مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم (1) وما توفيقي إلا بالله..
الحمد لله قديم السلطان، ذي الفضل العظيم، المنفرد بعموم الاحسان، الذي أوضح الدليل والبرهان، على الصراط المستقيم كل زمان، وأرسل الأنبياء لطفا للخلق [من] الانس والجان، إنه هو اللطيف الخبير، الواحد المنان، أرسلهم ليدعوا إلى (دار السلام) (2)، وهي الجنان، وليكلموا الخلق بتحقيق معرفة الدين القويم خير الآديان، وليسهلوا عليهم الوصول إليه سبحانه، والى جنانه، جنات الخيرات الحسان، وليبينوا لهم ما يسخطه مما يؤديهم إن ارتكبوه إلى النيران، صلى الله عليهم أجمعين صلاة تتجدد عليهم كل وقت وآن، وعلى أوصيائهم الذين أقامهم من بعدهم لاتمام النعمة وكمال الايمان، وخص بالصلاة الكاملة
صفحة ٢٩
محمدا خاتم الأنبياء، الذي شرفت به مضر وعدنان، ومنحه بجوامع الكلم وحسن الفهم وفصيح البيان، وأقام من بعده أوصياء على الأمة المرحومة بعناية البر الرحيم الرحمن، ليحفظوا سنته ودينه القويم المتين الأركان، ولتأهن الأمة بهم ومعهم التبديل والتغيير والاختلاف بالزيادة والنقصان، فحفظوا ما عرفوه عنهم من العرفان، صلى الله على مستحفظهم وعليهم وعلى آله أكمل الصلاة ما دام الملك الديان.
اما بعد، فإنى لما تأملت سنة سبع وخمسين وسبعمائة كتاب الشيخ العالم المحقق المدقق ابن تيمية، الذي رد فيه على كتاب (منهاج الكرامة) تأليف الشيخ الفاضل العلامة، قدوة المحققين، وعمدة العارفين، ونور السالكين، مفتي الشيعة، وركن الشريعة، ناصر السنة المحمدية، والذاعي إلى العترة المرضية، ومبطل السنن الأموية، بالبراهين الجلية، أبي منصور الحسن بن مطهر(قدس الله روحه). وجدت ابن تيمية قد طؤل في كتابه بما يمل، ويختصر ما ينبغي فيه البسط اختصارا بالمقصد يخل: وجدته قد أكثر على الامامية دعوى أنهم أهل تعصب وحمية، والقول في الدين بمحض الهوى، ولم يصدق في ذلك لفظأ ونية، بل هو الواقع في ذلك حجة آتي بها من قوله جلية، يعلمها الناظر في كتابه إذا كان منصفا ذا عقل وروية، أما المتغطرس المعاند فلا يرى الحق إلا باطلا، عنادا منه وعصبية، و سيأتي بيان ذلك بمشيئة واهب المشيئة.
ورأيته قد ذكر أقوالا وعقائد اختارها وارتضاها، وهي غير مرضية عند
صفحة ٣٠
اصحابه السنة، وأهل التحقيق منهم أولي العلوم](1) العقلية والنقلية.
و رأيته أيضا لم يستدل على بطلان أكثر أقوال الإمامية إلا بمعارضة قول من خرج عن الاسلام بالكلية، كالخوارج والغلاة من الاسماعيلية والنصيرية (2) .
فرأيت أن المتعين على كل ذي علم، أن يبين لذوي العقول والألباب، أن ابن تيمية هو المتعصب في القول والخطاب، وأنه القائل بالهوى المحض بغير صواب، بأدلة استدل بها من قوله وخطابه، الذي هو موجود مذكور في كتابه، و بالدلائل العقلية القطعية، والبراهين البينة من الآيات القرآنية، والآثار الصحيحة ل النبوية، المتفق على صحتها عند الفرق السنية والشيعية.
ولم أسلك طريقه في إبطال قول طائفة بمعارضة قول باطل لطائفة، كما هو دأب المفلس العادم للحجة، التائه عن المحجة، لثلا يشملني قوله تعالى: و يجادل الذين كفروا بالباطل ليذحضوا به الحق"(3)، بل استدل (على صحة ما أقول)(4) بأوضح الدلائل.
