الإكليل في المتشابه والتأويل
شيخ الإسلام ابن تيمية
صفحة غير معروفة
وقال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني الدمشقي الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم فصل قوله تعالى ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته﴾ إلى قوله: ﴿ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد﴾ ﴿وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم﴾ .
جعل الله القلوب ثلاثة أقسام: قاسية وذات مرض ومؤمنة مخبتة؛ وذلك لأنها إما أن تكون يابسة جامدة لا تلين للحق اعترافا وإذعانا أو لا تكون يابسة جامدة.
ف " الأول " هو القاسي وهو الجامد اليابس بمنزلة الحجر لا ينطبع ولا يكتب فيه الإيمان ولا يرتسم فيه العلم؛ لأن ذلك يستدعي محلا لينا قابلا.
1 / 6
و" الثاني " لا يخلو إما أن يكون الحق ثابتا فيه لا يزول عنه لقوته مع لينه أو يكون لينه مع ضعف وانحلال. فالثاني هو الذي فيه مرض والأول هو القوي اللين. وذلك أن القلب بمنزلة أعضاء الجسد كاليد مثلا فإما أن تكون جامدة يابسة لا تلتوي ولا تبطش أو تبطش بعنف فذلك مثل القلب القاسي أو تكون ضعيفة مريضة عاجزة لضعفها ومرضها فذلك مثل الذي فيه مرض أو تكون باطشة بقوة ولين فهو مثل القلب العليم الرحيم فبالرحمة خرج عن القسوة وبالعلم خرج عن المرض؛ فإن المرض من الشكوك والشبهات. ولهذا وصف من عدا هؤلاء بالعلم والإيمان والإخبات. وفي قوله: ﴿وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم﴾ دليل على أن العلم يدل على الإيمان ليس أن أهل العلم ارتفعوا عن درجة الإيمان - كما يتوهمه طائفة من المتكلمة - بل معهم العلم والإيمان كما قال تعالى: ﴿لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك﴾ وقال تعالى: ﴿وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله﴾ الآية. وعلى هذا فقوله: ﴿والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا﴾ نظير هذه الآية فإنه أخبر هنا أن الذين أوتوا العلم يعلمون أنه الحق من ربهم وأخبر هناك أنهم يقولون في المتشابه: ﴿آمنا به كل من عند ربنا﴾
1 / 7
وكلا الموضعين موضع ريب وشبهة لغيرهم؛ فإن الكلام هناك في المتشابه وهنا فيما يلقي الشيطان مما ينسخه الله ثم يحكم الله آياته وجعل المحكم هنا ضد الذي نسخه الله مما ألقاه الشيطان؛
1 / 8
ولهذا قال طائفة من المفسرين المتقدمين: إن " المحكم " هو الناسخ و" المتشابه " المنسوخ. أرادوا والله أعلم قوله: ﴿فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته﴾ . والنسخ هنا رفع ما ألقاه الشيطان لا رفع ما شرعه الله.
وقد أشرت إلى وجه ذلك فيما بعد وهو: أن الله جعل المحكم مقابل المتشابه تارة ومقابل المنسوخ أخرى. والمنسوخ يدخل فيه في اصطلاح السلف - العام - كل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح كتخصيص العام وتقييد المطلق
1 / 9
فإن هذا متشابه لأنه يحتمل معنيين ويدخل فيه المجمل فإنه متشابه وإحكامه رفع ما يتوهم فيه من المعنى الذي ليس بمراد وكذلك ما رفع حكمه فإن في ذلك جميعه نسخا لما يلقيه الشيطان في معاني القرآن؛ ولهذا كانوا يقولون: هل عرفت الناسخ من المنسوخ؟ فإذا عرف الناسخ عرف المحكم. وعلى هذا فيصح أن يقال: المحكم والمنسوخ كما يقال المحكم والمتشابه. وقوله بعد ذلك ﴿ثم يحكم الله آياته﴾ جعل جميع الآيات محكمة محكمها ومتشابهها كما قال: ﴿الر﴾ ﴿كتاب أحكمت آياته ثم فصلت﴾
1 / 10
وقال: ﴿تلك آيات الكتاب الحكيم﴾ على أحد القولين. وهنالك جعل الآيات قسمين: محكما ومتشابها كما قال: ﴿منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات﴾ . وهذه المتشابهات مما أنزله الرحمن لا مما ألقاه الشيطان ونسخه الله.
