[[NO TITLE]]
إرشاد الطالب إلى أهم المطالب
تأليف الشيخ
سليمان بن سحمان رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى ، وسلام على عباده الذين اصطفى ( أما بعد ) :-
فقد تأملت ما ذكره الأخ من المسائل التي ابتلى بالخوض فيها كثير من الناس من غير معرفة ولا إتقان ، ولا بينة ولا دليل واضح من السنة والقرآن ، وقد كان غالب من يتكلم فيها بعض المتدينين من العوام ، الذين لا معرفة لهم بمدارك الأحكام ، ولا خبرة لهم بمسالك مهالكها المظلمة العظام ، وليس لهم اطلاع على ما قرره أئمة الإسلام ، ووضحوه في هذه المباحث التي لا يتكلم فيها إلا فحول الأئمة الأعلام وهذه المسائل قد وضحها أهل العلم وقرروها وحسبنا أن نسير على منهاجهم القويم ، ونكتفي بما وضحوه من التعليم والتفهيم ، ونعوذ بالله من القول على الله بلا علم . وهذه المسائل التي أشرت إليها لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب ومن رزق الفهم عن الله وأوتي الحكمة وفصل الخطاب . ونحن وإن كنا للسنا من أهل هذا الشأن ، ولا ممن يجري الجواد في مثل هذا الميدان . فإنما نسير على منهاج أهل العلم ونتكلم بما وضحوه في هذا الباب . ولولا ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الوعيد في ذلك بقوله (( من سئل عن علم وهو يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من نار )) لضربت عن الجواب صفحا ، ولطويت عن ذلك كشحا ، ولكن مالا يدرك كله لا يترك كله ولا بد من ذكر مقدمة نافعة ليعلم من نصح نفسه وأراد نجاتها أن :
صفحة ١
كفر الجحود وكفر العمل المبادرة بالتكفير والتفسيق والهجر من غير اطلاع على كلام العلماء لا يتجاسر عليه إلا أهل البدع الذين مرقوا من الإسلام ولم يحققوا تفاصيل ما في هذه المسائل المهمة العظام ، مما قرروه وبينوه من الأحكام ، قال شيخ الإسلام ابن تيميه قدس الله روحه في ( منهاج السنة ) بعد أن ذكر أقوال أهل البدع كالمعتزلة والخوارج والمرجئة وذكر كلاما طويلا ثم قال [ وإذا كان المسلم الذي يقاتل الكفار قد يقاتلهم شجاعة وحمية ورياء وذلك ليس في سبيل الله فكيف بأهل البدع الذين يخاصمون ويقاتلون عليها فإنهم يفعلون ذلك شجاعة وحمية وربما يعاقبون لما اتبعوا أهواؤهم بغير هدى من الله لا لمجرد الخطأ الذي اجتهدوا فيه ، ولهذا قال الشافعي : لأن أتكلم في علم يقال لي فيه كفرت . فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا ، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون . وسبب ذلك أن أحدهم قد يظن ما ليس بكفر كفرا- وقد يكون كفرا لأنه تبين له أنه تكذيب للرسول وسب للخالق _ والآخر لم يتبين له ذلك فلا يلزم إذا كان هذا العالم بحاله يكفر إذا قاله أن يكفر من لم يعلم بحاله ] إلى آخر كلامه والمقصودان من مذاهب أهل البدع وطرائقهم أنهم يكفر بعضهم بعضا . ومن ممادح أهل السنة أنهم يخطئون ولا يكفرون ، فإذا تحققت هذا وجعلته نصب عينيك أفادك الحذر كل الحذر من الغلو والتعمق ومجاوزة الحد في هذه المسائل والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .
( فصل )
( قال السائل - المسئلة الأولى ) ما الكفر الذي يخرج من الملة والذي لا يخرج من _ في قولهم الكفر كفران ، وكذا الفسق فسقان .
