[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدا لمن اسمه مفتاح كل كتاب، وصلاة على شفيع الأمة، وعلى الآل والأصحاب .
أما بعد :
فيقول عبده الراجي عفوه القوي، محمد عبد الحي اللكنوي الأنصاري تجاوز الله عن ذنبه بعفوه الساري :
هذه رسالة لطيفة، وعجالة نفيسة، مسماة: ب((إحكام القنطرة في أحكام البسملة))، ليوافق الاسم المسمى، ويطابق اللفظ المعنى .
فإني قد جمعت فيها المسائل المتفرقة، وأوردت في أثنائها الفوائد المتشتتة، قاصدا إحكام الأحكام، بإيراد دلائلها مع النقض والإبرام .
ورتبتها على مقدمة وبابين :
المقدمة: في نبذ من فضائلها، وما يتعلق بها .
اعلم أن البسملة بالفتح مصدر بسمل يبسمل: أي قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وهو من باب النحت: كحوقلة، وحمدلة، وغيرها .
صفحة ٩
قال ابن فارس في ((فقه اللغة))(1) ، (باب النحت): العرب تنحت من كلمتين كلمة واحدة، وهو جنس من الاختصار: كحيعلة من حي على. انتهى.
وفي ((إصلاح المنطق))(1) لابن السكيت(2) يقال: قد أكثر من البسملة: إذا أكثر من قول بسم الله، ومن الهيللة: إذا أكثر من قول لا إله إلا الله، ومن الحوقلة والحولقة: إذا أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، ومن الجعفدة: أي من جعلت فداك، ومن السبحلة: أي قول سبحان الله.انتهى.
وفي ((التنوير)) لابن دحية: ربما يتفق اجتماع كلمتين من كلمة واحدة دالة عليهما، وإن كان لا يمكن اشتقاق كلمة من كلمتين على قياس التصريف، كقولهم مهلل(3): أي قال: لا إله إلا الله، وحمدل: أي قال: الحمد لله، وحولق: أي قال: لا حول ولا قوة إلا بالله .
صفحة ١٠
[فضائل البسملة]
ولا تقل حوقل بتقديم القاف، فإن الحوقلة: مشية الشيخ الضعيف، والبسملة: قول باسم(1)الله، والسبحلة: قول سبحان الله، والحسبلة: قول حسبي الله، والسمعلة: سلام عليكم، والطلبقة: أطال الله بقائك، والدمغزة: أدام الله عزك. انتهى .
ويفهم من هذا كله؛ أنه لا بد في النحت من اعتبار الترتيب، ومن ثم خطأ الشهاب الخفاجي جماعة من المحققين في قوله طبلق منحوت من طال بقائك، وقالوا المنحوت منه: إنما هو طلبق(2).
وزيادة تفصيل النحت في ((مزهر اللغات))(3)للسيوطي، فارجع إليه.
وذكر جمع أن البسملة وإن كان في الأصل مصدرا، لكنه غلب استعماله في نفس بسم الله الرحمن الرحيم، فيطلقون البسملة ويريدون به هذه الكلمات.
ومنه قول الفقهاء في مواضع تسن البسملة، ثم المراد بها في أبواب الصلاة، وأبواب الأكل والشرب، ونحوها: هو الكلمات المذكورة بأجمعها.
وفي أبواب الذبح، ونحوها: بسم الله فقط .
ولها فضائل كثيرة :
قد أوردها السيوطي في ((الدر المنثور))(4)، وغيره .
صفحة ١١
فمن ذلك: ما روى الخطيب(1) عن أنس مرفوعا: ((من رفع قرطاسا من الأرض فيها بسم الله الرحمن الرحيم؛ إجلالا له أن يداس؛ كتب عند الله من الصديقين)).
وروى أبو داود في ((مراسيله))(2)عن عمر بن عبد العزيز: ((أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، مر على كتاب في الأرض، فقال لفتى معه: ما هذا، قال: بسم الله، قال: لعن الله من فعل هذا، لا تضعوا بسم الله، إلا في موضعه)) .
ومنها: ما روى أبو نعيم(3)في ((تاريخ أصبهان))، وابن أشته في كتاب ((المصاحف))، عن أنس مرفوعا: ((من كتب بسم الله الرحمن الرحيم، فجوده(4)تعظيما له، غفر له))(5).
قال السيوطي في ((الدر المنثور)): سنده ضعيف. انتهى.
