ترجمة المصنف
بسم الله الرّحمن الرّحيم هو سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد بن الصيفي المعروف بابن أبي العباس الطوفي الصرصري البغدادي.
ولد سنة بضع وسبعين وسبعمائة على ما قاله ابن العماد، وابن رجب، وذكر ابن حجر أنه ولد سنة [٦٥٧ هـ/الدرر الكامنة ٢/ ٢٤٩].
والطوفي: نسبة إلى طوف بضم الطاء المهملة، وسكون الواو، مشايخه كثيرون أهمهم:
شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني [٦٦١ هـ-٧٢٨ هـ]، القلانسي [٦٤٠ هـ- ٧٠٤ هـ]، ابن الطبال [٦٢١ هـ-٧٠٨ هـ]، ابن قدامة المقدسي، مسند الشام [٦٢٨ - ٧١٥ هـ] الحافظ الدمياطي [٧٠٥ هـ]، الصرصري الحنبلي النحوي، البرزالي الشافعي [٦٦٥ - ٧٣٩ هـ]، وغيرهم.
له مؤلفات كثيرة منها: إزالة الإنكار في مسألة كاد، الآداب الشرعية، الإكسير في قواعد التفسير، إيضاح البيان عن معنى القرآن، الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية [وهو كتابنا] بيان ما وقع من الأعداد، وغيرها.
توفي على ما ذهب إليه الأكثر سنة ٧١٦ هـ، وذهب حاجي خليفة إلى أنه توفي سنة [٧١٠ هـ]، وذهب ابن أم مكتوم في تاريخ النحاة إلى أنه توفي سنة [٧١١ هـ]، وذهب العليمي صاحب الدر المنضد أنه توفي سنة [٧١٧ هـ].
وعلى أنه انتهى من تأليف كتاب الإشارة سنة [٧١٦ هـ]، فيسقط قول من قال إنه توفي سنة ٧١٠ هـ أو ٧١١ هـ.
وبترجيح كلام الأكثر يضعف قول العليمي في الدر المنضد، والله أعلم (١).
1 / 3
وصف المخطوط
لقد اعتمدنا بفضل الواحد الأحد الفرد الصمد في تحقيق هذا الكتاب على النسخ الخطية الآتية:
١ - نسخة دار الكتب المصرية-تحت رقم [٦٨٧/تفسير] وتقع في [٢١٩/ق].
٢ - نسخة دار الكتب المصرية تحت رقم [٢١٤٤/ ٢٠٥٦١ ميكروفيلم] وتقع في [٤٥٠/ل]، وناسخها هو محمد بن محمد بن سبط العسقلاني.
والله أسأل العفو والمغفرة، ولطلبة العلم الصفح والعفو على هذا الجهد القليل الضعيف المتواضع.
طالب العلم، أبو عبد الله محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعي الشهير ب «محمد فارس»
1 / 4
صورة عنوان النسخة الأولى من المخطوط
1 / 5
صورة صفحة من النسخة الأولى من المخطوط
1 / 6
صورة الصفحة الأخيرة من النسخة الأولى من المخطوط
1 / 7
صورة عنوان النسخة الثانية من المخطوط
1 / 8
صورة الصفحة الأولى من النسخة الثانية من المخطوط
1 / 9
صورة الصفحة الأخيرة من النسخة الثانية من المخطوط
1 / 10
بسم الله الرّحمن الرّحيم
وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، الحمد لله الذي أنزل القرآن كتابا جامعا، وبرهانا قاطعا، ودليلا متينا، ونورا مبينا، لا يأتي على فضله العد، ولا يخلق على كثرة الرد، من تمسك به نجا، ومن أعرض عنه أصبح صدره ضيقا حرجا، فيه لكل شيء تبيان، وبين كل حق وباطل فصل وقرآن، عرف ذلك من استوى على متن تياره في فلك النظر، وغاص في لجج بحاره فاستخرج يتائم الدرر، فهو مادة لعلوم المعقول والمنقول، وينبوع لفنون الفروع والأصول. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تكشف عن قائلها شبه المطالب، وتوضح له بعين اليقين كل ما هو له طالب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى الأعاجم والأعارب، المنعوت في كتب الأولين بأنه الخاتم العاقب، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى ذوي الأحساب والمناقب ما ظهر فلك في المشارق والمغارب.
