بسم الله الرحمن الرحيم
صفحة ٢
وبه نستعين الحمد لله رب العالمين ، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، كما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد أن لا إله إلا الله الأحد الصمد ، الغني الذي يفتقر إليه كل ما في الكون طولا وعرضا ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، الفاتح الخاتم ، المبعوث بدين الحق ليظهره على الدين كله ؛ فأبانه نفلا وفرضا ، صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله وأصحابه وتابعيهم بإحسان وسلم ، صلاة وسلاما فائضي البركات ، يملآن سماء وأرضا .
أما بعد ...
صفحة ٣
فقد قال الله : [ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا ] (¬1) وقال تعالى : [واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين ] (¬2) أي : فيما بين ذلك ، وإنما يتحقق ذلك بالحضور مع الله سبحانه في جميع تقلباته ، في الأشغال والمهمات ، وأقل درجات ذلك أن يستحضرعندما يتوجه لفعل ما هو مطلوب ، الفعل فرضا أوسنة ، أن الله أمر بهذا وجوبا أو ندبا ، وعند ترك ما هو مطلوب ، الترك محرما أو مكروها أن الله نهى عن هذا ، وعند المباح أن الله أباح هذا ، ولولا أنه أباحه لما فعلته ، فإن ضم إلى هذا نية صالحة أخرى فهو أزكى ، وتتفاوت الدرجات في ذلك على حسب تفاوت مراتب الهمة ، والفهم عن الله سبحانه ؛ فتتفاوت لذلك درجات كمال الاتباع ، فكامل ، وأكمل ، قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى : ( وما تقرب إلي [ عبدي ] (¬3) بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه [فإذا أحببته ] (¬4) كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ) .
صفحة ٤
زاد في غير رواية البخاري : ( وفؤاده الذي يعقل به ، ولسانه الذي يتكلم به ) ، والمراد بالنوافل جميع ما يندب من الأقوال والأفعال ، فعلى طالب الحق سبحانه أن يسلك بعد أداء ما افترض عليه طريق التقرب بالنوافل بالتزام ما يطيقه من مندوبات الأقوال والأفعال بخالص العبودية ، فإنها تنتج المحبة الإلهية المنتجة ، لما ذكر في الحديث .
صفحة ٥
فمن أراد العمل على ذلك فعليه بالذكر بالغدو والآصال ، وأن لا يكون من الغافلين فيما بين ذلك عند تقلباته في الأشغال ، وأفضل الذكر لا إله إلا الله ، لحديث ( أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله ) فإن كان متجردا عن الأسباب فلينقطع للذكر ، وإن كان من أهل / الأسباب فليجعل منه وردا 2 ب بحسب الفراغ ، ومن الوسط أن يقول : لا إله إلا الله ألفا بعد كل من الصبح والعشاء والتهجد ، وعند الغدو يأخذ بالعشر ، والاستغفار مائة بعد كل من الأوقات الثلاثة ، فقد ورد : (من أكثر من الاستغفار ، جعل الله له من كل هم فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا ، ورزقه من حيث لا يحتسب ) ، وورد ( إن للقلوب صدأ كصدأ الحديد ، جلاؤها الاستغفار ) ، ويعمل بمضمون حديث ( من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كل يوم سبعا وعشرين مرة ، كان من الذين يستجاب لهم ، ويرزق بهم أهل الأرض ) ، ويكون ذلك بعد الصبح ، ويعمل بمضمون حديث ( من استغفر دبر كل صلاة ثلاث مرات ، فقال : أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ، وأتوب إليه ، غفرت له ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف ) ، ويقول بعد الصبح كل يوم : لا إله إلا الله وحده , لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، يحيى ويميت ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير عشر مرات ، وإن تيسر بعد كل فريضة ، فهو أولى ، فقد ورد بذلك الحديث أيضا ، ويقول بعد كل من الصبح والعصر : اللهم صل على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه ، عدد خلقك بدوامك عشرا ، ويقول بعد العاشرة : وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ، وعلى آلهم وصحبهم والتابعين ، وعلى أهل طاعتك أجمعين من أهل السموات ، وأهل الأرضين ، وعلينا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين ، عدد خلقك ، ورضى نفسك ، وزنة عرشك ، ومداد كلماتك ، كلما ذكرك الذاكرون ، وغفل عن ذكرك [ الغافلون ] (¬1) ، وإن جعل بعد كل فريضة عشرا فهو أزكى ، وقد ورد ( من صلى علي حين يصبح عشرا ، وحين يمسي عشرا ، أدركته شفاعتي يوم القيام ) أخرجه الطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، وورد ( من سره أن يلقى الله عز وجل راضيا فليكثر الصلاة علي ) أخرجه الديلمي عن عائشة رضي الله عنها ، والإخلاص بعد كل فريضة عشرا ، فقد ورد ( من قرأ قل هو الله أحد خمسين مرة غفر الله له ذنوب خمسين سنة ) أخرجه أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه ، وبعد ركعتي الضحى بسورتها ، والشمس وضحاها (¬2) ، يقول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، عدد خلق الله ، بدوام الله عشرا .