ومن المقرر أن الضعيف يكفي في فضائل الأعمال .
ومنها: ما رواه الديلمي عن ابن مسعود مرفوعا: ((من قرأ بسم الله، كتب الله له بكل حرف أربعة آلاف حسنة، ومحى عنه أربعة آلاف سيئة))(6).
صفحة ١٢
ومنها: ما رواه أبو نعيم، والديلمي، عن عائشة، قالت: ((لما نزلت بسم الله، ضجت جبال مكة، وسمع أهل مكة دويا، فقالوا: قد سحر محمد))(1).
ومنها: ما رواه الديلمي في ((مسند الفردوس))، عن ابن عباس مرفوعا: ((إن المعلم إذا قال للصبي، قل: بسم الله، فقال(2)، كتب للمعلم وللصبي ولأبويه، براءة من النار)).
ومنها: ما رواه وكيع، عن ابن مسعود، قال: ((من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ))(3).
ومنها: ما رواه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير(4)، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الزهري في تفسير قوله تعالى : { وألزمهم كلمة التقوى } (5)، قال: ((هي بسم الله الرحمن الرحيم )).
صفحة ١٣
ومنها: ما رواه الحافظ عبد القادر الرهاوي(1)في ((أربعنيته)) ؛ بسند حسن، عن أبي هريرة مرفوعا: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو أقطع ))(2).
صفحة ١٤
وروى الخطيب في ((جامعه))(1)، عن أبي جعفر معضلا(2):((بسم الله الرحمن الرحيم مفتاح كل كتاب))(3).
وهذا يفيد أنه مفتاح الكتب السماوية بأجمعها .
صفحة ١٥
وقد صرح به بعض المشايخ، كما ذكره العزيزي في ((شرح الجامع الصغير))، ويعضده ما رواه أبو عبيد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: ((أول ما نزل من التوراة بسم الله الرحمن الرحيم، { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } (1)الآيات .
لكن يخالفه ما رواه الدارقطني، من حديث بريدة، أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((لأعلمنكم آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري، بسم الله الرحمن الرحيم))(2).
صفحة ١٦
وكذا ما روى البيهقي(1)، عن ابن عباس، قال: ((أغفل الناس آية من كتاب الله، لم تنزل على أحد سوى النبي عليه الصلاة والسلام ، إلا أن يكون سليمان بن داود بسم الله..الخ)) (2).
وروى الطبراني عن بريدة مرفوعا: ((أنزلت علي آية، لم تنزل على أحد بعد سليمان بسم الله..الخ))(3).
وقد اختلف أصحاب السيرة النبوية، في أنها هل من خصائص رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، أم لا:
فمنهم من عدها منها، وترده رواية الخطيب(4)، ونقل الزرقاني في ((شرح المواهب اللدنية))، عن شيخه: أن كونها قرآنا يتلى من خصائص نبينا، وأما نفسها، فليس كذلك لثبوت نزولها على سليمان، ولعله كان للتبرك فقط، وفيه أن كونها متلوة أيضا ليست من الخصائص كما يعلم من رواية أبي عبيد .
صفحة ١٧
وذهب بعض المحققين إلى أنها بهذه الألفاظ العربية بهذا الترتيب من الخصائص، وما في سورة(1)النمل(2)، جاء على جهة الترجمة عما في كتابه، لأنه لم يكن عربيا، وحسنه الزرقاني، وقال: ما روي أن ((آدم لما أراد الخروج من الجنة، قال: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال له: جبريل لقد تكلمت بكلمة عظيمة ، فإنما كان بإلهام من الله تعالى، ولم تنزل عليه)).انتهى.
ومنها: ما رواه الدارقطني بسند ضعيف، عن ابن عمر مرفوعا: ((كان جبرئيل إذا جاءني بالوحي، أول ما يلقي علي بسم الله الرحمن الرحيم))(3).
ومنها: ما رواه أبو داود، والبزار، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في ((المعرفة)) عن ابن عباس قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يعرف فصل السورة ، حتى تنزل عليه بسم الله))(4) .
وروى الحاكم وصححه، البيهقي في ((سننه)): عن ابن عباس، قال: ((كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة، حتى تنزل بسم الله، فإذا أنزلت علموا أن السورة قد انقضت))(5).
صفحة ١٨
وروى نحوه(1): أبو عبيد عن سعيد بن جبير، والطبراني، والحاكم، والبيهقي عن ابن عباس، والبيهقي، والواحدي، عن ابن مسعود .
