته ، فلا يعلم أحد كيف هو تبارك وتعالى ، وقال زهير (¬3) في هذا : (من الطويل )
صفحة ٤٩
وبيداء قفر تأله العين وسطها تأله العين وسطها : أي تتحير العين فيها لسعتها وطولها ، وقال وهب بن الورد (¬1) : إذا وقع العبد في إلهانية الرب ، ومهيمنية الصديقين / ورهبانية الأبرار 13 ب لم يجد أحدا يأخذ بقلبه ، ولا تلحقه عينه (¬2) 0 فكأن العبد إذا فكر في الله تحير، فلا يقدر أن يجده ، أو يصفه إلا بما وصف به نفسه من أسمائه الحسنى 0
صفحة ٥٠