فصار المحكم في القرآن تارة يقابل بالمتشابه والجميع من آيات الله وتارة يقابل بما نسخه الله مما ألقاه الشيطان. ومن الناس من يجعله مقابلا لما نسخه الله مطلقا حتى يقول: هذه الآية محكمة ليست منسوخة ويجعل المنسوخ ليس محكما وإن كان الله أنزله أولا اتباعا لظاهر قوله: ﴿فينسخ الله﴾ و﴿يحكم الله آياته﴾ . فهذه ثلاث معان تقابل المحكم ينبغي التفطن لها. وجماع ذلك أن " الإحكام " تارة يكون في التنزيل فيكون في مقابلته ما يلقيه الشيطان فالمحكم المنزل من عند الله أحكمه الله أي فصله من الاشتباه بغيره وفصل منه ما ليس منه؛ فإن الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه؛ ولهذا دخل فيه معنى المنع كما دخل في الحد فالمنع جزء معناه لا جميع معناه. وتارة يكون " الإحكام " في إبقاء التنزيل عند من قابله بالنسخ الذي هو رفع ما شرع وهو اصطلاحي أو يقال - وهو أشبه بقول السلف - كانوا يسمون كل رفع نسخا سواء كان رفع حكم أو رفع دلالة ظاهرة.
وإلقاء الشيطان في أمنيته قد يكون في نفس لفظ المبلغ وقد يكون في سمع المبلغ وقد يكون
1 / 11
في فهمه كما قال: ﴿أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها﴾ الآية.
ومعلوم أن من سمع النص الذي قد رفع حكمه أو دلالة له فإنه يلقي الشيطان في تلك التلاوة اتباع ذلك المنسوخ فيحكم الله آياته بالناسخ الذي به يحصل رفع الحكم وبيان المراد. وعلى هذا التقدير فيصح أن يقال: المتشابه المنسوخ بهذا الاعتبار والله أعلم.
وتارة يكون " الإحكام " في التأويل والمعنى وهو تمييز الحقيقة المقصودة من غيرها حتى لا تشتبه بغيرها. وفي مقابلة المحكمات الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه هذا فتكون محتملة للمعنيين. قال أحمد بن حنبل " المحكم " الذي ليس فيه اختلاف والمتشابه الذي يكون في موضع كذا وفي موضع كذا. ولم يقل في المتشابه لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله وإنما قال: ﴿وما يعلم تأويله إلا الله﴾ وهذا هو فصل الخطاب بين المتنازعين في هذا الموضع فإن الله أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو.
والوقف هنا على ما دل عليه أدلة كثيرة وعليه أصحاب رسول الله ﷺ وجمهور التابعين وجماهير الأمة. ولكن لم ينف علمهم بمعناه وتفسيره بل قال: ﴿كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته﴾ وهذا يعم الآيات المحكمات والآيات المتشابهات وما لا يعقل له معنى لا يتدبر: وقال: ﴿أفلا يتدبرون القرآن﴾ ولم يستثن شيئا منه نهى عن تدبره.
1 / 12
والله ورسوله إنما ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمره الله وطلب فهمه ومعرفة معناه فلم يذمه الله بل أمر بذلك ومدح عليه. يبين ذلك أن التأويل قد روى أن من اليهود الذين كانوا بالمدينة على عهد النبي ﷺ كحيي بن أخطب وغيره من طلب من حروف الهجاء التي في أوائل السور تأويل بقاء هذه الأمة
1 / 13
كما سلك ذلك طائفة من المتأخرين موافقة للصابئة المنجمين وزعموا أنه ستمائة وثلاثة وتسعون عاما لأن ذلك هو عدد ما للحروف في حساب الجمل بعد إسقاط المكرر وهذا من نوع تأويل الحوادث التي أخبر بها القرآن في اليوم الآخر. وروي أن من النصارى الذين وفدوا على النبي ﷺ في وفد نجران من تأول (إنا و(نحن على أن الآلهة ثلاثة لأن هذا ضمير جمع. وهذا تأويل في الإيمان بالله فأولئك تأولوا في اليوم الآخر وهؤلاء تأولوا في الله. ومعلوم أن: (إنا و(نحن من المتشابه فإنه يراد بها الواحد الذي معه غيره من جنسه ويراد بها الواحد الذي معه أعوانه وإن لم يكونوا من جنسه ويراد بها الواحد المعظم نفسه الذي يقوم مقام من معه غيره لتنوع أسمائه التي كل اسم منها يقوم مقام مسمى فصار هذا متشابها لأن اللفظ واحد والمعنى متنوع.