ومنها: ما رواه ابن مردويه، والثعلبي عن جابر قال: ((لما نزلت بسم الله، هرب الغنم إلى المشرق، وسكنت الريح، وهاج البحر، وحلف الله أن لا يسمى على شئ إلا بارك فيه ))(2).
وللبسملة خواص مذكورة في ((الدر النظيم في خواص القرآن الكريم))(3)، وحكايات كثيرة مبسوطة في ((نزهته المجالس))(4)، وغيره من كتب الفضائل والسلوك، قد صفحنا عن إيرادها، لئلا يطول الكلام .
الباب الأول
في ذكر الاختلافات الواقعة في كون البسملة
من القرآن
اعلم أنهم اختلفوا في ذلك على أقوال تسعة(5):
صفحة ١٩
الأول: أنها آية تامة من كل سورة، الفاتحة وغيرها، وهو قول ابن كثير، وعاصم، والكسائي، وغيرهم من قراء مكة، والكوفة، وإليه ذهب ابن المبارك، والشافعي .
والثاني: أنها ليست بآية أصلا، لا من الفاتحة، ولا من سورة أخرى، وهو مختار مالك، وغيره من فقهاء المدينة، والبصرة، والشام، وقراء المدينة.
والثالث: أنها آية من الفاتحة، لا من غيرها، وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي .
والرابع: أنها بعض آية منها فقط، وهو رواية عن الشافعي .
والخامس: أنها آية فذة، ليست من الفاتحة، ولا من سورة أخرى، أنزلت لبيان مبادئ السور وخواتيمها، وهو مختار جماعة من متأخري أصحابنا كما ذكره السرخسي في ((أصول الفقه)) .
واستند لذلك بما رواه المعلي، عن محمد، أنه سأل محمد عن البسملة، فقال: ما بين الدفتين كلام الله وهو قول ابن المبارك، وداود وأتباعه، وهو المنصوص عن أحمد بن حنبل .
وذكر أبو بكر الرازي أنه مقتضى قول أبي حنيفة، وهو قول المحققين من أهل العلم، فإن في هذا القول جمعا بين الأدلة وكتابتها سطرا مفصلا، يؤيد ذلك، كذا في ((نصب الراية لأحاديث الهداية)) للعلامة الزيلعي (1).
صفحة ٢٠
وفي ((تحرير الأصول)) لابن الهمام(1): الأحق المطابق للواقع، أنها من القرآن لتواترها في المصحف، وهو دليل تواتر كونها قرآنا، لأن الإثبات في المصاحف مع الأمر بالتجريد ملزوم القرآنية، وتواتر الملزوم يدل على تواتر اللازم. وتواتر قراءة رسول الله السور بالبسملة لا يستلزم كونها جزء من السور لجواز كون الافتتاح بها للتبرك، بخلاف الترك فإنه يدل على أنه ليس منها. انتهى.
وفي ((شرح المواهب اللدنية)) للزرقاني(2)، قال السهيلي: نزلت البسملة مع كل سورة بعد { اقرأ } (3)، فهي آية، لا من سورة، وقد ثبتت في المصحف بإجماع الصحابة، ولا نلتزم قول الشافعي أنها آية من كل سورة، بل إنها آية من القرآن مقترنة مع كل سورة، وهو قول داود، وأبي حنيفة، وهو قول بين لمن أنصف. انتهى كلام السهيلي.
صفحة ٢١
وهو اختيار له مخالف للمعتمد من مذهب مالك رحمه الله تعالى . انتهى.
وقال العلامة الإتقاني(1) في شرح ((المنتخب الحسامي)) المسمى ب((التبيين)) : مذهب أبي حنيفة وأصحابه أنها منزلة من القرآن لا من أول السورة، ولا من آخرها، وهو قول مالك، والأوزاعي، وقد روى عن محمد بن الحسن نحوه، ومذهب الشافعي أنها من رأس كل سورة. انتهى.
ولا يخفى عليك أن ما ذكره من مذهب مالك، خلاف المشهور عنه، المختار عند أصحابه.
وقال البيضاوي: لم ينص أبو حنيفة فيه بشيء، فظن أنها ليست من السورة عنده. انتهى(2).
