بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الفقيه الإمام العالم الفاضل مفتى المسلمين، لسان المتكلمين، شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي قدس الله روحه:
الحمد لله المنفرد بالجلال، والهادي من الضلال، والمرشد إلى السداد في الأقوال والأفعال.
وصلى الله على سيد المرسلين، المخصوص من صفات البشر بالكمال، وعلى آل سيدنا محمد وأصحابه وأزواجه ومحبيه، صلاة تقصر دونها الآمال.
أما بعد...
فإن أهل الزمان قد عكفوا من أصول الفقه على كتاب"المحصول ومختصراته" لما اشتملت عليه من الألفاظ الرشيقة والمعاني الدقيقة، ويردون على مسألة تعارض الاحتمالات العشرة المخلة بالفهم في التخاطب، فيجدون الأحكام، ويفقدون الأمثال.
وبلغني سؤالهم للفضلاء الذين يقرؤون عليهم، فلا يجدون لهم أمثلة في الوقت الحاضر؛ لاحتياجها إلى الفكر، وكذلك يتفق لي معهم أيضا، فلا أجد ما أقوله لهم.
وكذلك يمرون بمسألة ما به يخالف المشتق المشتق منه من الحركات والحروف.
وذكر الإمام: تسعة، فيطلبون أمثلتها أيضا، فأردت أن أبين مثل المسألتين بيانا شافيا، ليتداوله الفقهاء بينهم، ويجدون سؤالهم بغير فكر إن شاء الله تعالى.
ورتبت ذلك على خمسة أبحاث، وجملتين، وتتمة.
صفحة ١٢
فالأبحاث فيما يتعلق [1/أ] بالتنبيه على مواضع من كلامه.
وأما ما ذكره من وجوه الترجيح فلا حاجة لذكره، وإنما أذكر ما ليس في الكتاب؛ لتحرير ما ذكر في الكتاب أو تحديد ما لم يذكره.
صفحة ١٣
البحث الأول
قال: حكاية عن الشيخ الميداني (¬1) : إن حقيقة الاشتقاق أن يكون بين اللفظين مناسبة في المعنى والتركيب، فيقضى بأن أحدهما مشتق من الآخر (¬2) .
ومراده بذلك أن قولنا: ضارب، وضرب، اشتركا في الحروف الأصلية، وهي الضاد والراء والباء، فهذه هي المناسبة في التركيب، واشتركا في أن كل واحد منهما يفهم من إمساس جسم لجسم بعنف، وهذا هو المناسبة في المعنى، فيقضى حينئذ بأن أحدهما مشتق من الآخر.
واعلم أن هذا الكلام لا يستقيم، لكثرة النقوض عليه.
بيان ذلك: أن القاعدة عند النحاة كافة فيما علمته أن الاشتقاق والعجمة لا يجتمعان، وأن الاشتقاق خاص بلسان العرب، وعلى ما قاله يكون اسم إدريس؛ مشتقا من الدرس ؛ لأنه درس بحقه باطل غيره، أو أنه نقل له عن ذلك، وإبليس من الإبلاس لانقطاع حجته؛ لأن الإبلاس هو انقطاع الحجة، وأنشد صاحب كتاب الزينة في اللغة (¬3) على ذلك:
صفحة ١٤
يا صاح هل تعرف رسما أكرسا... قال: نعم، وأعرفه وأبلسا أي: ثم صده عن الجواب.
ويكون اسم يعقوب؛ [1/ب] مشتقا من العقب؛ لأنه ولد بعد غيره, أو تفاؤلا بأنه يعقب، واسم يونس؛ من الأنس، وجبريل وعزرائيل وإسرافيل من الجبروت لأن الأول يأتي بالأمر من القتال والتعزير، والثاني بالناس للتأثر بقبض الأرواح، وعظم خلقة الثالث، ويكون ميكائيل من الكيل؛ لأنه يكيل الأرزاق، وقد روي في ذلك حديث، وذلك كثير في أسماء الأنبياء والملائكة عليهم السلام وغيرهم، ولو كانت مشتقة لم تكن أعجمية، ولو لم تكن أعجمية لانصرفت، لكن الإجماع على عدم صرفها، فلا تكون مشتقة.