وقد سميت كتابي هذا ب(الاتصاف فى الانتصاف لأهل الحق من أهل الاسراف)، ورتبته على مقدمة، وبحث، وسبعة عشر مقاما، وخاتمة.
فالمقدمة: تشتمل على وصية لكل ذي روية.
صفحة ٣١
والبحث: يشتمل على قسمين: أحدهما أذكر فيه اعتقاد الامامية الذي ذكره ابن مطهر ووسمه بأنه: (منهاج الكرامة)، ووسمه ابن تيمية بأنه: (منهاج الندامة)، والقسم الآخر أذكر فيه اعتقاد السنة.
يتبين للناظر فيهما من قريب أيهما منهاج الكرامة من منهاج الندامة.
والمقامات: منها ستة عشر مقاما في المواضع التي أتكلم عليها وأجيب عنها مما هي أصل لجميع كلام ابن تيمية في كتابه، وما سواها مبني عليها إذا بطلت بطل ما بني عليها.
والمقام السابع عشر في ذكر خلاف الأمة على المسائل العقلية. والخاتمة: تشتمل على حكم وقواعد وبصائر وفوائد.
وضعت ذلك ابتغاء وجه الله، وتقربا إليه، واحتسابا له، وطاعة أبلغ بها الزلفى لديه، وأنجو من سخطه وأليم عقابه، وأسلم بها من اللعنة في قوله وخطابه، حيث قال: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بقد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللأعنون"(1).
و أنا أستمد من الله العناية والتوفيق والهداية إلى سواء الطريق، بأوكد الدلائل وأتم التحقيق، إنه سميع قريب، وهو الذي بفضله ألهمنا دعاءه، فهو سبحانه يسمع ويجيب بغير شك فى قول كل مصيب:
صفحة ٣٢
المقدمة
صفحة ٣٣
وأما المقدمة: فينبغي لكل عاقل يريد نجاة نفسه قبل حلول منيته، أن يعرف سبيل النجاة يسلكه على بصيرة ويقين، لئلا يندم غدا في النادمين، ويتمنى الرجعة ويسألها فلا يمكن منها متمكن، وهذا باجماع العلماء كافة أن معرفة سبل النجاة وسلوكه فرض لازم، من عرفه وسلكه غير غاض بما يستحق به العقاب، فهو من النارسالم.
وينبغى للناظر آن يقصد بنظره وجه الله سبحانه، وخلاص نفسه من العذاب الأليم الذي يستحق بالاعتقاد الذميم، فقد أوضح الله الحجة وأنارالدليل، ل فان عليه عز وجل بيان الحق، كما قال: (وعلى الله قصد التبيل"(1)، ولم يدع الخلق سبحانه في عمياء مبهمة، ولا في صخباء مظلمة، ولم يخلق الخلق عبثا، ولم يترك الخلائق سدى، بل أوضح سبحانه البراهين، وأرسل الأنبياء للتقرير (والتكميل)(2) والتبيين، صلى الله عليهم أجمعين.
صفحة ٣٥
فيجب(1) على كل عاقل أن يعتقد اليوم ويعمل ما ينجيه وينفعه غدا، ويحرم عليه أن يقلد [في الاعتقاد](2) أحدا كاننأ من كان، بل يجب أن يبحث عن الحق (غير مراع أحدا من الخلق ويقصده)(3) أين كان، ويتوصل إليه بقدر الامكان.
علم اليحجة واضح لمريده وآرى القلوب عن المحجة فى عما ولقد عجبت لهالك ونجاته موجودة ولقد عجبت لمن نجا(4) و ولا ينبغي أن يكون الناظر كابن تيمية، الذي لم يجزم أن الفرقة الناجية اصحابه السنة دون من عداهم من المعتزلة والزيدية والامامية، ولم يترك الاعتراض في ذلك على من جزم به وهم الامامية دون سائر فرق الأمة، فإن من احسن النظر لنفسه، آثر نجاتها يوم الحساب، فينبغي لهذا أن يتفكر وينظر في اقوال الفرق الاسلامية، التي يظن أن الناجي منها واحدة لا غير؛ وهن في زماننا هذا أربع فرق: (الامامية، والزيدية، والمعتزلة، والسنة)، وأما من سوى هؤلاء فخارجون عن الاسلام ومارقون منه وإن انتموا إليه كالخوارج والغلاة، ولا يظن ان لمن خرج عن الاسلام ومرق منه نجاة، ولا لمن والاهم وأحبهم (ووادهم وحكم بنجاتهم)(5).