أما بعد. .
فهذا إن شاء الله ﷿ إملاء، سميناه ب «الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية»، ولا بد قبل الخوض في مقاصده من تقرير مقدمة، هي له كالأصول، تشتمل على فصول:
الفصل الأول: في شرح اسم هذا الكتاب، ويتم ذلك ببيان معنى الإشارات الإلهية، والمباحث الأصولية.
أما الإشارات فهي جمع إشارة، هي الإيماء بفعل أو قول إلى أمر.
فالإيماء بالفعل كالرمز والغمز بعين أو حاجب، ومن ذلك خائنة الأعين (١) والإشارة باليد ونحوه، قال سحيم:
أشارت بمدراها وقالت لتربها ... أعبد بني الحسحاس يزجي القوافيا
والإيماء بالقول هو التنبيه بالقول الوجيز على المعنى البسيط، كقوله ﷿:
﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ﴾ (٧٨) [طه: ٧٨].
﴿فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى﴾ (١٠) [النجم: ١٠].
1 / 11
وقول امرئ القيس:
على هيطل يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جري غير كر ولا وان
فقوله: (أفانين جري) إشارة وجيزة إلى معان كثيرة، وهو أنواع جري الفرس، ولا شك أن في القرآن العظيم إشارات في هذا الباب، هي معجزات، كقوله ﷿:
﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَاُدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ (٢٩) [الأعراف: ٢٩].
﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنا إِنّا كُنّا فاعِلِينَ﴾ (١٠٤) [الأنبياء: ١٠٤].
﴿أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ (١٥) [ق: ١٥] فإن هذه إشارات تضمنت ما أطنب فيه المتكلمون من تقرير دليل البعث والإعادة قياسا على البدء، ونحوه كثير مما ستراه إن شاء الله ﷿.
وأما الإلهية: فنسبة إلى الإله، وهو المعبود [الواجب] الوجود، ونسبت/ [٢ ب/م] إليه لأنها منه صدرت وعنه وردت، إذ القرآن كلام الله ﷿.
وأما المباحث: / [٢/ل] فجمع مبحث، وهو موضع البحث ومحله، نحو: مطلع الفجر والشمس، لموضع طلوعهما، وقياسه كسر الحاء فلعله فتح لأجل حرف الحلق، حملا على مضارعه وهو يبحث.
والبحث في الأصل: هو كشف التراب ونحوه عما تحته من دفين وغيره، ثم نقل إلى الكشف عن حقائق المعاني بالنظر؛ لأن الناظر يكشف عنها الشبه (١)، كما يكشف الباحث التراب فهو في البحث الاصطلاحي حقيقة عرفية، مجاز لغوي.
وأما الأصولية: فنسبة إلى الأصول؛ لأن الكتاب موضوع لاستخراج مسائل الأصول من إشارات التنزيل، وإنما نسب إلى لفظ الجمع، وإن كان القياس في هذا الباب رد الجمع إلى الواحد، ثم ينسب إليه نحو: «رجلي» في النسبة إلى رجال، و«عبدي» إلى عباد؛ لأن الأصول صار علما، أو كالعلم على هذا الفن من العلم؛ فجرى لذلك مجرى النسبة إلى الأنصار والمدائن والفرائض، يقال: أنصاري ومدائني وفرائضي ونحوه.
1 / 12
الفصل الثاني: في ذكر السبب الباعث على وضع هذا الكتاب، وهو ضربان: كلي، وجزئي.