صفحة ١٥
البحث الثاني
في بيان حقيقة الوضع والاستعمال والحمل
فإنها تلتبس على كثير من الناس، ولا يعرف الاشتراك والنقل إلا بعد معرفتها، فنقول:
الوضع: في اصطلاح العلماء مشترك بين معنيين: أحدهما جعل اللفظ دليلا على المسمى، كجعل لفظ الإنسان دليلا على الحيوان الناطق، وثانيهما: غلبة استعمال اللفظ في المعنى، حتى يصير أشهر فيه من غيره، وهذا هو وضع الشرع والعرف (¬1) .
والاستعمال: هو إطلاق اللفظ وإرادة مسماه بالحكم، وهو الحقيقة، أو غير مسماه وهو المجاز (¬2) .
والحمل: هو اعتقاد السامع مراد المتكلم من لفظه , أو ما اشتمل على مراده بالأول (¬3) ، نحو حمل الشافعي: لفظ القرء على الطهر، بمعنى أنه يعتقد أنه المراد باللفظ، وحمل أبي [2/أ] حنيفة: اللفظ على الحيض، بمعنى أنه يعتقد أنه المراد باللفظ.
والقيد الأخير احتراز من حمل الشافعي اللفظ المشترك على سائر مسمياته احتياطا، لتحصيل مراد المتكلم (¬4) ، وإن لم يعلم أن مراده جميعها.
صفحة ١٦
البحث الثالث
في بيان اشتقاقات المحتملات وحدودها
فالأول الاشتراك: وهو مشتق من الشركة، بسكون الراء على سبيل المجاز اللغوي، وإن كان حقيقة عرفية خاصة، فشبه استحقاق المعنيين للفظ الموضوع لهما دون غيرهما باستحقاق الشريكين الدار بينهما دون غيرهما.
وأما حده فهو اللفظ الموضوع لكل واحد من حقيقتين أو أكثر، كالقرء للحيض والطهر (¬1) .
ولا حاجة لما قاله الإمام رحمه الله، وهو قوله: (مختلفين من حيث هما كذلك) ؛ لأن اللفظ يستحيل عقلا أن يوضع لمثلين.
بيانه: وذلك أن اللفظ لو وضع لهما فإما أن يعتبر كل واحد منهما بعينه في التسمية أو لا: فإن اعتبر التعين -وكل مثل بقيد تعينه مخالف للمثل الآخر بقيد تعينه لوجوب الاختلاف في التعيين، وإلا لما حصل به التعيين-، فاللفظ حينئذ موضوع لمختلفين لا لمثلين.
وإن لم يعتبر التعين في التسمية -وكل مثلين إذا قطع النظر عن تعينهما لم يبق سوى مجرد الحقيقة المشتركة بينهما وهي واحدة-، فاللفظ حينئذ موضوع لواحد، والواحد ليس [2/ب] بمثلين، فعلم أن اللفظ يستحيل وضعه لمثلين.
صفحة ١٧
الثاني النقل: واشتقاقه من النقلة، وهي الخروج من حيز إلى حيز آخر، وذلك حقيقة في الأجسام، مجاز في الألفاظ، لاستحالة بقاء الأصوات والنقلة عليها، لكن شبه غلبة النطق باللفظ في معنى بعد أن كانت في معنى آخر بوجود الجسم في حيز بعد أن كان في حيز آخر، لكنه حقيقة عرفية.
وأما حده: فهو غلبة استعمال اللفظ في معنى حتى يصير أشهر فيه من غيره، كلفظ الصلاة والدابة (¬1) .
وقد أشكل على جماعة الفرق بينه وبين المجاز الراجح، وفرق بعضهم بأن الحقيقة الأولى إن هجرت البتة فهو المنقول، وإلا فهو المجاز الراجح، وليس كما زعم، فإن لفظ الدابة منقول، وقد يستعمل في حقيقته الأولى، وكذلك البشارة والرواية ونحو ذلك، مع عدم هجر حقائقها الأصلية.
وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز بعد تقرر النقل: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} هود/6 {والله خلق كل دابة من ماء} النور/45 مع استقباح تخصيص ذلك بالحمير فقط الذي هو منقول إليه، بل الحق في هذا المقام أن نقول: المنقول والمجاز كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه، وأخص من وجه، فيوجد كل واحد منهما مع صاحبه وبدونه.
أما وجود المجاز بدون المنقول فنحو: رأيت أسدا، للرجل الشجاع.
وأما وجود المنقول بدون المجاز، فنحو [3/أ] لفظ الجوهر والذات، فإن الأول في لغة العرب للنفيس، ونقله أرباب الأصول لأخس الأشياء وهو الجوهر الذي لا ينتفع به، ولا يدركه الحس، والذات موضوع في اللغة للصاحبة التي هي ذات نسبت إلى شيء آخر، ثم نقل لنفس الشيء الذي يستحيل أن تنسبه إلى نفسها.
وأما وجود كل واحد منهما مع صاحبه، فكالدابة فإن استعمال لفظ الأعم في الأخص مجاز، وهو منقول، فكل مجاز راجح منقول، ولا ينعكس.
صفحة ١٨
الثالث: الإضمار: وهو مشتق من ضمور الأحشاء والأجسام، وهو قلبها كما ينبغي أن يكون عليه، ولما كان المضمر شأنه أن يكون منطوقا به على أتم من هيئته التي هو عليها الآن، سمي مضمرا لذلك، أو هو مشتق من الضمير الذي هو القلب وما اشتمل عليه؛ لخفائه عن الحس.
والمضمر من الألفاظ لا بد أن يخفى ظاهره نحو: أكرمته، أو جملته نحو المحذوف من القرية في قوله تعالى: {واسأل القرية} يوسف/82.
وأما حده: فهو اعتقاد معنى في النفس إذا صرح بلفظه مع اللفظ المنطوق به حصل المقصود إن كان المضمر جملته أو الاسم المحتاج في تفسيره إلى لفظ آخر منفصل عنه إن كان المضمر من الألفاظ (¬1) .
والقيد الأول احتراز من المبهمات، فإن الفعل كاف في تفسيرها، والقيد الثاني احتراز من الموصول، فإن مفسره لفظ متصل به.
الرابع [3/ب] المجاز: وهو مشتق من المجاوزة، التي هي العبور، فكأن اللفظ استقر بسبب الوضع في الحقيقة، ثم عبر به إلى محل المجاز، أو من الجواز الذي هو ضد الوجوب والاستحالة، وهو يرجع إلى الأول؛ لأن الجائز ينتقل في حكم العقل من الوجود إلى العدم، وبالعكس.
وأما حده: فهو استعمال اللفظ في غير ما وضع له، لعلاقة بينهما (¬2) .
الخامس التخصيص: واشتقاقه من الاختصاص بالشيء، كقولك: هؤلاء خاصة فلان، أي أصحابه دون غيره، ومنه سمي الفقر خصاصة؛ لاختصاص صاحبه بعدم المال.
ولما كان الدليل المخصص يختص بالأفراد المخرجة من لفظ العموم دون غيرها، سمي تخصيصا.
صفحة ١٩
وأما حده: فهو إخراج بعض ما يتناوله اللفظ العام وما يقوم مقامه، بدليل منفصل، قبل تقرر حكمه.
فقولنا: وما يقوم مقامه، احتراز من تخصيص المفهومات ونحوها، فإنها ليست ألفاظا عامة.
وقولنا: بدليل منفصل، احتراز من الاستثناء.
ولسنا نعني بالانفصال تأخره عن الخطاب، فإن الدليل العقلي مخصص مع تقدمه ومقارنته، بل نعني به أنه منفك عن اللفظ، إما بالزمان إن كان لفظا، أو بالحس إن كان عقلا.
وقولنا: قبل تقرر حكمه، احتراز من أن يعمل بالعام ثم يخرج بعضه، فإنه يكون نسخا لا تخصيصا (¬1) .