صفحة ٢٢
قال الخفاجي(1)في ((حواشيه))(2): لما كان المصنف شافعي المذهب قائلا بمفهوم المخالفة، مع أنه مراعى في عبارات المصنفين، ومفهوم قوله لم ينص: أي لم يصرح، لا أنه ليس في كلامه إشارة إليه، فصح تفريع قوله، فظن عليه، فلا يرد عليه أن عدم النص على الشيء نفيا وإثباتا لا يتفرع عليه ظن عدمه، ولا حاجة إلى ما قيل أن أبا حنيفة من أهل الكوفة الذاهبين إلى كونها من الفاتحة، فسكوته يشعر بمخالفته لهم .
وقيل: الفاء لمجرد تأخر الظن عن عدم النص، وسبب الظن أمره بالإسرار بها .
وقال الكرخي: لا أعرف هذه المسألة بعينها لمتقدمي أصحابنا، إلا أن أمرهم بإخفائها يدل على أنها ليست من السورة عنده .
وقيل: إنه لما لم ينص فيها بشيء، ظن أنه أبقاها على أصله(3).
صفحة ٢٣
وقيل: ظن في هذه العبارة ليس فعلا مجهولا، بل مصدر منون مرفوعا على أنه خبر مقدم، والمراد تزييف(1)نسبته إليه، والرد على الزمخشري في قوله أنه مذهب أبي حنيفة تلميحا لقوله تعالى: { إن بعض الظن إثم } (2) .
قلت: هو أيضا من بعض الظن، وما في ((الكشاف)): إن لم نقل أنه ظفر برواية عنه بناءا على إطلاق مذهب أبي حنيفة على ما هو المتداول عندهم، فإن قلت كيف يصح القول بأنها ليست من السورة، وأن أبا حنيفة لم ينص بشيء مع أن محمد بن القاسم، و((البرهان الكافي))، وغيرهما، نقلوا عن أبي حنيفة إيجابها في الصلاة حتى قال الزيلعي: يجب سجود السهو بتركها، ونقل عن ((المجتبى)) وجوبها في كل ركعة.
قلت: قال الأستاذ المقدسي في كتاب ((الرمز))، عن شرح ((المختار))، عن شيخه السمديسي(3)أنها ليست بواجبة، فقد حكى المحققون كالإمام أبي بكر الرازي وغيره: أن الخلاف إنما هو في السنية لا في الوجوب. انتهى كلام الخفاجي ملخصا.
صفحة ٢٤
وفي ((حواشي الكشاف)) للتفتازاني(1)عن قدماء الحنفية: أنها ليست من القرآن، وأن تقييد التواتر في تعريف القرآن بقولهم بلا شبهة احتراز عنها .
ولما لاح للمتأخرين بالنظر إلى الأدلة أنها من القرآن، قالوا الصحيح من المذهب أنها آية واحدة من القرآن، وليست آية ولا بعض آية، فصار محل الخلاف بينهم وبين الشافعية، أنها آية واحدة غير متعلقة بشيء من السور، أو مئة وثلاث عشرة آية من مئة ثلاث عشرة سورة كالآية المتكررة في سورة. انتهى كلامه.
والسادس: أنه يجوز جعلها آية من السور، وجعلها ليست منها، بناءا على أنها نزلت مرة، ولم تنزل أخرى .
قال الخفاجي: هذا القول أغرب الأقوال، وكان ابن حجر يرتضيه، ويقرر به في دروسه، وأطنب في تحسينه السيوطي. انتهى(2).
قلت: لا شك في أن البسملة نزلت مع كثير من السور، منها سورة الكوثر وغيرها(3)، ولم تنزل مع بعض السور كسورة { اقرأ } التي بها بدء الوحي .
صفحة ٢٥
فبناءا عليه القول بأن جعلها جزء وعدمه من نتائج كون القرآن نازلا على سبعة أحرف، كما اختاره العلامة ابن النقاش، وابن حجر، وغيرهما، ليس ببعيد، بل هو أحسن الأقوال، وإليه مال المحدث ولي الله الدهلوي حيث قال في رسالة ((تدوين مذهب الناطق بالصواب عمر بن الخطاب)): روى مالك، والشافعي، عن أنس: كان أبو بكر وعمر وعثمان يستفتحون القراءة ب { الحمد لله رب العالمين } .
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، عن عبد الله بن مغفل، عن أبيه، قال: ((صليت خلف رسول الله، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم أسمع أحدا منهم يقول ذلك )).