أما الكلي: فهو أن المسلمين منذ ظهر الإسلام يستفيدون أصول دينهم وفروعه من كتاب ربهم، وسنة نبيهم، واستنباطات علمائهم، حتى نشأ في آخرهم قوم عدلوا في ذلك عن الكتاب والسّنّة إلى محض القضايا العقلية، ومازجين لها بالشبه الفلسفية، والمغالطات السوفسطائية، واستمر ذلك حتى صار في أصول الدين كالحقيقة العرفية، ولا يعرف عند الإطلاق غيره، ولا يعد كلاما في أصول الدين سواه، فجاء ضعفاء العلم بعدهم، فوجدوا كلاما فلسفيا، ليس من الدين في شيء، مع أن أئمة الدين ومشايخهم نهوا عنه مثله، وشددوا النكير على من تعاطاه، فضاعت أصول الدين عليهم؛ وضلت عنهم، إذ لم يعلموا لهم أصول دين [غيره لغلبته] عرفا.
وإنما عدل المتأخرون في أصول الدين عن اعتبار الكتاب والسّنّة، إما لجهلهم باستنباطها منها، أو ظنا أن أدلة السمع فرع على العقل، فلا يستدل بالفرع مع وجود الأصل كشاهد الفرع مع شاهد الأصل، أو زعما منهم أن الكتاب غالبه الظواهر، والسّنّة غالبها الآحاد.
ومثل ذلك لا يصلح مستندا في المطالب القطعية الدينية أو لأن خصومهم من الفلاسفة والزنادقة ونحوهم لا يقولون بالشرائع، ولا يرون السمعيات حجة، فلا يجدي الاحتجاج عليهم بها، أو لغير ذلك من الخواطر والأوهام/ [٣ أ/م].
وأما السبب الجزئي: فإني رأيت بعض الناس قد كتب مسائل يسأل عنها بعض أهل العلم، منها هذا السؤال وهو: أن الناس هل لهم أصول دين أم لا؟ فإن لم يكن لهم أصول دين فكيف يكون دين لا أصل له؟ وإن كان لهم أصول/ [٣/ل] دين، فهل هي هذه الموجودة بين الناس ككتب الإمام فخر الدين بن الخطيب (١) وأتباعه ونحوها؟ أم غيرها؟ وكيف ذم أئمة الشرع الاشتغال بأصول الدين مع أنه لا بد للدين من أصول يعتمد عليها؟
ولو علم هؤلاء الملبوس عليهم أن أصول الدين الحقيقية التي هي أحد فروض الكفايات في طي الكتاب على أبلغ تقرير وأحسن تحرير، بحيث لا يستطيع الزيادة عليها متكلم ولا فيلسوف، وحتى إن المسلمين إنما استفادوا طرقهم الكلامية أو أكثرها منهما، لما قالوا ذلك.
ونحن نجيب عن هذا السؤال المذكور على جهة الفتيا والاختصار؛ لئلا تبقى شبهة في
1 / 13
قلب الناظر، فنقول-الجواب-ومن الله-﷿-استمداد الحق والصواب: للناس أصول دين إذ دين لا أصل له فرع مجرد لا وثوق به، وأصول الدين هو العلم الباحث عن أحكام العقائد الإسلامية وجملتها لا تخرج عن الكلام في الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، كما صرح به الكتاب والسّنّة، وهو موجود في كتب السلف مجردا، وفي كتب الخلف كالكتب المشار إليها في السؤال، ممزوجا بما ليس من أصول الدين، إما مزجا اضطراريا كجواب عن شبهة فلسفية، أو مزجا اختياريا كما ضمنه الإمام فخر الدين وغيره كتبهم من المباحث الفلسفية المستقلة، كالكلام في الفلكيات والعناصر والنفوس وغيرها، تكثيرا لسواد كتبهم، وتنبيها على فضائلهم، أو غير ذلك مما نووه، والأعمال بالنيات، ولكلّ امرئ ما نوى.
وأما ذم أئمة الشرع الاشتغال بأصول الدين، فتشكيك مجمل غير محرر، إذ كيف يذمون الاشتغال بعلم قد صنفوا وتكلموا فيه! ! وهو مستند دينهم! ! وقد أفتوا بأنه فرض كفاية في مذاهبهم، هذا مما لا يقبل عليهم، ولا يجوز صدوره منهم.