صفحة ٢٠
البحث الرابع
في تحقيق حصر هذه المحتملات
قال: في [4/أ] ذلك: (إذا انتفى احتمال الاشتراك والنقل كان اللفظ موضوعا لمعنى واحد، وإذا انتفى الإضمار والمجاز بقي اللفظ مستعملا فيما وضع له، وإذا انتفى احتمال التخصيص بقي اللفظ مستعملا في جملة ما وضع له، فلا يبقى خلل ألبتة) .
وهذا الحصر عليه أربعة أسئلة:
الأول: إن دليل الحصر إنما يكون بالترديد بين النفي والإثبات، وها هنا ليس كذلك، ولا يفيد الحصر؛ إذ لعله قد بقي ها هنا أمور أخر يقال فيها: إذا انتفى كذا وإذا انتفى كذا، ولم تذكر، بل بقيت أمور أخر بالضرورة.
بيانه: وذلك أن هذه الاحتمالات إنما هي مخلة بالفهم بالجزم، بالمدلول، لا بظنه، فإن الظن حاصل مع الاحتمالات، وقد ذكر: أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين إلا بنفي عشر احتمالات، فذكر هذه الخمسة مع التقديم والتأخير
والمعارض العقلي وتغير الإعراب (¬1) ، ومعلوم أن هذه العشرة إنما تخل باليقين لا بالظن، فكان حقه أن يذكر ها هنا العشرة (¬2) ، ولعله يثبت الحصر أو يبطل بزيادة أمر آخر على العشرة، فعلم بأن الحصر في الخمسة باطل بالضرورة.
صفحة ٢١
الثاني: إن قوله: (إذا انتفى المجاز والإضمار بقي اللفظ مستعملا فيما وضع له) ، مفهوم هذا الشرط أنه متى وجد أحدهما لا يكون اللفظ مستعملا فيما وضع له، وليس كذلك؛ لأن الإضمار على قسمين: منه ما يوجب [4/ب] مجازا في اللفظ، كقوله تعالى: {واسأل القرية} يوسف/82. فإن إضمار الأهل هو الذي صير إسناد السؤال في الظاهر إلى القرية مجازا.
ومنه ما لا يوجب مجازا في اللفظ، كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الآية، فإذا أضمرنا فيها محدثين لا يتجدد في اللفظ مجاز.
وكذلك قوله تعالى: {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} البقرة/184. فإذا أضمرنا (فأفطر) في اللفظ لم يكن ثم مجاز.
الثالث: إن كلامه: في هذه المحتملات إن كان في مطلقاتها وأجناسها دون أنواعها وأشخاصها فلا ينبغي له أن يذكر الإضمار على زعمه، ولا التخصيص؛ لأنهما نوعان للمجاز، فيندرجان تحت مطلقه، كما اندرجت أنواع النقل تحت مطلقه، وعلى هذا تكون الاحتمالات المخلة ثلاثة فقط.
وإن كان كلامه في أنواعها دون مطلقاتها وأجناسها فلا تنحصر في خمسة؛ لأن أنواع المجاز وحده عنده اثنا عشر، وأنوا ع النقل ثلاثة، فهذه خمسة عشر في اثنين منها، فعلم بأن الحصر في الخمسة لا يستقيم.
الرابع: أن من جملة الاحتمالات المخلة بالفهم: النسخ، ولم يذكره مع الخمسة؛ لأن السامع إذا جوز على حكم اللفظ أنه منسوخ لا يجزم بثبوته.
صفحة ٢٢
وأورده الإمام: بعد ذلك على نفسه، وأجاب عنه بأنه مندرج في التخصيص.
وهذا الجواب لا يستقيم [5/أ] على أصله، ولا على الحق في نفس الأمر: أما على أصله فإن أصله أن صيغة الأمر للقدر المشترك بين المرة الواحدة والتكرار، فلا عموم في الأزمان، فلا تخصيص.