والجواب أن نقول هذه المسألة قد أجاب عنها شيخنا الشيخ الفاضل عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في رسالته للخطيب وذكر ما ذكره شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الصلاة فقال رحمه الله .
صفحة ٢
( الأصل الرابع ) أن الكفر نوعان - كفر عمل ، وكفر جحود وعناد ، وهو أن يكفر بما علم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء به من عند الله - جحودا وعنادا - من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه التي اصلها توحيده وعبادته وحده لا شريك له وهذا مضاد للإيمان من كل وجه . وأما كفر العمل فمنه ما يضاد الإيمان كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه . وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهذا كفر اعتقاد وكذلك قوله (( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض )) وقوله (( من أتى كاهنا أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد )) - صلى الله عليه وسلم - فهذا من الكفر العملي وليس كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه وإن كان الكل يطلق عليه الكفر وقد سمى الله سبحانه من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه مؤمنا بما عمل به كافرا بما ترك العمل به .
صفحة ٣
المعاني المشتركة بين الكفر والظلم والفسق قال تعالى { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } "البقرة: من الآية84" إلى قوله { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } "البقرة: من الآية85" أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به والتزموه وهذا يدل على الآية فأخبر سبحانه تصديقهم به . وأخبر أنهم عصوا أمره وقتل فريق منهم فريقا آخرين وأخرجوهم من ديارهم وهذا كفر بما أخذ أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم ثم أخبر عليهم في الكتاب ، وكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق ، كافرين بما تركوه منه ، فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي ، وفي الحديث الصحيح (( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر )) فقرن بين سبابه وقتاله وجعل أحدهما فسوقا لا يكفر به ، والآخر كفرا ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العلمي لا الاعتقادي وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية ، والملة بالكلية ، كما لم يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان ، وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما فلا تتلقى هذه المسألة إلا عنهم . والمتأخرون لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين فريقا أخرجوا من الملة بالكبائر وقضوا على أصحابها بالخلود في النار ، وفريقا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان ، فأولئك غلوا وهؤلاء جفوا ، وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل . فهاهنا كفر دون كفر ، ونفاق دون نفاق ، وشرك دون شرك وظلم دون ظلم فعن ابن عباس في قوله تعالى { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } "المائدة: من الآية44" قال : ليس هو الكفر الذي تذهبون إليه . رواه سفيان وعبد الرزاق وفي رواية أخرى كفر لا ينقل عن الملة .
صفحة ٤
وعن عطاء كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق . وهذا بين في القرآن لمن تأمله فإن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا وسمى الجاحد لما أنزل الله على رسوله كافرا وسمى الكافر ظالما في قوله { والكافرون هم الظالمون } "البقرة: من الآية254" وسمى من يتعدى حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالما وقال { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } "الطلاق: من الآية1" وقال يونس عليه السلام { إني كنت من الظالمين } "الأنبياء: من الآية87" وقال آدم { ربنا ظلمنا أنفسنا } "الأعراف: من الآية23" وقال موسى { رب إني ظلمت } "القصص: من الآية16" وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم وسمى الكافر فاسقا في قوله { وما يضل به إلا الفاسقين } "البقرة: من الآية26"وقوله { ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون } "البقرة:99" وسمى العاصي فاسقا في قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } "الحجرات: من الآية6" وقال في الذين يرمون المحصنات { وأولئك هم الفاسقون } "النور: من الآية4" وقال { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } "البقرة: من الآية197" وليس الفسوق كالفسوق .
وكذلك الشرك شركان شرك ينقل عن الملة وهو الشرك الأكبر وشرك لا ينقل عن الملة وهو الأصغر كشرك الرياء وقال تعالى في الشرك الأكبر { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } "المائدة: من الآية72"
صفحة ٥
الاستدراك على كون الحكم بغير المنزل كفر عمليا وقال { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير } "الحج: من الآية31" الآية وقال في شرك الرياء { فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } "الكهف: من الآية110" وفي الحديث (( من حلف بغير فقد أشرك )) ومعلوم أن حلفه بغير الله ولا يخرجه عن الملة ولا يوجب له حكم الكفار ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - (( الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل )) فانظر كيف انقسم الكفر والفسوق والظلم إلى ما هو كفر ينقل عن الملة والى مالا ينقل عنها .