صفحة ٧
ويس وتبارك كل صباح ومساء ، ويزيد في المساء بعد المغرب سورة ( ألم ) السجدة ، وإن ضاق عن يس في الليل ف ( ألم ) وتبارك ، فقد صح عن جابر رضي الله عنه أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ ( ألم ) تنزيل ، السجدة / وتبارك الذي بيده الملك ، وورد مرفوعا : 3 أ( ألم تنزيل ، السجدة ، تجيء لها جناحان يوم القيامة تظل صاحبها ، وتقول : لا سبيل عليه ، لا سبيل عليه ) وعن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا : ( من قرأ تبارك الذي بيده الملك ، وألم تنزيل ، السجدة ، بين المغرب والعشاء الآخرة فكأنما قام ليلة القدر ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : ( من صلى أربع ركعات بعد العشاء الآخرة ، قرأ في الركعتين الأوليين قل يا أيها الكافرون ، وقل هو الله أحد ، وفي الركعتين الأخريين تبارك الذي بيده الملك ، وألم تنزيل ، السجدة ، كتبن له كأربع ركعات من ليلة القدر ) وأما يس فمن حديث أنس مرفوعا عند الترمذي وغيره ( من قرأ يس كتب الله بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات ) وعن عقبة بن عامر ، وابن عباس ، وأبي برزة مثله ، ومن حديث قلابة عند البيهقي في شعب الإيمان : ( من قرأها فكأنما قرأ القرآن أحد عشر مرة ) ، ومن حديث معقل بن يسار عند أحمد وأبي داود والنسائي وغيرهم مرفوعا ( يس قلب القرآن ، لا يقرؤها عبد يريد الله والدار الآخرة إلا غفر الله له ما تقدم من ذنبه ) وورد ( من صلى ست ركعات بعد المغرب ، قبل أن يتكلم غفر له بها ذنوب خمسين سنة ) .
صفحة ٨
وورد ( من صلى بين المغرب والعشاء فإنها من صلاة الأوابين ) ، ويقول بعد ركعتي المغرب : مرحبا بملائكة الليل .. إلى آخر الدعاء المذكور في العوارف (¬1) ، وينوي بعد ركعتي المغرب في ركعتين منها ، حفظ الإيمان مع الأوابين ، ويقول بعد السلام : اللهم سددني بالإيمان ، واحفظه علي في حياتي ، وعند وفاتي ، وبعد مماتي ، كما وصى به الشيخ محيى الدين قدس سره في باب الوصايا في الفتوحات المكية ، قال : يقرأ فيهما الإخلاص ستا ، والمعوذتين مرة مرة ، وركعتين بعدهما بنية الأوابين فقط ، وركعتين بعدهما بنية الأوابين مع الاستخارة ، أي المطلقة التي يعملها أهل الله كل يوم لأعمال الليل والنهار ، قال الشيخ محيى الدين قدس سره : جربنا ذلك فوجدنا عليه كل خير ، ويقول في موضع الحاجة : اللهم إن كنت تعلم أن جميع ما أتحرك فيه في حقي ، وفي حق غيري ، وجميع ما يتحرك فيه غيري في حقي وفي حق أهلي وولدي ، وما ملكت يميني من ساعتي هذه إلى مثلها من اليوم الآخر خير لي ، ويذكر الدعاء إلى آخره ، وكذلك في مقابله ، وقد أفردنا في ذلك رسالة (¬2) ، وأوضحنا فيها موافقتها للسنة ، كما ذكره المجد الفيروزابادي في سفر السعادة ، والسيد السمهوري في جواهر العقدين ، وذكرنا الجواب على اعتراض الشيخ ابن حجر على الشيخ شهاب الدين السهروردي قدس سره .