صفحة ٣٦
و أما هذه الفرق الأربع فيظن لهم النجاة ابتداء، وعند التحقيق والنظر العميق يعلم أن الناجي منهم فرقة واحدة لا غير، هذا إن صح وثبت أنهم أربع فرق على قول بعضهم وهو الحق، وإن صح وثبت آنهم جميعا فرقة واحدة كما قاله بعضهم، فالفرق الأربع ناجية أجمع، لكن (قد عرفتك أن)(1) الحق أنهم اربع فرق، لتباينهم واختلافهم وتضادأقوالهم، والحق لا يكون إلا في جهة واحدة.
ومتى كان كذلك، فالناجي فرقة لا غير، لوجهين: الاول: الاجماع على أن الناجي فرقة واحدة لا غير من جميع فرق (الأمة)(2).
الثانى: الخبر المأثور عن رسول الله المتضمن نجاة فرقة من ثلاث وسبعين فرقة من أمته (2)، وهذا الخبر قد تلقته الأمة بالقبول، فصار في قسم المعلوم لا المظنون، ولمطابقة الاجماع وأدلة العقول. وإذا تقرر أن الفرقة الناجية واحدة من الأربع لا غير: فاعلم أن كل واحدة منهم تدعي ذلك دون غيرها، (وتزعم أنها الفرقة
صفحة ٣٧
الناجية دون سواها)(1)؛ وأنت تعلم أيها العاقل أن هذا ليس مطلوبا هينأ، بل هو من أعظم المطالب، وأتم المقاصد، إلا عند من لم يصذق بالنشور والمعاد.
فيجب على من يريد آن يسلك سبيل النجاة، ويحب أن يكون ما هو عليه من الفرقة الناجية على يقين، أن ينظر في أدلة كل فرقة من هذه الأربع فرق، فمن وجد أدلتها قطعية يقينية تفيد الجزم واليقين بالنجاة، فهي الفرقة الناجية، فإنه من المحال أن تكون أدلة كل فرقة منهم توجب الجزم واليقين بالنجاة لها مع تباينهم ف في الاعتقاد والعمل، بل لا يوجب الجزم واليقين إلا أدلة فرقة واحدة لا غير، وأما من عداها فلا تفيد أدلته إلا الظن والتخمين.
والمتعين على العاقل أن يتبع ما يوجب الجزم واليقين، ويدع ما لا يفيد الا الظن والتخمين) (2)، ولا ينبغي له أن يهجر النظر في أدلة بعض هذه الفرق الأربع ويتركه معرضا عنه، (ويستمر على التقليد)(3) .
فان قلت : فما دليل الامامية على أنهم الفرقة الناجية؟ قلت: لا يتبين لك ذلك حتى تعلم وتتحقق أن الفرقة الناجية واحدة لا غير من جميع الفرق في جميع الأعصار والأزمان، والذي يدل على ذلك: (العقل، والنقل، والاجماع).
أما العقل: فإنه يحكم ويقطع بأن الحق من القولين المتقابلين المتضادين
صفحة ٣٨
في أحدهما دون الآخر، ولا يجوز أن يكون قولان متقابلان متضادان على شرائط التقابل والتضاد، إلا وأن يكون أحدهما حق والآخر باطل، ومن المحال الذي لا شك فيه، الحكم على القولين المتضادين في أصول الديانات العقليات انهما حقان!
وإذا كان الحق في كل مسألة دينية عقلية واحد، فالحق في جميع المسائل ل م طلقا يجب أن يكون واحدا مع (الفرقة المحقة الناجية)(1) .
وأما الكتاب: فقوله تعالى: (وممن خلقنا أمة يهذون بالحق ويه يغدلون"(2)، وقوله تعالى: "أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تذعوهم إليه"(3).
وهذا صريح بأن الحق واحد لا اختلاف فيه (ولا افتراق فيه)(4)، وهو مؤكد لما دل عليه العقل، فمحال أن يكون المختلفون المتفرقون المتباينون في الأحوال المتضادون في الاعتقاد والأقوال كلهم محقين ناجين.