وكذلك النفاق نفاقان نفاق عمل ونفاق الاعتقاد مذكور في القرآن في غير موضع أوجب لهم تبارك وتعالى به الدرك الأسفل من النار ونفاق العمل جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم - (( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر ، وإذا ائتمن خان )) وكقوله - صلى الله عليه وسلم - (( آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب ، وإذا ائتمن خان وإذا وعد أخلف )) قال بعض الأفاضل وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فإن الإيمان ينهي عن هذه الخلال فإذا كملت للعبد لم يكن له ما ينهاه عن شيء منها فهذا لا يكون إلا منافقا خالصا انتهى .
صفحة ٦
فانظر رحمك الله إلى ما ذكره العلماء من أن الكفر نوعان كفر اعتقاد ، وجحود وعناد ، فأما كفر الجحود والعناد فهو أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودا وعنادا من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه التي أصلها توحيده وعبادته وحده لا شريك له ، وهذا مضاد للإيمان من كل وجه فهذا هو الذي يخرج من الملة الإسلامية لأنه يضاد الإيمان من كل وجه ، وأما النوع الثاني فهو كفر عمل وهو نوعان أيضا مخرج من الملة وغير مخرج منها ، فأما النوع الأول فهو يضاد الإيمان كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه والنوع الثاني كفر عمل لا يخرج من الملة كالحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهذا كفر عمل لا كفر اعتقاد وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - (( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض )) وقوله - صلى الله عليه وسلم - (( من أتى كاهنا فصدقه أو أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد )) - صلى الله عليه وسلم - فهذا من الكفر العملي وليس كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه وإن كان الكل يطلق عليه الكفر إلى آخر ما ذكر رحمه الله . لكن ينبغي أن يعلم أن من تحاكم إلى الطواغيت أو حكم بغير ما أنزل الله واعتقد أن حكمهم أكمل وأحسن من حكم الله ورسوله فهذا ملحق بالكفر الاعتقادي [ بل هو منه لأنه اعتقد أن حكم الطاغوت خير من حكم الله ] المخرج من الملة كما هو مذكور في نواقض الإسلام العشرة .
التحاكم إلى الطاغوت والجواب عنه
أما من لم يعتقد ذلك لكن تحاكم إلى الطاغوت وهو يعتقد أن حكمه باطل فهذا من الكفر العملي .
صفحة ٧
فإذا تبين لك هذا فاعلم أن الإيمان أصل له شعب متعددة كل شعبة منها تسمى أيمانا فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، فمنها ما يزول الإيمان بزواله إجماعا كشعبة الشهادة ومنها مالا يزول بزواله إجماعا كترك إماطة الأذى عن الطريق ويكون أقرب إليها أقرب ومنها ما يحلق بشعبة إماطة الأذى عن الطريق . وبين هاتين الشعبتين شعب متفاوتة منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون أقرب إليها ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى الطريق ويكون إليها أقرب . والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها مخالف للنصوص وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها .
صفحة ٨
وكذلك الكفر أيضا ذو أصل وشعب فكما أن شعب الإيمان إيمان فشعب الكفر كفر ، والمعاصي كلها من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان ولا يسوى بينهما في الأسماء والأحكام ، وفرق بين من ترك الصلاة والزكاة والصيام وأشرك بالله أو استهان بالمصحف وبين من سرق أو زنى أو شرب أو انتهب أو صدر منه نوع من موالاة ( الكفار ) كما جرى لحاطب فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام أو سوى بين شعب الكفر في ذلك فهو مخالف للكتاب والسنة خارج عن سبيل سلف الأمة داخل في عموم أهل البدع والأهواء وقد تبين لك مما قدمناه من كلام ابن القيم وكلام شيخنا الشيخ عبد اللطيف من أن الكفر كفران ، وإن الفسق فسقان ، والشرك شركان والظلم ظلمان ، والنفاق نفاقان على ما ذكراه من التفصيل وقررا عليه من الأدلة من الكتاب والسنة ، وذكرا أن هذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما فلا تتلقى هذه المسألة إلا عنهم ، والمتأخرون لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين فريقا أخرجوا من الملة بالكبائر وقضوا على أصحابها بالخلود في النار وفريقا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان ، فأولئك غلوا ، وهؤلاء جفوا وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى ، والقول الوسط الذي في المذاهب كالإسلام في الملل .
( فصل)
( وأما المسألة الثانية - وهي قول السائل ) مالتحاكم إلى الطاغوت الذي يكفر به من فعله من الذي لا يكفر ؟
( فالجواب ) أن نقول قد تقدم الجواب عن هذه المسألة مفصلا في كلام شمس الدين ابن القيم وكلام شيخنا فراجعه واعلم أن هذه المسائل مزلة أقدام ، ومضلة أفهام ، فعليك بما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول ( والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ) .
(فصل)
(أما المسألة الثالثة - وهي قول السائل) ما الإعراض الذي هو ناقض من نواقض الإسلام ؟ ما حكمه هل يطلق على كل معرض أم لا ؟
بيان ما يتحقق به الإعراض
صفحة ٩
( فالجواب ) أن نقول : أن هذه المسألة هي مسألة الجاهل المعرض وقد ذكر أهل العلم أن الإعراض نوعان نوع مخرج من الملة ونوع لا يخرج من الملة ، فأما الذي يخرج من الملة فهو الإعراض عن دين الله لا يعلمه ولا يتعلمه كما هو مذكور في نواقض الإسلام العشرة وهذا المعرض هو الذي لا إرادة له في تعلم الدين ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه بل هو راض بما هو عليه من الكفر بالله والإشراك به لا يؤثر غيره ولا تطلب نفسه سواه . وأما الذي لا يخرج من الملة فهو المعرض العاجز عن السؤال والعلم الذي يتمكن به من العلم والمعرفة مع ارادته للهدى وإيثاره له ومحبته له لكنه غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم المرشد .
صفحة ١٠
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في ( الكافية الشافية في الإنتصار للفرقة الناجية ) وفي طبقات المكلفين من كتاب طريق الهجرتين أن القسم الثاني من العاجزين عن السؤال والعلم الذي مؤثر له محب له غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم المرشد فهذا حكمه حكم أرباب الفترات لم تبلغه الدعوة ( الثاني ) معرض لا إرادة له ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه فالأول يقول يا رب لو أعلم لك دينا خيرا مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي والثاني راض بما هو عليه لا يؤثر غيره وتطلب نفسه سواه ولا فرق بين حال عجزه وقدرته ، وكلاهما عاجز ، وهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق فالأول لمن طلب الدين في الفترة فلم يظفر به فعدل بعد استفراغه الوسع في طلبه عجزا أو جهلا والثاني لمن لم يطلبه بل مات على شركه وإن كان لو طلبه لعجز عنه ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض .
صفحة ١١
هذا ملخص ما ذكره ابن القيم وقد ذكرناه بتمامه في جواب المسألة التي سأل عنها أحمد ابن دهش فراجعه فيها لكن ينبغي أولا أن يعلم أن العوام من المسلمين وكذلك البوادي ممن كان ظاهره الإسلام لا يكلفون بمعرفة تفاصيل الإيمان بالله ورسوله وتفاصيل ما شرعه الله ورسوله وتفاصيل الإيمان بالله ورسوله وتفاصيل ما شرعه الله من الأحكام لأن ذلك ليس في طاقتهم ولا في وسعهم و{ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } بل يكتفي منهم بالإيمان العام المجمل كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيميه قدس الله روحه في كتاب الإيمان وقال في ( منهاج السنة ) لا ريب أن يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إيمانا عاما مجملا ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - على التفصيل فرض على الكفاية فإن ذلك داخل في تبليغ ما بعث الله به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وداخل في تدبر القرآن وعقله وفهمه وعلم الكتاب والحكمة وحفظ الذكر والدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي احسن ونحو ذلك ، فما أوجبه على المؤمنين فهو واجب على الكفاية منهم ، وأما ما وجب على أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدرتهم
إيمان عبد الله بن حمار وحاطب وذنبهما
وحاجتهم ومعرفتهم ، وما أمر به أعيانهم ولا يجب على العاجز عن سماع بعض العلم أو عن فهم دقيقه ما يجب على القادر ذلك ويجب على من سمع النصوص وفهمها على التفصيل ما لا يجب على من لم يسمعها ، ويجب على المفتي والمحدث والمجادل ما لا يجب على من ليس كذلك . انتهى والله أعلم .
(فصل)
(المسألة الرابعة - قول السائل ) ما الشخص الذي يحب جملة ومن الذي يحب من وجه ومن يبغض من وجه والذي يبغض جملة ؟
صفحة ١٢
( الجواب ) أن نقول الشخص الذي يحب جملة هو من آمن بالله ورسوله وقام بوظائف الإسلام ، ومبانيه العظام ، علما وعملا واعتقادا وأخلص أعماله وأفعاله وأقواله لله وانقاد لأوامره وانتهى عما نهى الله عنه ورسوله وأحب في الله ووالى في الله وأبغض في الله وعادى في الله وقدم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قول كل أحد كائنا من كان إلى غير ذلك من القيام بحقوق الإسلام وشرائعه . وأما الذي يحب جملة من وجه ويبغض جملة من وجه آخر فهو المسلم الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا فيحب ويوالى على قدر ما معه من الخير ويبغض ويعادى على قدر ما معه من الشر ومن لم يتسع قلبه لهذا كان ما يفسد أكثر مما يصلح وهلاكه أقرب إليه من أن يفلح .
صفحة ١٣
وإذا أردت الدليل على ذلك فهذا عبد الله بن حمار وهو رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يشرب الخمر فأتي به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلعنه رجل وقال ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله )) مع أنه لعن الخمر وشاربها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وتأمل قصة حاطب بن أبي بلتعة وما فيها من الفوائد فإنه هاجر إلى الله ورسوله وجاهد في سبيله لكن حدث منه أنه كتب بسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين من أهل مكة يخبرهم بشأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومسيره لجهادهم ليتخذ بذلك يدا عندهم يحمي بها أهله وماله بمكة فنزل الوحي بخبره وكان قد أعطى الكتاب ظعينة جعلته في شعرها فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليا والزبير في طلب الظعينة وأخبرهما أنهما يجدانها في روضة خاخ فكان ذلك كذلك فتهدداها حتى أخرجت الكتاب من ضفائرها ، فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا حاطب بن أبي بلتعة فقال له ما هذا ؟ فقال يا رسول الله إني لم أكفر بعد إيماني ولم أفعل هذا رغبة عن الإسلام وإنما أردت أن تكون لي عند القوم يد أحمي بها أهلي ومالي فقال - صلى الله عليه وسلم - (( صدقكم خلوا سبيله )) واستأذن عمر في قتله فقال : دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال (( وما يدريك لعل الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم )) وأنزل الله في ذلك صدر سورة الممتحنة فقال { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } "الممتحنة: من الآية1"الآيات فدخل حاطب في المخاطبة
صفحة ١٤
موالاة المؤمن وإن عصى وظلم ضد ذلك اسم الإيمان ووصفه به وتناوله النهي بعمومه وله خصوص السبب الدال على إرادته مع أن في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع من موالاة وأنه أبلغ بالمودة فإن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل لكن قوله (( صدقكم خلوا سبيله )) ظاهر في أنه لا يكفر بذلك إذا كان مؤمنا بالله ورسوله غير شاك ولامرتاب وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي ولو كفر لما قيل خلوا سبيله لا يقال قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )) هو المانع من تكفيره لإنا نقول لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنعه من لحاق الكفر وأحكامه فإن الكفر يهدم ما قبله لقوله تعالى { ومن يكفر بالأيمان فقد حبط عمله } "لمائدة: من الآية5" وقوله تعالى { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } "لأنعام: من الآية88" والكفر محبط للحسنات والإيمان بالإجماع فلا يظن هذا .