صفحة ٩
ويقول بعد كل فريضة: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ، وأتوب إليه / ثلاث مرات ، ثم يقول : اللهم أنت السلام ... الخ ، ثم الفاتحة 3ب [ وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ] (¬1) ، ثم يقول : اللهم إني أقدم إليك بين يدي كل نفس ولحظة ولمحة وطرفة يطرف بها أهل السموات ، وأهل الأرض من كل شيء هو كائن في علمك ، أو قد كان ، اللهم إني أقدم إليك بين يدي ذلك كله ، [الله لا إله إلا هو الحي القيوم] ... إلى قوله [العلي العظيم] (¬2) ، ثم [شهد الله أنه لا إله إلا هو] ... إلى قوله : [إن الدين عند الله الإسلام] (¬3) ، فيقول بعده : وأنا أشهد بما شهد الله به ، وأستودع الله هذه الشهادة ، وهي لي عند الله وديعة ، ثم يقول : [قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء]...
صفحة ١٠
إلى قوله : [ بغير حساب ] (¬1) ، ثم يقول : اللهم يا رحمن الدنيا والآخرة ، رحيمهما ، رحماني أنت ، ترحمني ، فارحمني برحمة من عندك ، تغنيني بها عن رحمة من سواك ، ثم يقول : سبحان الله ( 33 ) مرة ، والحمد لله ( 33 ) مرة ، الله أكبر ( 33 ) ، ثم لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، يحيى ويميت ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا راد لما قضيت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم ، [إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما] (¬2) الآية ، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يدعو بما أحب ، ثم يختم ب [سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين] (¬3) الآية (¬4) .
ثم لا إله إلا الله عشر مرات ، هذا بعد كل فريضة .
صفحة ١١
وصل : عن علي رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن فاتحة الكتاب ، وآية الكرسي ، والآيتين من آل عمران شهد الله أنه لا إله إلا هو ، وقل اللهم مالك الملك ... إلى وترزق من تشاء بغير حساب ، معلقتان بالعرش ما بينهن وبين الله حجاب ، قلن يا رب تهبطنا إلى أرضك ، وإلى من يعصيك ، فقال الله عز وجل : حلفت لا يقرأكن أحد من عبادي دبر كل صلاة إلا جعلت الجنة مثواه على ما كان منه ، وإلا أسكنته حظيرة القدس ، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة كل يوم سبعين نظرة ، وإلا قضيت له كل يوم سبعين حاجة ، أدناها المغفرة ، ولأعيذه من النار ، ومن كل عدو ، ونصرته عليه) . أخرجه ابن حبان في الضعفاء ، وابن السني في عمل اليوم والليلة ، وأبو منصورالشحامي في الأربعين ، كما في الجامع الكبير للحافظ جلال الدين السيوطي ، قال : وقد سئل الحافظ أبو الفضل العراقي عن هذا الحديث فقال : رجال إسناده وثقهم المتقدمون ، وتكلم في بعضهم المتأخرون ، وساق الكلام في رجاله ، إلى أن قال : وقد أفرط ابن الجوزي ، فذكر هذا الحديث في الموضوعات ، ولعله استعظم ما فيه من الثواب ، وإلا فحال رواته كما ترى ، انتهى .
/ ومن حديث ابن عباس عند الحكيم الترمذي ، عن جبريل عليه السلام( إن 4 أربك يقول : من قال في دبر كل صلاة مكتوبة مرة واحدة : اللهم إني أقدم اليك بين يدي كل نفس ولمحة وطرفة يطرف بها أهل السموات ، وأهل الأرض من كل شيء هو كائن في علمك ، أو قد كان ، أقدم بين يدي ذلك كله ، الله لا إله إلا هو الحي القيوم ... إلى قوله العلي العظيم ، فإن الليل والنهار أربع وعشرون ساعة ليس منها ساعة إلا يصعد إلي منه فيها سبعون ألف ألف حسنة حتى ينفخ في الصور ، وتشغل الملائكة ) .
