والله قد ذم الكاذب والمكذب بالحق، لقوله في غير آية: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه } [العنبكوت: 68] وقال: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته } [الأنعام: 21].
ولهذا لما كان مما وصف الله به الأنبياء، الذين هم أحق الناس بهذه الصفة، أن كلا منهم يجيء بالصدق فلا يكذب، فكل منهم صادق في نفسه مصدق لغيره.
ولما كان قوله: (والذي) صنفا من الأصناف، لا يقصد به واحد بعينه، أعاد الضمير بصيغة الجمع فقال: { والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون } [الزمر: 33].
وأنت تجد كثيرا من المنتسبين إلى علم ودين لا يكذبون فيما يقولونه، بل لا يقولون إلا الصدق، لكن لا يقبلون ما يخبر به غيرهم من الصدق، بل يحملهم الهوى والجهل على تكذيب غيرهم وإن كان صادقا: إما تكذيب نظيره، وإما تكذيب من ليس من طائفته.
ونفس تكذيب الصادق هو من الكذب، ولهذا قرنه بالكاذب على الله، فقال: { فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه } [الزمر: 32] فكلاهما كاذب: هذا كاذب فيما يخبر به عن الله، وهذا كاذب فيما يخبر به عن المخبر عن الله.
والنصارى يكثر فيهم المفترون للكذب على الله، واليهود يكثر فيهم المكذبون بالحق. وهو سبحانه ذكر المكذب بالصدق نوعا ثانيا، لأنه أولا لم يذكر جميع أنواع الكذب، بل ذكر من كذب على الله. وأن إذا تدبرت هذا، وعلمت أن كل واحد من الكذب على الله والتكذيب بالصدق مذموم، وأن المدح لا يستحقه إلا من كان آتيا بالصدق مصدقا للصدق، علمت أن هذا مما هدى الله به عباده إلى صراطه المستقيم.
صفحة ١٧١