صفحة ١٥
ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } "الحجرات من الآية 9"إلى قوله { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } "لحجرات: من الآية10" فجعلهم اخوة مع وجود الاقتتال والبغي وأمر بالإصلاح بينهم ، وكان مسطح ابن أثاثة من المهاجرين والمجاهدين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان ممن سعى بالإفك فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحد عليه وجلده وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه لقرابته وفقره فآلى أبو بكر أن لا ينفق عليه بعد ما قال لعائشة ما قال فأنزل الله { ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم } "لنور: من الآية22" فقال أبو بكر بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي ، فأعاد عليه نفقته . وأمثال هذا كثير لو تتبعناه لطال الكلام .
صفحة ١٦
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيميه والمؤمن عليه أن يعادي في الله ويوالي في الله فإذا كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية لقوله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } " الحجرات من الآية 9 " إلى قوله { إنما المؤمنون إخوة } "الحجرات من الآية 10" فجعلهم أخوة موجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وان ظلمك واعتدى عليك والكافر تجب معاداته وان أعطاك وأحسن إليك فان الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه الثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة فيجتمع له من هذا وهذا كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه فلم يجعلوا الناس لا مستحقا
الموالاة والمعاداة ، والحب والبغض
للثواب فقط ولا مستحقا للعقاب فقط وأهل السنة يقولون أن الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه ثم يخرجهم منها بشفاعة من يأذن له فى الشفاعة بفضل رحمته كما استفاضت بذلك السنة عن النبى - صلى الله عليه وسلم - والله سبحانه وتعالى أعلم وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين"فتاوى ابن تيميه ج28/ص208- 209-210" .
صفحة ١٧
وقال رحمه الله في موضع آخر :من سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه وأعطى الحق حقه فيعظم الحق ، ويرحم الخلق ، ويعلم أن الرجل الواحد يكون له حسنات وسيئات فيحمد ويذم ، ويثاب ويعاقب ، ويحب من وجه ويبغض من وجه . هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم كما قد بسط هذا في موضعه والله أعلم .
فانظر رحمك الله إلى ما قرره شيخ الإسلام في مسئلة الهجر أن الرجل الواحد يجتمع فيه خير وشر ، وبر وفجور ، وطاعة ومعصية ، وسنة وبدعة ، فيستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر ، فيجتمع في الشخص الواحد موجبا الأكرام والإهانة إلى آخر كلامه فمن أهمل هذا ولم يراع حقوق المسلم التي يستحق بها الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير ، وكذلك يراعى ما فيه من الشر والمعصية والفجور والبدعة وغير ذلك فيعامله بما يستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر - فمن ترك هذا[ قوله فمن ترك - أعاده لقوله : فمن أهمل - لبعده وهو مبتدأ خبره - سلك مسلك أهل البدع ] وأهمله سلك مسلك أهل البدع من الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه فلم يجعلوا الناس إلا مستحقا للثواب فقط أو مستحقا للعقاب فقط ، فإن هذا مخالف لما قاله أهل السنة والجماعة .