وأما على الحق في نفس الأمر فلأنا إذا سبرنا الأوامر فلا نجدها تقتضي بصيغها فعل المأمور أبدا بشهادة ما سبق إلى الفهم.
صفحة ٢٣
البحث الخامس
في الإضمار
هل المضمر هو محل التجوز أو هو سبب التجوز؟ وهو من البحوث الدقيقة التي تتعين العناية به.
فمذهب الإمام: أن المضمر هو محل التجوز، لقوله في باب المجاز: إن قوله تعالى {واسأل القرية} يوسف/82 موضوع لسؤال القرية، ثم نقل إلى الأهل؛ لأن الظاهر هو الحقيقة، والمضمر المجاز، بناء على أن العرب إنما وضعت الإسناد في المعنى الذي له الإسناد في اللفظ، والإسناد في اللفظ للقرية، فينبغي أن يكون المعنى لها، فلما لم يكن في المعنى لها كان على خلاف الوضع الأصلي، فكان مجازا.
وغيره من أرباب علم البيان يقول: المضمر سبب التجوز، ويراعي حقائق الأفعال، فيقول: العرب وضعت السؤال ليركب مع من يصلح للإجابة؛ لأن ذلك مقتضى حكمة الواضع، فإذا ركب مع من لا يصلح للإجابة يكون مجازا في التركيب.
وهذا المذهب لا بد في تقريره من التنبيه على قاعدة، وهي أن العرب لما وضعت المفردات هل وضعت المركبات أم لا؟
وهي مسألة [5/ب] ذات قولين؛ لأن المجاز في المركب فرع وضعه، ومن أنكر الأصل فأولى أن ينكر الفرع.
حجة القائلين بالمنع: أنا نركب الأفعال مع أسماء حدثت في زماننا لم تعلمها العرب، ويكون كلاما عربيا، كما لو سمينا رجلا بخنفشار، ثم قلنا: أكرمت خنفشارا، كان عربيا، فدل ذلك على أن العرب لم تعرج على المركبات، بل وضعت المفردات وخيرت في التركيب.
صفحة ٢٤
حجة القائلين بالوضع: أن العرب كما قالت في المفردات: من قال: ليس بالفتح فهو من كلامنا، وبالكسر والضم ليس من كلامنا، قالت أيضا: من قدم خبر إن عليها أو على اسمها فليس من كلامنا، ومن أخره فهو من كلامنا، وأن المبتدأ إذا كان نكرة وخبره ظرف أو مجرور وجب تقديمه إلا في الدعاء، ولا يجب ذلك إذا كان المبتدأ معرفة، وأن رب لا تركب مع المعارف وتركب مع النكرات، وغير ذلك مما لا يحصى، فقد حجرت وأطلقت في المركبات كما فعلت ذلك في المفردات، فدل ذلك على وضعها للقسمين، وهذا هو الذي ينقدح في النفس.
وأما الجواب عما أورده الفريق الآخر من قولهم: أكرمت خنفشارا، فنقول: قولنا العرب وضعت المركبات لا نعني به إنها وضعت جزئياتها بل أنواعها، وندعي المجاز في نوع المركب من حيث هو نوع لا من حيث هو شخص، ونقول: نوع السؤال [6/أ] لا يتركب حقيقة إلا مع العقلاء.
ومن حجة الإمام أن يقول: إن المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة بينهما، والاستعمال معناه إرادة محل التجوز بالحكم.
والمراد بالسؤال إنما هو أهل القرية، وهذا مقام للنظر فيه مجال عريض.
صفحة ٢٥
الجملة الأولى
في فصول الاشتقاق
وهي تسعة:
الفصل الأول: في زيادة الحرف، وله أمثلة:
الأول: عاطب من العطب، فإن الألف زائدة وحدها.
الثاني: تالف من التلف، فإن الألف زائدة وحدها.
الثالث: ناظر من النظر، فإن الألف زائدة وحدها.
الفصل الثاني: في نقصان الحرف، وله أمثلة:
الأول: كتب من الكتاب، فإن الكتاب مصدر، وقد نقص منه الألف.
الثاني: حسب من الحساب، وقد نقصت الألف.