وطريق كشف هذه الشبهة أن أصول الدين لفظ مشترك أو كالمشترك، فتارة يراد به العلم الباحث عن تقرير أحكام العقائد الإسلامية بالحجج الشرعية المؤيدة بالبراهين العقلية، وهذا لم ينه عنه أحد، بل هو فرض كفاية على الموحدين.
وتارة يراد به العلم الباحث عن الأحكام العقلية المحضة الفلسفية والكلامية التي هي فضول في الشرع لا من ضروراته، ولا مكملاته فذلك الذي ذمه الأئمة؛ على أنهم إنما عبروا عنه بالكلام، ولم يذم أحد منهم أصول/ [٣ ب/م] الدين قط، وإنما ذموا الكلام المذكور لوجوه:
أحدها: أنه كما ذكرنا فضول في الدين.
الثاني: أن العقل بمجرده لا يستقل يدرك الحقائق، لأنه إنما جعل لإقامة رسم العبودية، لا لإدراك حقيقة الربوبية، فربما زلّ فضل كما جرى [لأكثر] / [٤ ب/ل] الفلاسفة والمتكلمين في غالب أحكامهم.
الثالث: أن صاحبه كالمزاحم لله-﷿-في الاطلاع على حقائق الموجودات، ودقائق المصنوعات فذموه لذلك، كما ذموا النظر في أحكام النجوم وعلى هذا فعلم الكلام صار محمودا باعتبار، مذموما باعتبار، كالجدل ورد الشرع بمدحه وذمه باعتبارين:
فمن حيث يستعمل لتحقيق الحق وإبطال الباطل هو محمود، ومن حيث يستعمل لعكس
1 / 14
ذلك هو مذموم.
الفصل الثالث: فيما نعتمده في هذا التعليق، وهو أنا إن شاء الله-﷿ نستقرئ القرآن من أوله إلى آخره، ونقرر منه المطالب الأصولية، وهي ضربان:
أصول دين، وأصول فقه:
فأصول الدين: علم يبحث فيه عن أحكام العقائد صحة وفسادا، ومتعلقاته الكلية هي كما سبق: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر.
وأصول الفقه: علم يبحث فيه عن الأدلة السمعية والنظرية من جهة اتصالها إلى الأحكام الشرعية الفرعية ومتعلقاته بالاستقراء تسعة عشر، عليها مدار الفروع، وفيها بحث علماء الأمة اتفاقا منهم على بعضها، واختلافا في بعضها، وهي على ما سرده الفضلاء في كتبهم: الكتاب، والسّنّة، وإجماع الأمة، وإجماع أهل المدينة، وإجماع أهل الكوفة، وإجماع الخلفاء الأربعة، وإجماع العترة، والقياس، وقول الصحابي، والمصلحة المرسلة، والاستصحاب، والبراءة الأصلية، والعوائد، والاستقراء، وسد الذرائع، والاستدلال، والاستحسان، والأخذ بالأخف والعصمة.
فالكتاب: هو الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه.
وقيل: ما نقل بين دفتي المصحف نقلا متواترا وهو دوري، والكتاب والقرآن والفرقان واحد.
والسّنّة: ما ثبت نقله عن النبي ﷺ أو من في معناه، تواترا أو آحادا من قول، أو فعل، أو إقرار على أحدهما.
وإجماع الأمة: هو اتفاق مجتهديها في عصر ما على حكم ديني.
وإجماع أهل المدينة والكوفة: اتفاق مجتهديهما كذلك، وكذا إجماع الخلفاء، والعترة اتفاقهم على حكم.
والقياس: تعدية حكم المنصوص، أو المتفق عليه إلى غيره بجامع مشترك.
وقول الصحابي: فتياه عن اجتهاد إذا لم يخالف فيها.
والمصلحة المرسلة: اعتبار أمر مناسب لم يرد الشرع فيه باعتبار ولا إلغاء/ [٤ أ/م].
والاستصحاب: هو الاستمرار على ما عهد من نفي أو إثبات أصلي أو حكم شرعي، وهو المعبر عنه في ألسنة الفقهاء بقولهم: الأصل بقاء ما كان [على ما كان]، والأصل عدم كذا أو بقاؤه.