صفحة ١٢
وهذا ما وصى به الشيخ محيى الدين قدس سره في الباب (560 ) من الفتوحات ، قال : وكذلك تقول في إثر كل صلاة فريضة إذا سلمت منها ، قبل الكلام : اللهم إني أقدم إليك بين يدي كل نفس ولمحة ولحظة وطرفة يطرف بها أهل السموات ، وأهل الأرض وكل شيء هو كائن في علمك ، أو قد كان ، اللهم إني أقدم إليك بين يدي ذلك كله ، الله لا إله إلا هو الحي القيوم ... الخ ، فقيد بقوله قبل الكلام ، وزاد لحظة واللهم وذكر مكان من الواو ، فليواظب الراغب في الخيرات على ذلك ، ففيه خير كثير ، وبالله التوفيق .
وعن الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه المسمى بالدلالة على الله تعالى ، عن سيدنا الخضر عليه السلام أنه سأل من اجتمع بهم من الأنبياء عن استعمال شيء يأمن به العبد من سلب الإيمان فلم يجبه ، حتى اجتمع بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فسأله عن ذلك ، فسأل عنه جبريل عليه السلام ، فسأل عنه رب العزة ، فقال الله عز وجل : من واظب (¬1) على قراءة آية الكرسي ، [ وآمن الرسول ]... إلى أخر السورة ، [ وشهد الله ] ... إلى قوله [ الإسلام] ، و[ قل اللهم مالك الملك ] ... إلى [ بغير حساب ] ، وسورة الإخلاص ، والمعوذتين ، والفاتحة عقب كل صلاة أمن من سلب الإيمان ، انتهى .
فينبغي أن يجمع بين الروايتين ، فيزيد [ آمن الرسول ] بعد آية الكرسي والإخلاص والمعوذتين ، بعد قوله [ بغير حساب ] ، والدعاء المذكور بعده .
صفحة ١٣
ويقول كل يوم بعد الصبح : يا الله ، يا واحد ، يا أحد ، يا جواد انفحني منك بنفحة خير ، إنك على ما تشاء قدير ( 11 ) مرة ، ويكون ابتداؤه من يوم الخميس ، بعد قراءة الفاتحة . لغوث الثقلين قدس سره ، ومشايخ السلسلة من السابقين واللاحقين ، كما شرطه المشايخ ، قال شيخنا قدس سره : وهو عمل غوث الثقلين ، وصل إلى هذا الفقير من شيخه ، ومفتاح قفل نشأته ، الأكمل أحمد بن علي الشنأوي قدس سره ، انتهى .
ويقول : يا عزيز كل يوم بعد الصبح أيضا ( 41 ) مرة ، ويا إله الآلهة ، الرفيع جلاله( 15 ) مرة، ويا قيوم، فلا يفوت شيء من علمه، ولا يؤده ( 27 ) مرة ، وإن وسع الوقت قال: سبحان الله وبحمده /سبحان الله العظيم ( 100)4ب
وورد ( من قال : سبحان الله وبحمده ، وأستغفر الله ، وأتوب إليه كتبت كما قالها ، ثم علقت بالعرش ، لا يمحوها ذنب عملها صاحبها حتى يلقى الله (¬1) ، وهي مختومة (¬2) كما قالها ) ، رواه الطبراني عن ابن عباس .
وورد من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر .
صفحة ١٤
ويصوم ثلاثة أيام من كل شهر ، ومن زاد زاده الله ، وصح عن علي وابن عباس ، وغيرهما رضي الله عنهم حديث صوم شهر الصبر ، وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وضر الصدر ، الوضر : الحقد ، والغيظ ، والغش ، وما يفيد التخلية من مهمات السالك العامل على جلاء قلبه ، مع ما صح من حديث صوم شهر الصبر ، وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر ، وفي رواية صوم الدهر وإفطاره ، فإن وجد من نفسه قوة فليصم من شوال ستا ، ومن ذي الحجة التسع الأول ، وهذا ورد شيخنا قدس سره ، حتى أنه ما ترك صومها في آخر سني عمر ، وكانت وفاته قدس سره في ذي الحجة من شهور سنة ( 1071 ) الموافق لسنة ( 81 ) من عمره قدس سره ، ولم يفطر مع كون الصوم شاقا عليه لكبر السن ، وضعف البدن ، وحرارة الوقت ، لكونه وافق صيف الحجاز ، روح الله روحه ، وأعلى في المقربين فتوحه ، آمين .