وروى أبو بكر عن الأسود، قال: ((صليت خلف عمر سبعين صلاة، فلم يجهر فيها ببسم الله )).
وروى أبو بكر، عن عبد الله بن أهزى، أن عمر: ((جهرببسم الله)).
قلت: روى عنه أهل المدينة، والكوفة، والبصرة، ترك الجهر بالبسملة .
وروى عنه أهل مكة الجهر، فوقع الفقهاء في الترجيح، فذهب الشافعي إلى ترجيح الجهر، وعلى قياس قول محمد في دعاء الافتتاح أنه جهر في بعض الأوقات ليعلمهم أنه سنته .
صفحة ٢٦
والأوجه عندي أن عمر، رضي الله عنه، كان تعلم من رسول الله في قصته مع هشام بن حكيم(1)أن القرآن نزل على سبعة أحرف كلها كاف وشاف، وكان يرى أن الابتداء بالبسملة على أنها من الفاتحة حرف صحيح، وتركها على أنها إنما تسن البداية بها في كتابة القرآن، والتلاوة خارج الصلاة حرف صحيح أيضا، والابتداء بها على أنها ليست من الفاتحة حرف صحيح أيضا، فعمل بهذه الأحرف في الأوقات، انتهى كلامه وتم مرامه .
والسابع: أنها بعض آية من السور كلها .
والثامن: أنها آية من الفاتحة ، وجزء آية من السورة .
والتاسع: عكسه .
وهذه الأقوال كلها إنما هي في ما سوى البسملة المتلوة في سورة النمل، فإنها آية منها اتفاقا، وفي غير أول سورة براءة، فإنها ليست منها اتفاقا.
ونقل الزمخشري(1) عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: من ترك البسملة فكأنه ترك مئة وأربع عشرة آية(2).
وأورد عليه: أن الظاهر ثلاث عشرة لأنها ليست من سورة براءة اتفاقا.
وأجيب عنه: بأن الفاتحة نزلت مرتين، ففيها البسملتان، وفيه أنه تكون الفاتحة إذا أربع عشرة آية، ولم يقل به أحد .
وقيل مراد ابن عباس، أنه إذا تركها في جميع السور يكون المتروك هذه العدة .
وقيل المراد تركها في أثناء سورة النمل أيضا، وهي وإن كانت بعض آية، لكن تركها يتضمن ترك آية لكونها عبارة عن المجموع، وهذا أحسن كذا في ((كشف الكشاف)) .
هذا هو ضبط المذاهب الواقعة فيها على سبيل الاختصار .
صفحة ٢٨
ونتوجه الآن إلى أدلة القائلين بكونها آية، والذاهبين إلى خلافه مع مالها وما عليها .
فنقول: إن القائلين بكونها جزء من السور، استدلوا بوجوه كثيرة :
منها: ما أورده الإمام فخر الدين الرازي في ((تفسيره))، وتبعه من تبعه بقوله: قراءة بسم الله الرحمن الرحيم واجبة في أول الفاتحة، وإذا كان كذلك، وجب أن تكون آية منها(1).
بيان الأول قوله تعالى: { اقرأ باسم ربك } (2)، ولا يجوز أن تكون الباء صلة زائدة، لأن الأصل أن يكون بكل حرف فائدة، وإذا كان هذا الحرف مفيدا، كان التقدير اقرأ مفتتحا باسم ربك، وظاهر الأمر للوجوب، ولم يثبت هذا الوجوب في غير الصلاة، فتعين أن يكون في الصلاة. انتهى .
قلت: لا يخفى عليك ما فيه من الضعف، فإن وجوب البسملة في الصلاة ممنوع عند(3) الخصم، كما مر .
وقوله تعالى: { اقرأ باسم ربك } لا يوجب إلا مطلق الذكر لا خصوص هذه الألفاظ .
ولو سلم وجوبها، فقوله: وإذا كان كذلك، فإنه(4) ممنوع لجواز أن تكون واجبة مع عدم كونها من القرآن، نعم لو ثبت أن كل ما وجب في الصلاة من قبيل الأقوال، فهو من القرآن ، لتم الكلام وإذ ليس فليس.
ولو سلم أن وجوبها في الصلاة يستلزم كونها من القرآن، لكنا لا نسلم كونها جزء من الفاتحة، فيجوز أن تكون من القرآن من غير الجزئية، كما ذهب إليه محققوا أصحابنا .
صفحة ٢٩