1 / 15
والبراءة الأصلية: استصحاب خاص، وهو الاستمرار على الحكم بفراغ الذمة الثابت / [٥/ل] قبل وجودها، أو قبل الدعوى باشتغالها.
والعوائد: جمع عادة وهي الأمر المتكرر المعاود، أو هي معاودة الأمر وتكرره، وفي تخصيص العموم بها خلاف وتفصيل مثل أن يرد الشرع بحكم عام للناس فيه عادة خاصة، فينزل العموم على خصوص العادة فيه.
والاستقراء: تتبع الجزئيات، والحكم على كليّها بمثل حكمها، وإن شئت فقل: هو الحكم على كلي بما حكم به في جزئياته.
وسد الذرائع: هو حسم مواد المفاسد بالمنع من يسيرها؛ لئلا يتوصل منه إلى كبيرها، كتحريم يسير الخمر الداعي إلى كثيره.
والاستدلال: هو النظر، وهو ترتيب أمرين، أو أمور معلومة، لاكتساب مجهول.
والاستحسان: هو العدول بالمسألة عن حكم نظائرها لمعنى أو لمصلحة أرجح. وقيل فيه غير ذلك. وقد أجاد الحنيفية تقريره.
والأخذ بالأخف: أي من الأحكام، وهو التزام أقلها أو أيسرها لأنه المتيقن، وما زاد منفي بالاستصحاب أو البراءة الأصلية كقول من قال: «دية الذمي ثلث دية المسلم دون نصفها وكمالها».
والعصمة: هي كون العين أو المنفعة ممنوعة من تملك الغير أو استعماله لها، لثبوت الحق فيها لمن هو له، وهي راجعة إلى ضرب من الاستصحاب لأنا نستصحب حكم الملك للمالك، فيمتنع مزاحمة غيره له.
والأصول: جمع أصل، وأصل الشيء قيل: ما منه الشيء. وقيل: مادة الشيء. وقيل:
ما بني عليه غيره. وقيل: ما استند الشيء في تحقق وجوده إليه.
وهو ضربان عقلي كالدليل للمدلول والقياس للنتيجة.
وطبيعي كالشجرة للغصن والوالد للولد.
والدين يطلق بالاشتراك على الجزاء نحو ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ (٤) وعلى العادة نحو:
كدينك من أم الحويرث قبلها.
وقوله: أهذا دينه أبدا وديني
أي كعادتك، وهذه عادته وعادتي.
وعلى الطريقة السياسية نحو: ﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اِسْتَخْرَجَها مِنْ﴾
1 / 16
وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦) [يوسف: ٧٦] والولاية التي يدين لها الرعية نحو قول زهير:
لئن حللت بجو من بني أسد ... في دين عمر وبيننا فدك
وعلى الشريعة الإلهية نحو: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ﴾ (٨٥) [آل عمران: ٨٥].
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاِخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (٣) [المائدة: ٣].
﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اِخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ﴾ (١٩)
[آل عمران: ١٩] وهو المراد هاهنا، أي أصول الشريعة الإلهية.
والفقه لغة: الفهم. وقيل: العلم.
وقيل: كل نوع علمي فهو فقه لغة كالطب، والحساب، والنحو، والشعر، وغيرها، وإنما/ [٤ ب/م] اختصت بهذه الأسماء الخاصة اصطلاحا.
وأما في الاصطلاح: فالفقه علم يبحث فيه عن أحكام أفعال المكلفين وما أشبهها، خطابا أو وضعا، ويشمل ذلك الوجوب، والندب والكراهة، والحظر، والإباحة، والصحة، والفساد، ونحوها.
وإن شئت قلت: الفقه سياسة شرعية، مادتها تعظيم الشرع، وغايتها الطاعة والعدل، وثمرتها السعادة يوم الفصل.
أما أنه السياسة؛ فلأن/ [٦/ل] السياسة هي القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح، وانتظام الأحوال. والفقه كذلك، لكن لما كان هذا القانون من جهة الشرع؛
1 / 17
قلنا: هو سياسة شرعية، وأما أن مادتها تعظيم الشرع؛ فلأن من لا يعظم الشرع، لا يرتبط بأحكام الفقه عبادة ولا عادة.