و" الأسماء المشتركة في اللفظ " هي من المتشابه وبعض " المتواطئة " أيضا من المتشابه ويسميها أهل التفسير " الوجوه والنظائر " وصنفوا " كتب الوجوه والنظائر " فالوجوه في الأسماء المشتركة والنظائر في الأسماء المتواطئة. وقد ظن بعض أصحابنا المصنفين في ذلك أن الوجوه والنظائر جميعا في الأسماء المشتركة فهي نظائر باعتبار اللفظ ووجوه باعتبار المعنى وليس الأمر على ما قاله بل كلامهم صريح فيما قلناه لمن تأمله.
1 / 14
والذين في قلوبهم زيغ يدعون المحكم الذي لا اشتباه فيه مثل ﴿وإلهكم إله واحد﴾ ﴿إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني﴾ ﴿ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله﴾ ﴿ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك﴾ ﴿لم يلد ولم يولد﴾ ﴿ولم يكن له كفوا أحد﴾ ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ليفتنوا به الناس إذا وضعوه على غير مواضعه وابتغاء تأويله وهو الحقيقة التي أخبر عنها.
وذلك أن " الكلام نوعان ": إنشاء فيه الأمر وإخبار فتأويل الأمر هو نفس الفعل المأمور به كما قال من قال من السلف إن السنة هي تأويل الأمر. ﴿قالت عائشة ﵂ كان رسول الله ﷺ يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن﴾ تعني قوله: ﴿فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا﴾ .
وأما الإخبار فتأويله عين الأمر المخبر به إذا وقع ليس تأويله فهم معناه. وقد جاء اسم " التأويل " في القرآن في غير موضع وهذا معناه قال الله تعالى:
1 / 15
﴿ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾ ﴿هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق﴾ فقد أخبر أنه فصل الكتاب وتفصيله بيانه وتمييزه بحيث لا يشتبه ثم قال: ﴿هل ينظرون﴾ أي ينتظرون ﴿إلا تأويله يوم يأتي تأويله﴾ إلى آخر الآية. وإنما ذلك مجيء ما أخبر القرآن بوقوعه من القيامة وأشراطها: كالدابة ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ومجيء ربك والملك صفا صفا وما في الآخرة من الصحف والموازين والجنة والنار وأنواع النعيم والعذاب وغير ذلك فحينئذ يقولون: ﴿قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل﴾ وهذا القدر الذي أخبر به القرآن من هذه الأمور لا يعلم وقته وقدره وصفته إلا الله؛ فإن الله يقول: ﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين﴾ ويقول: ﴿أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر﴾ وقال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة
1 / 16
إلا الأسماء؛ فإن الله قد أخبر أن في الجنة خمرا ولبنا وماء وحريرا وذهبا وفضة وغير ذلك ونحن نعلم قطعا أن تلك الحقيقة ليست مماثلة لهذه بل بينهما تباين عظيم مع التشابه كما في قوله: ﴿وأتوا به متشابها﴾ على أحد القولين أنه يشبه ما في الدنيا وليس مثله فأشبه اسم تلك الحقائق أسماء هذه الحقائق كما أشبهت الحقائق الحقائق من بعض الوجوه.
فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من جهة القدر المشترك بينهما ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كل وجه. وتلك الحقائق على ما هي عليه هي تأويل ما أخبر الله به. وهذا فيه رد على اليهود والنصارى والصابئين من المتفلسفة وغيرهم فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس ونكاح ويمنعون وجود ما أخبر به القرآن.
