الاعتصام للشاطبى موافق للمطبوع
محقق
سليم بن عيد الهلالي
الناشر
دار ابن عفان
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤١٢هـ - ١٩٩٢م
مكان النشر
السعودية
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ إِنْ كَانَتْ بِالْمَعْنَى الْمُقَرَّرِ فِي شَرَائِعِ الْأُوَلِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا فِي شَرْعِنَا؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى نَسْخِهَا، كَانَتْ لِعَارِضٍ أَوْ لِغَيْرٍ عَارِضٍ، إِذْ لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ رَدَّ ﷺ التَّبَتُّلَ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ.
وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ حَسْبَمَا شَرَعَ وَعَلَى حَدِّ مَا انْقَطَعَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَهُوَ الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾ [المزمل: ٨]؛ فَهَذَا هُوَ الَّذِي نَحْنُ فِي تَقْرِيرِهِ، وَأَنَّهُ السُّنَّةُ الْمُتَّبَعَةُ وَالْهَدْيُ الصَّالِحُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ.
وَلَيْسَ فِي كَلَامِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرِهِ فِي مَعْنَى التَّبَتُّلِ مَا يُنَاقِضُ هَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ رَفْضَ الدُّنْيَا لَيْسَ بِمَعْنَى طَرْحِ اتِّخَاذِهَا جُمْلَةً وَتَرْكِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، بَلْ بِمَعْنَى تَرْكِ الشُّغْلِ بِهَا عَمَّا كُلِّفَ الْإِنْسَانُ بِهِ مِنَ الْوَظَائِفِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَاجْعَلْ سِيَرَ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِرْآةً لَكَ تَنْظُرُ فِيهَا مَعْنَى التَّبَتُّلِ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَلَقَدْ كَانُوا (رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ) مُكْتَسِبِينَ لِلْمَالِ بِهِ فِيمَا أُبِيحَ لَهُمْ، مُنْفِقِينَ لَهُ حَيْثُ نُدِبُوا، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِقُلُوبِهِمْ مِنْهُ شَيْءٌ، إِذَا عَنَّ لَهُمْ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ، بَلْ قَدَّمُوا أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ عَلَى حُظُوظِ أَنْفُسِهِمُ الْعَاجِلَةِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَخْلُ بِحُظُوظِهِمْ فِيهِ، وَهُوَ التَّوَسُّطُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
ثُمَّ نَدَبَهُمُ الشَّارِعُ إِلَى اتِّخَاذِ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، فَبَادَرُوا إِلَى الِامْتِثَالِ، وَلَمْ يَقُولُوا: هُوَ شَاغِلٌ لَنَا عَمَّا أُمِرْنَا بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُشْعِرٌ بِالْغَفْلَةِ عَنْ مَعْنَى التَّكْلِيفِ بِهِ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ الشَّرْعِيَّ أَنَّ كُلَّ مَطْلُوبٍ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُتَعَبَّدُ بِهِ
1 / 435