وأما أن غايتها الطاعة والعدل؛ فلأن خطاب الشرع الواجب تعظيمه بامتثاله الوارد بالأحكام الفقهية يتعلق بالعبادات والعادات، فامتثاله في العبادات طاعة، وفي العادات بكف أذى الناس بعضهم عن بعض والتزام الإنصاف بينهم، وهو طاعة وعدل.
وأما أن ثمرتها السعادة يوم الفصل، فلأن الفقه شرع الله وأوامره، فمن امتثلها كان مطيعا، ومن كان مطيعا كان من أهل السعادة إن شاء الله ﷿.
إذا عرفت هذا فاعلم أن في أصول الدين قاعدة عظيمة عامة، وهي قاعدة القدر، وقد كنت أفردت فيها تأليفا.
وفي أصول الفقه قاعدة كذلك، وهي قاعدة العموم والخصوص، وقد كنت عزمت أن أفردها بتأليف، لكن رأيت إدراجها في هذا الإملاء، إذ هي من جزئياته.
وهاتان القاعدتان عامتا الوقوع في الكتاب والسّنّة، فلنقرر كلياتهما هاهنا ثم نحيل عليه، أو نكتفي به عند ذكر جزئياتهما في أثناء هذا التعليق إن شاء الله ﷿.
أما القدر فالنظر في لفظه، وحده، وحكمه، واختلاف الناس فيه، وتردد الأدلة فيه، والكشف عن سره.
أما لفظه فهو مصدر قدر يقدر، بضم الدال وكسرها، قدرا، وقدرا، بسكونها وفتحها.
وفي التنزيل: ﴿إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (١) [القدر: ١].
ثم ﴿إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى﴾ (٤٠) [طه: ٤٠].
وأما حده على رأي الجمهور: فهو خلق الأفعال بالقدرة القديمة وإجراؤها على محل القدرة الحادثة، وهي جوارح المكتسبين لها.
وعلى رأي المعتزلة (١): هو منع الألطاف عن العبد ليقع في معصية المعبود.
وإن شئت قلت: القدر هو تعلق الإرادة الجازمة بوقوع أمر ممكن، أو هو ترجيح أحد
1 / 18
طرفي الفعل الممكن بمرجح إلهي.
وأما حكمه: فهو تحتم وقوع مقتضاه من الرب [سبحانه]، ووجوب الرضا والتسليم له من العبد، وأما اختلاف/ [٥ أ/م] الناس فيه؛ فهم على فرق:
أحدها: من ذهب إلى أن أفعال المخلوقين مخلوقة لهم خلقا محضا، لا يشاركهم فيها أحد؛ وهم المعتزلة.
وثانيها: من ذهب إلى أنها مخلوقة لله ﷿-خلقا محضا، لا يشاركه في خلقها وإيقاعها غيره، وأن حركات العبد الظاهرة منه كحركة السعفة بالريح؛ هو مجبور عليها؛ وهم الجبرية، ويقال: المجبرة.
مطلب في الفرق بين الخلق والكسب
وثالثها: من ذهب إلى أنها خلق للرب وكسب للعبد، وفرقوا بين الخلق والكسب / [٧/ل] بأن الخلق هو الإنشاء والاختراع من العدم إلى الوجود، والكسب هو التسبب إلى ظهور ذلك الخلق على الجوارح، ورسموه بأنه ظهور أثر القدرة القديمة في محل القدرة الحادثة، وذلك كالولد هو مخلوق لله-﷿-مكسوب للأبوين بالجماع، فالخالق موجد، والكاسب متسبب، وهؤلاء هم الكسبية وهم الجمهور والسواد الأعظم من المحدثين والفقهاء.
ورابعها: من ذهب إلى أن الفعل مخلوق للرب والعبد اشتراكا، بناء على جواز أثر من مؤثرين ومقدور بين قادرين.