ثم انظر إلى غالب ما يفعله من يستعمل الهجر من الناس هل هو متبع لما عليه أهل السنة والجماعة أو متبع لما عليه أهل البدع من الخوارج وغيرهم ؟ وكذلك تأمل قوله رضي الله عنه ( ومن سلك طريق الاعتدال - إلى قوله - ويعلم أن الرجل الواحد يكون له حسنات وسيئات ، فيحمد ويذم ، ويثاب ويعاقب ، ويحب من وجه ويبغض من وجه ، إلى آخر كلامه . يتبين [ قوله يتبين لك الخ جواب لقوله : ثم انظر إلى غالب ما يفعله الخ ] معنى ما قدمته لك مما عليه أهل السنة والجماعة ومن خالفهم .
صفحة ١٨
وأما الذي يبغض جملة فهو من كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ولم يؤمن بالقدر خيره وشره ، وأنه كافر بقضاء الله وقدره ، وأنكر البعث بعد الموت وترك أحد أركان الإسلام
الهجر المشروع ما كانت مصحلته راجحة
الخمسة ، وأشرك بالله سبحانه وتعالى في عبادته أحدا من الأنبياء والأولياء والصالحين ، وصرف لهم نوعا من أنواع العبادة كالحب والدعاء والخوف والرجاء ، والتعظيم والتوكل والاستغاثة ، والإستعاذة والإستعانة والذبح والنذر والإنابة ، والذل والخضوع والخشوع والخشية ، والرغبة والرهبة ، والتعلق على غير الله في جميع الطلبات ، وكشف الكربات وإغاثة اللهفات ، وجميع ما كان يفعله عباد القبور اليوم عند ضرائح الأولياء والصالحين وجميع المعبودات . وكذلك من ألحد في أسمائه وصفاته واتبع غير سبيل المؤمنين وانتحل ما كان عليه أهل البدع والأهواء المضلة . وكذلك من قامت به نواقض الإسلام العشرة أو أحدها - وبالجملة فهو من ترك جميع المأمورات ، وارتكب جميع المحظورات . والله أعلم .
(فصل)
( المسألة الخامسة ) قول السائل : والهجر هل هو في حق الكافر أو المسلم ؟ وإذا كان في حق المسلم العاصي فما القدر الذي ينبغي أن يهجر لأجله ؟ وهل يفرق بين الأحوال والأشخاص والأزمان ؟ وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
صفحة ١٩
( والجواب ) أن نقول : اعلم يا أخي أولا أن الهجر إن لم يقصد به الإنسان بيان الحق و، وهدي الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم لم يكن عمله صالحا ، وإذا غلظ في ذم بدعه أو معصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ، ليحذرها العباد ، كما في نصوص الوعيد وغيرها . وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيرا والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان ، لا التشفي والانتقام ، كما هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه الثلاثة الذين خلفوا لما جاء المتخلفون من الغزاة يعتذرون ويحلفون ، وكانوا يكذبون ، وهؤلاء الثلاثة صدقوا وعوقبوا بالهجر ، ثم تاب الله عليهم ببركة الصدق .
إذا تحققت هذا فالهجر المشروع إنما هو في حق العصاة والمذنبين لا في حق الكافر فإن عقوبته على كفره أعظم من الهجر ، وهجر العصاة المذنبين من أهل الإسلام إنما هو على وجه التأديب فيراعى في الهجر أو الترك منا سيأتي بيانه .
وهذه المسألة قد كفانا الجواب عنها شيخ الإسلام ابن تيميه قدس الله روحه فقال : الهجر الشرعي نوعان أحدهما بمعنى الترك للمنكرات والثاني بمعنى العقوبة عليها فالأول هو المذكور في قوله تعالى { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } "الأنعام:68" { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم } "النساء: من الآية140" يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة مثل قوم يشربون الخمر يجلس عندهم وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم وأمثال ذلك بخلاف من حضر عندهم
صفحة ٢٠