ومن دخل في الإسلام ونافق المؤمنين تأول ذلك على أن هذه أمثال مضروبة لتفهيم النعيم الروحاني إن كان من المتفلسفة الصابئة المنكرة لحشر الأجساد. وإن كان من منافقة الملتين المقرين بحشر الأجساد تأول ذلك على تفهيم النعيم الذي في الجنة من الروحاني والسماع الطيب والروائح العطرة. فكل ضال يحرف الكلم
1 / 17
عن مواضعه إلى ما اعتقد ثبوته. وكان في هذا أيضا متبعا للمتشابه إذ الأسماء تشبه الأسماء والمسميات تشبه المسميات ولكن تخالفها أكثر مما تشابهها. فهؤلاء يتبعون هذا المتشابه ﴿ابتغاء الفتنة﴾ بما يوردونه من الشبهات على امتناع أن تكون في الجنة هذه الحقائق ﴿وابتغاء تأويله﴾ ليردوه إلى المعهود الذي يعلمونه في الدنيا. قال الله تعالى: ﴿وما يعلم تأويله إلا الله﴾ فإن تلك الحقائق قال الله فيها: ﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين﴾ لا ملك مقرب ولا نبي مرسل. وقوله: ﴿وما يعلم تأويله﴾ إما أن يكون الضمير عائدا على الكتاب أو على المتشابه؛
فإن كان عائدا على الكتاب كقوله (منه و(منه ﴿فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله﴾ فهذا يصح؛ فإن جميع آيات الكتاب المحكمة والمتشابهة التي فيها إخبار عن الغيب الذي أمرنا أن نؤمن به لا يعلم حقيقة ذلك الغيب ومتى يقع إلا الله. وقد يستدل لهذا أن الله جعل التأويل للكتاب كله مع إخباره أنه مفصل بقوله ﴿ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾ ﴿هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله﴾ فجعل التأويل الجائي للكتاب المفصل. وقد بينا أن ذلك التأويل لا يعلمه وقتا وقدرا ونوعا وحقيقة إلا الله وإنما نعلم نحن بعض صفاته بمبلغ علمنا لعدم نظيره عندنا وكذلك قوله: ﴿بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله﴾
1 / 18
وإذا كان التأويل للكتاب كله والمراد به ذلك ارتفعت الشبهة وصار هذا بمنزلة قوله: ﴿يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض﴾ إلى قوله: ﴿إنما علمها عند الله﴾ وكذلك قوله: ﴿يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا﴾
فأخبر أنه ليس علمها إلا عند الله وإنما هو علم وقتها المعين وحقيقتها وإلا فنحن قد علمنا من صفاتها ما أخبرنا به. فعلم تأويله كعلم الساعة والساعة من تأويله وهذا واضح بين.
ولا ينافي كون علم الساعة عند الله أن نعلم من صفاتها وأحوالها ما علمناه وأن نفسر النصوص المبينة لأحوالها فهذا هذا. وإن كان الضمير عائدا إلى ما تشابه كما يقوله كثير من الناس فلأن المخبر به من الوعد والوعيد متشابه بخلاف الأمر والنهي ولهذا في الآثار: " العمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه " لأن المقصود في الخبر الإيمان وذلك لأن المخبر به من الوعد والوعيد فيه من التشابه ما ذكرناه بخلاف الأمر والنهي؛ ولهذا قال بعض [العلماء]: " المتشابه " الأمثال والوعد [والوعيد] و" المحكم " الأمر والنهي
1 / 19
فإنه متميز غير مشتبه بغيره فإنه أمور نفعلها قد علمناها بالوقوع وأمور نتركها لا بد أن نتصورها.
ومما جاء من لفظ " التأويل " في القرآن قوله تعالى ﴿بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله﴾ والكناية عائدة على القرآن أو على ما لم يحيطوا بعلمه وهو يعود إلى القرآن. قال تعالى: ﴿وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين﴾ ﴿أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين﴾ ﴿بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين﴾ ﴿ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين﴾ . فأخبر سبحانه أن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون الله وهذه الصيغة تدل على امتناع المنفي كقوله: ﴿وما كان ربك ليهلك القرى بظلم﴾ وقوله: ﴿وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم﴾ لأن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله كما تحداهم وطالبهم لما قال: ﴿أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من
1 / 20
استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين﴾ فهذا تعجيز لجميع المخلوقين. قال تعالى: ﴿ولكن تصديق الذي بين يديه﴾ أي مصدق الذي بين يديه ﴿وتفصيل الكتاب﴾ أي مفصل الكتاب فأخبر أنه مصدق الذي بين يديه ومفصل الكتاب والكتاب اسم جنس وتحدى القائلين: (افتراه ودل على أنهم هم المفترون قال: ﴿بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله﴾ أي كذبوا بالقرآن الذي لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله. ففرق بين الإحاطة بعلمه وبين إتيان تأويله. فتبين أنه يمكن أن يحيط أهل العلم والإيمان بعلمه ولما يأتهم تأويله وأن الإحاطة بعلم القرآن ليست إتيان تأويله فإن الإحاطة بعلمه معرفة معاني الكلام على التمام وإتيان التأويل نفس وقوع المخبر به وفرق بين معرفة الخبر وبين المخبر به فمعرفة الخبر هي معرفة تفسير القرآن ومعرفة المخبر به هي معرفة تأويله.