وخامسها: من ذهب إلى أن الله-﷿-يوجد قدرة للعبد، والعبد يوجد بقدرته الفعل.
وسادسها: من ذهب إلى أن الفعل له جهة عامة، وهي كونه فعلا: حركة أو سكونا، وجهة خاصة، وهي كونه طاعة كالصلاة، أو معصية كالزنا. وهو من الجهة الأولى مخلوق للرب [﷿] ومن الجهة الثانية مخلوق للعبد. . ولعل فيه مذاهب أخر.
وأما تردد الأدلة فيه:
فأما سمعا: فلأنّ القرآن [العزيز]: تارة يضيف الأفعال إلى العباد؛ نحو: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (١٥٩) [الأنعام: ١٥٩].
1 / 19
﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (١٠٨) [الأنعام: ١٠٨].
﴿وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اِسْمَ اللهِ عَلَيْهَا اِفْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ (١٣٨) [الأنعام: ١٣٨].
﴿فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ (٢٠) [الانشقاق: ٢٠].
﴿وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ (٣٩) [النساء: ٣٩].
﴿قالَ ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ (١٢) [الأعراف: ١٢] ونحوه.
وتارة يضيفها إلى الله-﷿: ﴿اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ (٦٢) [الزمر: ٦٢].
﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ (٢) [الفرقان: ٢].
﴿يا أَيُّهَا النّاسُ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ﴾ (٣) [فاطر: ٣].
﴿وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ﴾ (٩٦) [الصافات: ٩٦].
﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ (١٤) [الملك: ١٤].
﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهّارُ﴾ (١٦) [الرعد: ١٦] ونحوه.
1 / 20
وأما عقلا: فلأن المعتزلة قالوا: لو خلق الله-﷿-معاصي خلقه، ثم عاقبهم عليها، لكان عن العدل خارجا، وفي ساحة الجور والجا. ولأن ما يخلقه الله-﷿ يجب وقوعه؛ فتكليف العبد بعد ذلك بإيجاده تكليف بالواجب أو الممتنع، وتحصيل للحاصل، وهو محال. ولأنا ندرك بالحس أو الضرورة وقوع أفعالنا بأدواتنا على وفق دواعينا وقدرتنا وإرادتنا، ونعلم بالوجدان أننا الموجدون المخترعون لها؛ فلا نقبل بعد ذلك الحوالة على غائب لا ندركه، وصار النزاع في ذلك من باب التشكيك في البديهات والسفسطة؛ فلا يسمع.
وقالت المجبرة: لو كان العبد خالقا لأفعاله/ [٥ ب/م] لكان مع الله-﷿ خالقون كثيرون، وذلك ضرب من الشرك كالمجوسية؛ ومن ثم ورد تشبيه القدرية بالمجوس (١)، ولأن أخص صفات الله-﷿-كونه قديما مخترعا، فلو كان معه مخترع غيره لكان ذلك المخترع منازعا في الإلهية أو مقاسما فيها، وهو باطل؛ ولأن فعل العبد ممكن، وكل ممكن فإنه لا يخرج إلى الوجود إلا بمرجح، ثم ذلك المرجح: إما من العبد؛ فيلزم: إما الدور، أو التسلسل. أو من الرب-﷿-فيكون هو الخالق، وهو المطلوب.
وأما الكشف عن سره فذلك يظهر/ [٨/ل] بمقدمات:
الأولى: أن الله ﷿-أحب أن يكون له في خلقه المشيئة النافذة.
الثانية: أنه-﷿-أحب أن يكون له عليهم الحجة البالغة.
