إن أول الأشياء المبتدعة الأنية، وليس من ورائها مبتدع آخر، وذلك أن الأنية فوق الحس وفوق النفس وفوق العقل. وليس بعد العلة الأولى أوسع ولا أكثر معلولات منها، ولذلك صارت أعلى الأشياء المبتدعة كلها وأشدها اتحادا. وإنما صارت كذلك لقربها من الأنية المحضة الواحد الحق الدى ليس فيه كثرة الجهات. والأنية المبتدعة — وإن كانت واحدة — فإنها تتكثر أعنى أنها تقبل الكثير؛ وإنما صارت كثيرة لأنها، وإن كانت بسيطة ليس فى المبتدعات أبسط منها، فإنها مركبة من نهاية ولانهاية؛ وذلك أن كل ما كان منها يلى العلة الأولى فهو عقل تام كامل غاية فى القوة، وسائر الفضائل والصور العقلية فيه أوسع وأشد كلية، والأسفل منه فهو عقل أيضا، إلا أنه دون ذلك العقل فى التمام والقوة والفضائل. وليست الصور العقلية فيه أوسع كسعتها فى ذلك العقل. والأنية المبتدعة الأولى عقل كلها، إلا أن العقل فيها يختلف بالنوع الذى ذكرنا، فلما اختلف العقل، صار هناك صور عقلية مختلفة. وكما أن الصورة الواحدة إذا اختلفت فى العالم السفلى حدث منها أشخاص لا نهاية لها فى الكثرة — كذلك الأنية الأولى المبتدعة: لما اختلفت ظهرت الصور التى لا نهاية لها، إلا أنها وإن اختلفت فإنها لا يتباين بعضها من بعض كمباينة الأشخاص، وذلك أنها تتحد من غير تفاسد، وتتفرق من غير تباين، لأنها واحد ذات كثرة وكثرة واحدانية.
صفحة ٧