و" نكتة ذلك " أن الخبر لمعناه صورة علمية وجودها في نفس العالم كذهن الإنسان مثلا ولذلك المعنى حقيقة ثابتة في الخارج عن العلم واللفظ إنما يدل ابتداء على المعنى الذهني ثم تتوسط ذلك أو تدل على الحقيقة الخارجة فالتأويل هو الحقيقة الخارجة وأما معرفة تفسيره ومعناه فهو معرفة الصورة العلمية. وهذا هو الذي بيناه فيما تقدم أن الله إنما أنزل القرآن ليعلم ويفهم ويفقه ويتدبر ويتفكر فيه محكمه ومتشابهه وإن لم يعلم تأويله. ويبين ذلك أن الله يقول عن الكفار: ﴿وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا﴾ ﴿وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا﴾ فقد أخبر - ذما للمشركين - أنه إذا قرئ عليهم القرآن حجب بين أبصارهم وبين الرسول بحجاب مستور وجعل على قلوبهم أكنة أن
1 / 21
يفقهوه وفي آذانهم وقرا. فلو كان أهل العلم والإيمان على قلوبهم أكنة أن يفقهوا بعضه لشاركوهم في ذلك. وقوله: ﴿أن يفقهوه﴾ يعود إلى القرآن كله. فعلم أن الله يحب أن يفقه؛ ولهذا قال الحسن البصري: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا أنزلت وماذا عنى بها وما استثنى من ذلك لا متشابها ولا غيره. وقال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره مرات أقف عند كل آية وأسأله عنها.
فهذا ابن عباس حبر الأمة وهو أحد من كان يقول: لا يعلم تأويله إلا الله يجيب مجاهدا عن كل آية في القرآن.
1 / 22
وهذا هو الذي حمل مجاهدا ومن وافقه كابن قتيبة على أن جعلوا الوقف عند قوله ﴿والراسخون في العلم﴾ فجعلوا الراسخين يعلمون التأويل لأن مجاهدا تعلم من ابن عباس تفسير القرآن كله وبيان معانيه فظن أن هذا هو التأويل المنفي عن غير الله.
وأصل ذلك أن لفظ " التأويل " فيه اشتراك بين ما عناه الله في القرآن وبين ما كان يطلقه طوائف من السلف وبين اصطلاح طوائف من المتأخرين فبسبب الاشتراك في لفظ التأويل اعتقد كل من فهم منه معنى بلغته أن ذلك هو المذكور في القرآن. ومجاهد إمام التفسير. قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. وأما التأويل فشأن آخر.
ويبين ذلك أن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله ولا قال هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين: إن في القرآن آيات لا يعلم معناها ولا يفهمها رسول الله ﷺ ولا أهل العلم والإيمان جميعهم وإنما قد ينفون علم بعض ذلك عن بعض الناس وهذا لا ريب فيه.
1 / 23
وإنما وضع هذه المسألة المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات وآيات القدر وغير ذلك. فلقبوها: " هل يجوز أن يشتمل القرآن على ما لا يعلم معناه ". وما " تعبدنا بتلاوة حروفه بلا فهم " فجوز ذلك طوائف متمسكين بظاهر من هذه الآية وبأن الله يمتحن عباده بما شاء ومنعها طوائف ليتوصلوا بذلك إلى تأويلاتهم الفاسدة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه. والغالب على كلا الطائفتين الخطأ أولئك يقصرون في فهم القرآن بمنزلة من قيل فيه: ﴿ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني﴾ وهؤلاء معتدون بمنزلة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه.
1 / 24