ومعنى قوله: (وأكدى)، قطع العطاء، وهو مأخوذ من الكدية وهي الصخرة الصلبة التي تعرض لحافر البئر فلا يعمل معوله فيها، فييأس من الماء، فيترك الحفر، كقول العرب: حفر فلان فأنبط، وحفر فلان فأكدى. ومنه الحديث الصحيح في الخندق: حتى عرضت كدية لا تأخذ فيها المعاول، فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فضربها بالمعول ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها -يعني المدينة- حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، وكبر المسلون معه، ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانية فكسرها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، وكبر المسلمون، ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثالثة، فكسرها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر معه المسلمون، فقال له سلمان الفارسي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط! فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم فقال: ((أرأيتم ما يقول سلمان؟))، قالوا: نعم يا سول الله، قال: ((ضربت الأولى فبرق الذي رأيتم فأضاء لي قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل -عليه السلام- أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم فأضاءت لي قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل -عليه السلام- أن أمتي ظاهرة عليهما، ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاء لي فيها قصور أرض الروم كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل -عليه السلام- أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا)). فاستبشر المسلمون وقالوا: صدق وعدنا، النصر بعد الحصر. فقال المنافقون: ألا تعجبون لمحمد يعدكم ويمنيكم الباطل، ويخبركم أنه يرى من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق لا تستطيعون أن تبرزوا؟ قال: فنزل القرآن: {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا}. وأنزل الله تعالى في هذه القصة قوله تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء} يعني: محمدا وأصحابه، {وتنزع الملك ممن تشاء} يعني: فارس والروم.
وقوله تعالى: {أعنده علم الغيب فهو يرى}، أي: فهو يعاين أمر الآخرة، فيعلم حاله فيها من خير أو شر؟!
{أم لم ينبأ بما في صحف موسى. وإبراهيم الذي وفى}، وقد صح في حديث أبي ذر -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنزل الله -عز وجل- على إبراهيم -عليه السلام- عشر صحائف، وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف)).
ثم بين ما أنزل في تلك الصحائف فقال: {ألا تزر وازرة وزر أخرى. وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}، أي: ليس كما توهم الكافر أنه يحمل وزر غيره، بل يمنعه من الانتفاع بسعي سواه لغيره.
وللمفسرين في مدح إبراهيم -عليه السلام- بالوفاء عشرة أقوال:
الأول: ما رواه أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وفى عمل يومه بأربع ركعات من أول النهار)).
صفحة ٥٣