وما يدل على ذلك أيضا، قول النبي: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقون فى النار)(5)، وقوله : (لا تزال طائفة من
صفحة ٣٩
أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من ناواهم..) (1)، وقوله : (لا تجتمع أتي على الضلالة)(2) .
وكل ذلك مصرح ومؤكد لما دل عليه العقل والكتاب العزيز.
و أما الاجماع: فقد انعقد إجماع المحققين على أن الفرقة الناجية فرقة واحدة لاغير من جميع فرق (أمة محمد)(3).
واذا عرفت هذا وتقرر: فاعلم، أن الناس اختلفوا في تعيين الفرقة الناجية على ثلاثة أقوال: الأول: قول من قال: الفرقة الناجية هم الصالحون المتقون من كل فرقة من فرق الاسلام.
الثانى: قول من قال: أن الفرقة الناجية هم كل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله.
صفحة ٤٠
الثالث: قول من قال: أن الفرقة الناجية فرقة واحدة من فرق الإسلام لا غير، والباقي هالكون في النار؛ وهذا القول هو الحق ، لأنه مطابق للعقل والنقل: و أما القولان الأولان فباطلان لمخالفتهما للعقل والنقل؛ لأن الصالحين من كل فرقة فرقة، لا بد أن يكونوا متباينين في الاعتقاد، وفي عبادة رب العباد، وقد عرفت أن الحق لا يكون إلا في جهة واحدة.
وكذلك كل من قال: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، ولأن النبي لما سئل عن الفرقة الناجية؟ قال: (ما أنا عليه اليوم وأصحابى)(1)، وفي رواية الشيعة: (ما أنا عليه وأهل بيتى)(2)، وهذا تبيين إن صح منه وعنه ، وتفسير لما يوجب النجاة، وهو الاعتقاد الحق والعمل الصالح المتقبل، الذي كان عليه هو وأهل بيته وأصحابه الراشدين صلى الله عليه وعليهم أجمعين، ويلزم من ذلك بيين الفرقة الناجية، إذكل من اعتقد مثل اعتقاده ، وعمل بما أمر به من ستته، فهو من الناجين إجماعا، ومن المحال أن يكون النبي على اعتقادات متباينة متضادة، وعلى عمل مختلف الكيفية والوجوه.
وقد أخبرتك أن كل فرقة من فرق الاسلام تدعي أنها الفرقة الناجية، وتدعي أيضا أنها على ما كان عليه رسول الله (غير أن من عدا الإمامية لا
صفحة ٤١
تدعي ذلك إلا)(1) في ابتداء الحال، وفي أول وهلة وفي الظاهر، وأما عند التحقيق فلا تجدها تجزم بذلك وتقطع أبدا، وإنما ترجو النجاة من غير جزم وقطع وأما الامامية فإتهم يذعون ذلك ظاهرا وباطنأ، ويجزمون به، ويروون الجزم والقطع بذلك عن مشايخهم وعلمائهم طبقة بعد طبقة، وخلفا عن سلف، حتى اتصل النقل بالأئمة المعصومين عندهم، ثم إلى رسول الله وعليهم، وعن الأئمة عن آباءهم، وعن غير الأئمة وآباءهم من الصحابة رضوان الله وإذا عرفت ذلك وتحققته! فقد استدلت الامامية على أنها الفرقة الناجية عليهم بوجوه خمسة: الأول: إن القول بوجوب النض والعصمة في الامام حق وصواب لبراهين الواضحة بذلك، ومتى صح ذلك وكان حقا، فهم الفرقة الناجية إجماعا من كل الأمة.
الثانى: إن النص والعصمة لو لم يكونا واجبين عقلا مثلا، فقد نقلواذلك عن رسول الله ، ونقلوا عنه أيضأ من طريق أئمتهم المنصوص عليهم عندهم ومن طريق غيرهم ، إن الدين الذي هم عليه أنه الذي كان عليه رسول الله وأهل بيته ل وأصحابه، وأن من أتاه الموت وهو عليه ولقى الله به فهو من الناجين، بالوعد من الله عز وجل بذلك على ما فعله من الايمان والطاعات، ومتى صح نقلهم لذلك، فهم الفرقة الناجية بإجماع العلماء كافة.