وعن جابر : ( من صام العشر كتب بكل يوم صوم سنة، غير يوم عرفة ، فإنه من صام يوم عرفة كتب له صوم سنتين ) ، رواه ابن النجار ، كما في الجامع الكبير للسيوطي .
وعن أبي هريرة : ( ما من أيام من أيام الدنيا أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من أيام العشر ، يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة ، وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر) ، رواه البيهقي ، وغيره .
وعن ابن عباس : ( ما من أيام أفضل عند الله ، ولا العمل فيهن أحب إلى الله تعالى من هذه العشر ، فأكثروا فيها من التهليل والتكبير (¬1) ، وإن صيام يوم منها يعدل صيام سنة ، والعمل فيها يضاعف سبعمائة ضعف) . رواه البيهقي . وشيخنا الإمام قدس سره كان يأمر أصحابه بإحياء هذه الليالي العشر بقراءة القرآن كل ليلة عشرة أجزاء بالمدارسة ، ففي كل ثلاث ليال ختمة ، وليلة العيد ختمة كاملة بالتقسيم .
صفحة ١٥
هذا ومن الأيام الفاضلة يوم عاشوراء ، ويوم النصف من شعبان (¬1) ، وورد في فضائل رجب أحاديث بأسانيد ضعيفة ، لا بأس بالعمل بها ، فإن وجد من نفسه قوة فليعمل بها رجاء فضل الله ، فمنها : ( صوم أول رجب كفارة ثلاث سنين ، والثاني كفارة سنتين ، والثالث كفارة سنة ، ثم كل يوم شهر )، رواه الخلال عن ابن عباس .
ومنها : ( في رجب يوم وليلة من صام ذلك اليوم ، وقام تلك الليلة ، كان كمن صام من الدهر مائة سنة / وقام مائة سنة ، وهو لثلاث بقين من رجب ) 5 أ. ومنها : ( من صام سبعة أيام غلقت عنه سبعة أبواب من جهنم ، ومن صام ثمانية أيام فتحت له ثمانة أبواب من الجنة ) .
ومن وجد قوة من نفسه ، فقد ورد : ( أفضل الصيام صوم أخي داود ، كان يصوم يوما ، ويفطر يوما ، ولا يفر إذا لاقى ) . رواه الترمذي وغيره عن ابن عمرو ، والنكتة في هذا التذييل أن من تعود الصوم بعد الفطر ، وتكرر منه ذلك بمثل صوم داود ، كان كرارا غير فرار في جهاد نفسه ، التي هي أعدى أعدائه ، ومن كان كذلك لا يفر إذا لاقى ، فيشير الحديث إلى أن من فوائده الثبات عن اللقاء .
وقد ورد : ( الصائم بعد رمضان كالكار بعد الفار) ، أخرجه البيهقي عن ابن عباس ، وبالله التوفيق .
صفحة ١٦
وصل . الطريق إلى التمكين في الحضور مع الله تعالى في جميع التقلبات ، أن يعمل على قوله صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث كنت ) ، فإن استحضار ذلك بالتعمل أولا ، والتدريج حتى يرسخ طريق إلى ترك المنهيات ، وفعل المأمورات ، إما حياء من الله ، أوتعظيما له ، ويشير إلى الثاني قوله صلى الله عليه وسلم : ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ) وإلى الأول : ( فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) ، والأول مرقاة إلى الثاني ، فإن مقام التعظيم أرقى ؛ لقطع منازعة النفس حينئذ ، وأما مقام الحياء فقد يكون معه بعض منازعة النفس ، فإذا عمل على ذلك حتى تمكن ، استقام بإذن الله القيوم ، والاستقامة هي المقول فيها إنها أكبر كرامة ، فإنها مع أنها لا مكر فيها ، ولا استدراج قيام بحق العبودية بمقتضى الموطن ، فإن هذا الموطن دار التكليف ، فالعاقل من يعطي الموطن حقه من القيام بحق العبودية المطلوبة منه ، والدار الآخرة موطن الجزاء ، فلا ينبغي تضييع الوقت بالاشتغال بنتائج الأعمال ، وتعلق الهمة بها ، بل لا يكون همه إلا خالص العبودية ، وأما أمر تقديم النتائج وتأخيرها فيفوضه إلى الله ، فإن قدم شيئا منها من غير طلب منه ، كان طاهرا من الحظ ، سالما من الآفات ولله الحمد ، وإنما كانت (¬1) الاستقامة سالمة من المكر ؛ لأنها اتباع الشرع على وجه الكمال، وفائدة الشرع الأمن من المكر ؛ لأن الله ما بعث الأنبياء ليمكر بهم ، بل ليبينوا طريق السعادة ، كما قال تعالى [رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل] (¬1) واللازم باطل بالنص ، فكذا الملزوم ، فمن أحكم بدايته ، وسلك منهج الشرع القويم من غير خلط ببدعة بحسب الوسع ، ثم انفعل عن همته شيء ، كان مصحوبا بالسعادة والأمن من المكر ، وأما الهمم المؤثرة من غير إحكام البدايات بالأوامر الشرعية ، فيصحبها المكر ، نعوذ بالله من ذلك .