الثالثة: أنه-﷿-علم ما سيكون منهم قبل أن يوجدهم؛ فعلم مثلا من آدم وإبراهيم وموسى ومحمد-عليهم الصلاة والسّلام-أنه سيكون منهم الطاعة، وعلم من إبليس ونمرود وفرعون وأبي جهل وأبي لهب أنه ستكون منهم المعصية، وعلم أنه لو ترك كلا واختياره وفوض إليه أفعاله لم يكن منهم إلا ما تعلق به علمه؛ من طاعة أولئك، ومعصية هؤلاء. وحينئذ استوت حالتا جبرهم على أعمالهم وتفويضها إليهم، فلو فوّض إليهم أعمالهم والحالة هذه، لضاعت فائدة التفويض، ولم يبق فيه إلا مجرد مفسدة مشاركة المخلوق له في الاختراع، فرغب ﷾-ببالغ حكمته عن هذه المفسدة المجردة، وآثر التوحد في خلقه من غير مشارك؛ صيانة لجانب الإلهية والملك عن وصمة المنازعة والشرك.
ثم إنه-﷿-لما علم أن في خلقه من يعترض عليه ويقول: إنك إذا أجبرتنا لم
1 / 21
تعدل فينا؛ ولو فوضت أعمالنا إلينا لقمنا من طاعتك بما علينا-أخفى عنهم طريق الجبر بلطيف حكمته؛ ليقيم عليهم بالغ حجته؛ وذلك بأن خلق فيهم أفعالهم بواسطة مشيئاتهم، فظنوا أنهم لها خالقون، وإنما هم بلطيف الحكمة وعظيم القدرة مجبورون غالطون، وذلك اللبس عليهم من شؤم اعتراضهم، ولو سلموا الأمر لرب الأمر، لكشف لهم عن حقيقة الأمر.
وتقرير ذلك أنه-﷿-إذا شاء من عبده فعلا، خلق له مشيئة ذلك الفعل، ثم خلق ذلك الفعل على أدوات العبد، موافقا لإرادته. وهذا مستفاد من قوله-﷿:
﴿وَما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ﴾ (٢٩) [التكوير: ٢٩] فمشيئة الله-﷿-سبب مؤثر أبعد، ومشيئة العبد سبب مقارن أقرب.
فالقدري نظر إلى المقارن لقربه، والجبري نظر إلى المؤثر، ولم يمنعه من ذلك بعده، فكان نظره أسدّ. وعلى هذا، فنسبة فعل العبد إلى الرب-﷿-شبيه بنسبة التالي إلى المقدم في الشرطية اللزومية؛ نحو: «إن كانت الشمس طالعة فالعالم مضيء»، ونسبته إلى العبد نسبة التالي إلى المقدم في/ [٥ أ/م] الشرطية الاتفاقية؛ نحو: «إن كان الإنسان ناطقا فالفرس صاهل».
إذ الله-﷿-مؤثر في الفعل على جهة الغلبة، والعبد ليس له منه إلا وقوعه مقارنا له على جهة الاتفاق؛ ولهذا تراه ربما أراد الفعل وسعى فيه فلا يقع، وربما كرهه وتحرز منه فيقع؛ فدل على أن المؤثر فيه غيره، وإنما العبد واسطة/ [٩/ل] لإقامة الحجة عليه.
وأما ما احتج به المعتزلة، فراجع [إما] إلى التحسين والتقبيح العقلي، وهو ممنوع، أو إلى دعوى الضرورة في غير موضعها، وهو مكابرة.
وقد بقي الكلام بين الجبرية والكسبية:
فقالت المجبرة: اتفقنا وإياكم على أن الله-﷿-هو خالق فعل العبد، وادعيتم أن هناك للعبد كسبا، ونحن ننكره، فعليكم إثباته، ولا سبيل لكم إليه؛ لأن الله-﷿-إذا خلق في العبد فعلا وقضى عليه بأمر: فإما أن يكون للعبد قدرة على التخلص من ذلك الأمر بألا يقع منه، أو لا يكون:
فإن كان له قدرة على ذلك كانت قدرته أغلب من قدرة الرب-﷿-ومشيئته أنفذ من مشيئته؛ فيكون أولى بالربوبية؛ وحينئذ يصير العبد ربا والرب عبدا، وإنه محال.
وإن لم يكن له قدرة على ذلك كان الفعل منه واجبا بمجرد الخلق ولا أثر للكسب؛ فسقط اعتباره، ولأن الكسب الذي تدعونه: إما مخلوق للعبد، وهو خلاف مذهبكم؛ إذ
1 / 22