صفحة ٤٢
الثالث: إن الامامية مباينون جميع الفرق الاسلامية في القول بوجوب النص والعصمة، وفي القول بصحة النض ووروده عن رسول الله لولم يكن واجبا فعله بالعقل مثلا، وفي حصول الجزم لهم بأنهم الفرقة الناجية، وجميع الفرق يباينونهم في ذلك كله ويخالفونهم فيه، ولأجل ذلك تجد جميع الفرق يتناصرون ويتعاضدون على الامامية لا لشيء أصلا، غير اتفاقهم وتشاركهم في ما باينتهم الامامية فيه وخالفتهم مما تقدم، وهي مقاومة للكل، والجميع يرمونها عن قوس واحد، ودليلهم على إبطال ما ذهبت الامامية إليه وباينتهم فيه واحد، ومتى كان الدليل واحد فمدلوله واحد، وحينئذ لا بد أن يكون الحق في ذلك إما مع الامامية فحسب، وإما مع سائر الفرق الذين هم خصومهم في ذلك.
ويلزم من فرض كون الحق في ذلك مع سائر الفرق، أن يكون الناجي جميع تلك الفرق، والهالك فرقة واحدة لا غير، وهو ضد ما دل عليه العقل والكتاب العزيز والسنة النبوية، فيكون فرض كون الحق في ذلك مع سائر الفرق باطلا، (من حيث أنه يلزم منه مخالفة المعقول والمنقول، وإذاكان ذلك باطلا)(1) صح أن الحق في ذلك مع الإمامية من أجل أنه يكون مطابقا للعقل والنقل.
الرابع(2): إن كل فرقة تدعي أنها الفرقة الناجية، فإنما تدعي ذلك وتقوله على ظاهر الحال، وعند التحقيق تجدها لا تجزم بذلك ولا تقطع به ولو ماتت وهي متمسكه بما هي عليه من الاعتقاد، ما عدا الامامية فإنهم يذعون ذلك ويجزمون به ظاهرا وباطنأ، ويحكمون بأن من يموت وهو مستمسك باعتقادهم فهو ناج لا محالة، جازمين بذلك من غير شك وترديد، فإن كان
صفحة ٤٣
الميت ممن لاذنب عليه ولا عصى بما يستحق به العقاب دخل الجنة ابتداء، وإن كان عليه ذنب ولم يغفره الله له ابتداء ولا بشفاعة أحد من أهل الشفاعة، عذبه الله بعدد ما يستحق من العذاب، ثم ينقله إلى الجنة بايمانه وطاعاته.
وهذه طريقة المحققين لما هم عليه، والأولى طريقة من لا تحقيق عنده، فان الله سبحانه قد بين الحق وأظهره بدلائله وبراهينه المبينة له، فما يبقى بعد ذلك للشك والتوقف معنى أصلا و حن نعلم علما حقيقيا نجزم به، أن النبي وأهل بيته وأصحابه (رض) كانوا جازمين بالنجاة لكل من يموت على طريقتهم وستتهم المرضية التي دلهم الله عليها وأمرهم بها، لا يشكون في ذلك ولا يرتابون، من حيث أنهم علموا باعلام الله الحق، وأنه فيهم ومعهم ولديهم دون من عداهم، ولأجل ذلك شهد رسول الله لأشخاص معينين من أهل بيته وأصحابه بالجنة، لعلمه بأنهم لا يرجعون عن الحق الذي عرفوه، ولا يخرجون عن دينهم الذي ارتضوه، وأنهم لا يرتدون عنه، بل يموتون عليه، وكذلك شهد الصادق لجماعة من شيعته وأصحابه أنهم من أهل الجنة، فأخذت الامامية الجزم بالنجاة خلفا عن سلف، وأولئك أخذوا الشك والتوقف عمن تقدمهم خلفا عن سلف، و يؤكد كل ذلك حديث الجاثليق(1) .
الخامس: إن كثيرا من الفرق الاسلامية قد انقرض، وكفى بانقراضه دليلا
صفحة ٤٤
على بطلانه، وكثيرا من الموجودين الآن اعتقاده باطل قطعا، فكل من علمت بطلان اعتقاده بالدلائل التي تفيد اليقين، فلا نجاة له يوم الدين، لاستحالة أن يكون النبي معتقدا لشيء من تلك الاعتقادات الباطلة، وذلك مثل اعتقاد المجبرة والمشبهة المجسمة.