/ قال الشيخ نفع الله به في الباب (463) : وليست الكرامات في عرف هذا 5 ب اللسان إلا خرق العوائد مع الاستقامة في الحال ، أو تنتج الاستقامة في الفور ، لا بد من ذلك عندهم ، وسبب هذا التحديد أن خرق العادة قد لا يكون كرامة من الله للعبد .
لما قال في مواقع النجوم : إن الكرامات من حيث هي كرامات لأهل الوصول المحققين ، أهل العناية ، ومن حيث هو خرق عوائد قد ينالها الممكور به المستدرج .
صفحة ١٨
وقال في الباب ( 184 ) : الكرامة على قسمين ، حسية ومعنوية ، فالعامة ما تعرف الكرامة إلا الحسية ، مثل الكلام على الخاطر ، والإخبار بالمغيبات الماضية ، والكائنة ، والآتية ، والأخذ من الكون ، والمشي على الماء ، واختراق الهواء ، وطي الأرض ، والاحتجاب عن الأبصار ، فالعامة لا تعرف الكرامة إلا مثل هذا ، وأما الكرامة المعنوية فلا يعرفها إلا الخواص من عباد الله ، وهي أن يحفظ عليه آداب الشريعة ، وأن يوفق لإتيان مكارم الأخلاق ، واجتناب سفاسفها ، والمحافظة على أداء الواجبات في أوقاتها ، والمسارعة في الخيرات ، وإزالة الغل والحقد من صدره للناس ، والحسد ، وسوء الظن ، وطهارة القلب من كل صفة مذمومة ، وتحليته بالمراقبة مع الأنفاس ، ومراعاة أنفاسه في خروجها ودخولها، فيتلقاها بالأدب إذا وردت عليه ، ويخرجها وعليها خلعة الحضور، فهذه كلها عندنا كرامات الأولياء المعنوية، التي لا يدخلها مكر ، ولا استدراج ، بل هي دليل على الوفاء بالعهود ، وصحة العقد ، والرضا بالقضاء في عدم المطلوب ، ووجود المكروه ، ولا يشاركك في هذه الكرامات إلا الملائكة المقربون ، وأهل الله المصطفون الأخيار ، وأما التي ذكرنا أن العامة تعرفها فكلها يمكن أن يدخلها المكر الخفي ، ثم إنا فرضناها كرامة ، فلا بد أن تكون نتيجة عن استقامة ، فإن الحدود الشرعية لا تنصب حبالة للمكر الإلهي ، فإنها عين الطريق الواضحة إلى نيل السعادة ، فإذا ظهر شيء عليه من كرامات العامة ضج إلى الله منها ، وسأل الله أن يستره بالعوائد ، وأن لا يتميز عن العامة بأمر يشار إليه فيه ، ما عدا العلم ؛ لأن العلم هو المطلوب ، وبه تقع المنفعة . انتهى الغرض منه هنا .
صفحة ١٩
وقال قدس سره في التجليات من تجلي الوصية ما هذا نصه : أوصيك في هذا التجلي بالعلم ، وتحفظ من لذات الأحوال ، فإنها سموم قاتلة ، وحجب مانعة ، فإن العلم يستعبدك له تعالى ، وهو المطلوب منك ، ويحضرك / معه ، والحال6 أيسودك على أبناء الجنس ، فيستعبدهم لك قهر الحال ؛ فتتسلط عليهم بعون الربوبية ، وأين أنت في ذلك الوقت مما خلقت له ، فالعلم أشرف مقام ، فلا يفوتك .