الثالث: ذهب من الذهاب، وقد نقصت الألف.
الفصل الثالث: في زيادة الحرف ونقصانه، وله أمثلة:
الأول: مدحرج من الدحرجة، نقصت هاء التأنيث وزيدت الميم.
الثاني: مزخرف من الزخرفة، نقصت التاء وزيدت الميم.
الثالث: مهندس من الهندسة.
الفصل الرابع: زيادة الحركة، وله أمثلة:
الأول: علم من العلم، زاد في العلم على المصدر حركة اللام.
الثاني: ضرب من الضرب، زاد في الفعل حركة الراء.
الثالث: قتل من القتل، زاد في الفعل حركة التاء.
صفحة ٢٦
الفصل الخامس: في نقصان الحركة [6/ب] وله أمثلة:
الأول: أسود من السواد، قدمت الألف التي بعد الواو، ونقصت حركة السين.
الثاني: أبيض من البياض، فالألف الأولى قبالة الألف الذاهبة، ونقصت حركة الياء.
الثالث: أصبح من الصباح، الألف الأولى قبالة الذاهبة، ونقصت حركة الصاد.
الفصل السادس: في زيادة الحركة ونقصانها، وله أمثلة:
الأول: غزا من الغزو، سكنت واو الغزو، بتنقيص حركة وحركت الزاي الساكنة منه.
الثاني: رمى من الرمي، نقصت حركة الياء من الرمي، وزيدت حركة الميم.
الثالث: سعى من السعي، نقصت حركة الياء من السعي، وزادت حركة العين.
الفصل السابع: في زيادة الحرف والحركة، وله أمثلة:
الأول: عالم من العلم، زادت الألف وحركة اللام.
الثاني: ضارب من الضرب، زادت ألف ضارب وحركة الراء.
الثالث: قاتل من القتل، زادت الألف وحركة التاء.
الفصل الثامن: في نقصان الحرف والحركة، وله أمثلة:
الأول: سر من السير، نقصت الياء وحركة الراء.
صفحة ٢٧
الثاني: بع من البيع، نقصت الياء وحركة العين.
الثالث: [عد من الوعد، نقصت الواو وحركة الدال] (¬1) .
الفصل التاسع: في زيادة الحرف والحركة ونقصانها، وله أمثلة:
الأول: أحمر من الحمرة، نقصت التاء وحركة الحاء، وزادت الألف وحركة الميم.
الثاني: أصفر من الصفرة [7/أ] زادت الألف وحركة الفاء، ونقصت التاء وحركة الصاد.
الثالث: أخضر من الخضرة، زادت الألف وحركة الضاد، ونقصت التاء وحركة الخاء.
سؤال: قد ترك: زيادة حرفين، نحو: معلم من العلم، وحرفين وحركة نحو: مضروب من الضرب، وزيادة حرفين ونقصان حركة، نحو عطشان من العطش، وزيادة حرفين وحركة ونقصانها نحو مسبار من السبر الذي هو الاختبار (¬2) .
فإن كان: أراد الحصر فهو باطل؛ لما ترى، وإن لم يرده فكان ينبغي أن ينبه على أصل زيادة الحركات والحروف، ولا حاجة إلى تقسيم ذلك إلى تسع، فإن ذلك يوهم الحصر فيما ليس بمحصور.
صفحة ٢٨
الجملة الثانية
في أمثلة تعارض الاحتمالات العشرة المخلة بالفهم
وفيها عشرة فصول:
الفصل الأول: في تعارض الاشتراك والنقل
وله أمثلة:
الأول: يقول الشافعي أو المالكي: الفاتحة ركن في الصلاة، لقوله<: «كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهى خداج» (¬1) . ولفظ الصلاة في عرف الشرع منقول إلى العبادة المخصوصة، فوجب أن تكون الفاتحة ركنا.