وكذا لا نجاة لكل فرقة أحبت هؤلاء ووالتهم، وحكمت بنجاتهم وادتهم، لأته لم يوجد مثل ذلك في ما كان عليه النبي ، ولقوله تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليؤم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله.."(1) الآية.
و وأي فرقة وجدت اعتقادها أحسن الاعتقادات، وأقوالها أصح الأقوال ( وأمتنها، وهما مع ذلك) (2) خاليان من التباين والتضاد، ومن الاختلاف والفساد، لا فاعلم أنها الفرقة الناجية، ولا يحصل لك العلم بذلك حتى تسبر اعتقاد كل فرقة تجوز أن تكون هي الفرقة الناجية، فإنك إن فعلت ذلك ظفرت ببغيتك، وكنت من الذين قال الله تعالى فيهم: (فبشر عباد الذين يشتمعون القول فيتبعون أخسنه"(3).
ولا تظن يا أخي أن تفتيشك عن ذلك لا يظهر لك الحق، كما توهمه من لا تحصيل له، بل يظهر لك الحق ويدلك عليه، ويبين لك الصدق ويوصلك إليه، و تعلم حينئذ صدق شيخنا الفاضل المظفر والعلامة المطهر ابن مطهر في قوله: "لوإنما كان مذهب الامامية واجب الاتباع لوجوه:
صفحة ٤٥
الأول: إنا لما نظرنا في المذاهب، وجدنا أحقها وأصدقها وأخلصها عن شوائب الباطل، وأعظمها تنزيها لله تعالى ولرسله ولأوصيائه، وأحسن(1) المسائل الأصولية والفروعية مذهب الإمامية.."(2) إلى آخر ما قال.
ومأذكره قريبا إن شاء الله تعالى، ولقد صدق وأرضاه، وجعل الجنة مع أيمته مأواه.
فهذا يا أخي ما استدلت به الامامية على أنها الفرقة الناجية دون غيرها، ولم أقف لأحد من الفرق على أدلة مثل هذه الأدلة، (وإلا فليبينها من يدعي أنه وقف على مثلها لننظر فيها ونتأملها، فإني)(3) لم أجد غير الامامية يأتي إلا بمجرد الدعوى والقول عن محض الهوى (بغير حجة تتلى)(4)، كابن تيمية هذا، فإنه لم يذكر في كتابه دليلا ناهضا على أن أصحابه السنة هم الفرقة الناجية قطعا دون غيرهم من جميع الفرق.
وكابن شقيف(5) من الزيدية(6)، فإني سألته عن الفرقة الناجية من فرق
صفحة ٤٦
الزيدية الثلاث: الجارودية(1)، والسليمانية(2)، والبترية(3)" فأجاب: بأن هذه الثلاثة فرقة واحدة، وحكم بنجاتهم أجمع، ثم قال بعد
صفحة ٤٧
ان قرر كلامأ له في هذا المعنى: "ان كانت الفرقة الناجية نجاتها بالاعتقاد، فلا ومالك يوم التناد يختلج في قلبي، ولا يعترض شك في عقيدتي، أنها الزيدية والمعتزلة، وان كان نجاتها بغير الاعتقاد، فالمجتنب للمحارم من الأمة ناج، كما أشار إليه الامام يحيى بن حمزة، وهم يسمون فرقة باعتبار ما صاروا إليه من الزلفة".
هذاكلامه من غير تغيير فيه، أتى به عقيب سؤالى له عن الفرقة الناجية أيها هي من فرق الزيدية؟
ولا يخفى بطلان كلام ابن شقيف هذا على أولي العقول والأذهان، (وقد اجبته في ردكي عليه، بجواب أخذته فيه من خلفه ومن بين يديه، وقد ضيقت المسالك عليه ولديه)(1) .
واعلم أيها العاقل، إن كثيرا من علماء الطوائف ينقمون على الامامية جزمهم بالنجاة لأنفسهم، ولأهل مذهبهم الذين يتوفاهم الموت وهم عليه دون غيرهم، (وهذا النقم ليس بشيء، والا فلينقموه على النبي وأهل بيته وأصحابه(رضي الله عنهم)، فإنهم قد جزموا بذلك لأنفسهم ولأهل سنتهم)(2) .
صفحة ٤٨
البحث
صفحة ٤٩