انتهى ، وبالله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وصل . ورد في الصحيح مرفوعا : ( إن لله ملائكة يطوفون في الطريق ، يلتمسون أهل الذكر ، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم ؛ فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا ، فيسألهم ربهم ، وهو أعلم بهم منهم : ما يقول عبادي .. ) وساق الحديث إلى أن قال : ( فيقول الله فأشهدكم أني قد غفرت لهم ، فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلان، ليس منهم، إنما جاء لحاجة )، وفي رواية ( فيقولون إن فيهم فلانا الخطاء ، لم يردهم ، إنما جاء لحاجة ) وفي رواية ( يقولون رب فيهم فلان ، عبد خطاء ، إنما مر فجلس معهم ، قال : هم الجلساء ) وفي رواية ( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ) وفي رواية ( لا يشقى لهم جليس ) زاد في رواية ( وله قد غفرت ، هم القوم ...) الخ ، فإذا كان الله تعالى من فضله ورحمته واعتنائه بأهل الذكر يغفر لمن جالسهم صورة ، وليس منهم حقيقة ، بل إنما لابسهم بمجالسة صورية ، فكيف إذا جالسهم وشاركهم في الذكر ، وأما من ضم إلى ذلك محبتهم ، والحرص على الاقتداء بهم ، واقتفاء أثرهم ، والتخلق بأخلاقهم ، بحسب الوسع والوقت والإيمان ، بما وهبهم الله من العلوم الإلهية المفاضة عليهم ببركات التقوى ، والاتباع للسنة المطهرة ، مما هي فوق طورالعقول من حيث أفكارها ، لا من حيث قبولها للفيض الإلهي ، فإنه حري بأن يلحق بهم ، فضلا من الله ونعمة .
خاتمة :
صفحة ٢٠
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من قال حين يصبح : [فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون ] (¬1) .. الآية كلها ، أدرك ما فاته في يومه ذلك ، ومن قالهن حين يمسي أدرك ما فاته في ليله ) رواه أبو داود في سننه ، وسكت عليه ، قال الحافظ ابن حجر : وقد وجدت للحديث شاهدا بسند معضل ، لا بأس برواته ، ثم ساق سنده إلى محمد بن واسع ، قال : ( من قال حين يصبح ثلاث مرات [فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون] ... إلى آخرها ، لم يفته خير كان قبله من الليل ، ولم يدركه يومه شر ، ومن قالها حين يمسي مثله ، وكان /إبراهيم خليل الرحمن يقولها ثلاث مرات إذا أصبح6ب وثلاث مرات إذا أمسى) ثم قال ابن حجر : ولبعض حديثه شاهد بسند ضعيف أيضا ، مصرح برفعه ، ثم ساق سنده إلى سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ( ألا أخبركم بمن سمى الله خليه الذي وفى ؛ لأنه كان يقول كلما أصبح سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ) انتهى .
صفحة ٢١
قال في الأذكار : وروينا في كتاب ابن السني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قال إذا أصبح اللهم إني أصبحت منك في نعمة وعافية وستر ، فأتم نعمتك علي وعافيتك وسترك في الدنيا والآخرة ثلاث مرات إذا أصبح ، وإذا أمسى ، كان حقا على الله أن يتم عليه ) قال الحافظ ابن حجر : ووجدت لحديث ابن عباس شاهدا ، وساق سنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسمعته دعا بهذا الدعاء : ( اللهم إني أصبحت منك في نعمة وعافية ، فأتم علي نعمتك وعافيتك ، وارزقني شكرك ، اللهم بنورك اهتديت ، وبفضلك استغنيت ، وبنعمتك أصبحت وأمسيت ) ، انتهى .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .
قال المؤلف : تم الإلحاق ليلة الأحد (18) رجب ، سنة (1079) عمها الله بالخيرات والبركات والأمن بمنه وفضاه ، آمين .
فرغ من كتابة هذه النسخة المباركة الميمونة المنسوبة لمولانا الشيخ إبراهيم بن حسن بن شهاب الدين الكوراني المدني الشافعي ، وذلك بقلم مالكها الفقير إلى الله ، راجي عفو سيده ومولاه محمد بن هندي ، عامله الله بفضله ، وجعله من محبي العلم وأهله في ضحى يوم الخميس الثالث والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة 1229.
وصلى الله على سيدنا محمد
وعلى آله
وصحبه
وسلم.
صفحة ٢٢