فيقول الحنفي: مذهب القاضي وجماعة من الأصوليين أن الشرع لم ينقل شيئا من الألفاظ، بل الصلاة مشتركة بين الدعاء، وبين الدعاء (¬2) ، ومنه سمي في حلبة السباق مصليا [7/ب] لكونه تابعا لصلوي الذي قبله، وسميت هذه العبادة صلاة لما فيها من المتابعة للأئمة غالبا، وإذا كانت مشتركة كانت مجملة، فيسقط الاستدلال بها، حتى يبين الخصم رجحان اللفظ في أحدهما.
فيقول المستدل: جعلها منقولة إلى العبادة المخصوصة أولى من الاشتراك، لما تقرر في علم الأصول.
صفحة ٢٩
الثاني: يقول الشافعي: الكلب نجس، لقوله صلى الله عليه وسلم: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعا» (¬1) . والطهارة في عرف الشرع منقولة إلى إزالة الحدث أو الخبث، فيتعين الخبث.
يقول المالكي: لفظ الطهارة مشترك في اللغة بين إزالة الأقذار وبين الغسل على وجه التقرب إلى الله تعالى؛ لأنه مستعمل فيهما حقيقة إجماعا، والأصل عدم التغيير، والتقرب إلى الله تعالى كان معلوما لهم، لقوله تعالى: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} الزمر/3، والمشترك مجمل، فيسقط الاستدلال به حتى يبين الخصم الرجحان.
يقول المستدل: جعله منقولا إلى العبادة المخصوصة أولى من الاشتراك لما تقرر في علم الأصول.
الثالث: يقول الحنفي: يجوز للمرأة الرشيدة مباشرة العقد على نفسها، لقوله تعالى: {أن ينكحن أزواجهن} البقرة/232 {حتى تنكح زوجا غيره} البقرة/230، فقد سلطها على العقد، فوجب أن لا يحجر عليها.
فيقول الشافعي أو المالكي: النكاح لفظ مشترك بين التداخل [8/أ] لقولهم: نكحت الحصاة خف البعير، وبين الأسباب الموصلة إليهم، لقولهم: نكح فلان عند بني فلان، ويريدون ذلك السبب المبيح في عوائدهم، ولذلك كانوا يفرقون بين البغايا وغيرهن، وإذا كان مشتركا سقط الاستدلال به حتى يبين المستدل الرجحان.
فيقول المستدل: بل هو منقول في عرف الشرع للعقد، ولذلك قيل: كل نكاح ورد في كتاب الله تعالى فالمراد به العقد، إلا قوله تعالى: {حتى تنكح زوجا غيره} البقرة/230، والنقل أولى من الاشتراك، لما تقرر في علم الأصول.
صفحة ٣٠
الفصل الثاني: في أمثلة الاشتراك والإضمار
الأول: يقول المالكي: إذا فرط في الزكاة ضمنها، لقوله <: (ليس فيما دون مائتي درهم صدقة، فإذا بلغت مائتي درهم ففيها خمسة دراهم) (¬1) ولفظة (في) مشتركة بين الظرفية، وهو ظاهر، وبين السببية، كقوله <: «وفى النفس المؤمنة مائة من الإبل» (¬2) . والإبل لا تكون مظروفة للنفس، فتعينت السببية حتى يكون معنى الكلام: بسبب قتل النفس المؤمنة تجب مائة من الإبل، فالظرفية متعذرة في صورة النزاع، فتعينت السببية.
وإنما قلنا: إن الظرفية متعذرة لأن قوله «فى خمس من الإبل» (¬3) . ليست الإبل ظرفا للشاة عملا بالحس، والباب واحد [8/ب] وإذا تعذرت الظرفية تعينت السببية، وقد وجد السبب في حقه فيجب المسبب عليه، والأصل بقاء ما كان على حاله.
فيقول الحنفي: الاشتراك على خلاف الأصل، وها هنا ما هو أولى بكلام الشرع منه، وهو إضمار قولنا: زنة خمسة دراهم، والمائتان مشتملة على هذه الزنة، والإبل على قيمة الشاة.
فيقول المستدل: ما ذكرته من الترجيح مدفوع بالاستصحاب، والإضمار أولى من الاشتراك على ما تقرر في علم الأصول.
صفحة ٣١