بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا ومولانا محمد
قال الشيخ الفقيه الحافظ الحافل المصنف المحدث الأديب البارع أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر القضاعي المعروف بابن الأبار، ﵀: أما بعد حمد الله الذي يعفو عن السيئات، والصلاة على محمد رسوله الخاص بسيادة كل ماضٍ وآت، الحاض على اغتفار الهنات، وإقالة عثرات ذوي الهيئات، فهذه نبذة من إعتاب الكتاب، وتشفيع الآداب، تشهر كما لهم في الاضطلاع والاكتفاء، وتشهد بما لهم عند الأمراء والخلفاء، من كريم الاختصاص ولطيف الإختفاء؛ وكيف لا يكونون كذلك، وهم مقاول
1 / 43
الدول وألسنة الممالك، مفردهم في الإفصاح، يعدل جمع الكفاح، وقصبهم الضعيف يقاوي صم الرماح، ويقاوم ذلق الصفاح. رب كتيبة فضها كتاب، وخطب صرعه خطاب فانجاب، وأمل دعابه إملاء فأجاب، ولله در قائلهم، يذكر بعض فضائلهم:
إذا ما جَرَدْنا وانتضَيْنا صوارمًا ... يكادُ يُصِمُّ السامعين صريرُها
تظل المنايا والعطايا شوارعًا ... تدور بما شئنا وتمضي أمورُها
تُساقط في القرطاس منها بدائعًا ... كمثل اللآلي نظمُها ونَثيرُها
تقودُ أبيّاتِ البيانِ بفطنةٍ ... تَكَشَّف عن وجه البلاغة نورُها
إذا ما خطوب الدهر أرخت ستُورها ... تجلّت بها عمّا يُحَبُّ سطورُها
وقال الشعبي: أربعة كانوا كتابًا صاروا خلفاء: عثمان وعلي ومعاوية وعبد الملك بن مروان.
وحكى سكن بن إبراهيم الكاتب، في كتابه المؤلف في طبقات الخلفاء
1 / 44
بالأندلس أن عبد الملك بن مروان قال يومًا لأبنه الوليد: لو عداك ما أنت فيه ما كنت معولًا عليه من دهرك؟ قال: فارس حرب! ثم قال لسليمان: فأنت؟ قال: كاتب سلطان! ثم قال ليزيد: فأنت؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما تركا حظًا لمختار! وعالم لا تحصى أسماؤهم سموا بالبيان، وبنوا بيوت مجدهم بالأقلام أوثق البنيان؛ ثم إلى هذه الحسنى زيادة، لها بشرف الصناعة إشادة، وهي ما غني عن الاستقصاء بالاستقراء، من تقصي العصر بعد العصر، عن أفراد من الكتاب، وأعداد من الشعراء، أم الصقر مقلاة نزور، وقلما تلاقى الفنان: منظوم ومنثور، فإذا جمعا في واحد، لم تجد لفضله من جاحد؛ وصنف منهم حساب، لا تقع بغير كفايتهم أحساب؛ بينهم من حمل اليراع وفضل الطباع أسباب واصلة وأنساب. قليلًا ما يخلو من صدورهم صدر ديوان، ولا تخلو محاسنه إلا تلا إحسانهم وجه أوان، وكثيرًا ما احتملت بوادرهم، واستحليت نوادرهم، وقبلت جيئاتهم وأوباتهم، واستدركت أخذاتهم ونكباتهم، إلى ما سدل عليهم من أثواب الرعايات، وسد عنهم من أبواب السعايات. وقد عفا رسول الله
1 / 45
ﷺ عن كاتبه ابن أبي سرح، وقصة ارتداده لا يفتقر إيضاحها إلى شرح.
ولما كانت المحظوظة من الأدب والعلم، المخصوصة بما يجب لله ورسوله من الأناة والحلم، التي نظمت الندى إلى البأس، وكظمت الغيظ وعفت عن الناس، حضرة مولانا الخليفة الإمام الهادي، المبارك المرتضى، أبو زكرياء أدام الله بها استظهار الإيمان والإسلام، وافتخار الأسياف والأقلام، ولا أعدمها استمرار نصر الألوية والأعلام، وكنت ممن فاض على إساءته إحسانها عدا، وأده تأمينها وامتنانها وقد جاء شيئًا إدًا، وسمت هذه الرسالة باسمها العالي ورسمت من إغضائها في إغضابها ما لم يقع في العصر الخالي، زاجرًا ميامين طيرها، وناظرًا أفانين خيرها، لأكون كيزيد بن مزيد، عندما رضي هرون الرشيد عنه، وأذن له في الدخول عليه، فلما مثل بين يديه قال: الحمد لله الذي سهل لي سبيل الكرامة بلقائك، ورد علي النعمة بوجه الرضا منك، وجزاك الله يا أمير المؤمنين في حال سخطك جزاء المتثبتين المراقبين، وفي حال رضاك
1 / 46
جزاء المنعمين المتطولين، فقد جعلك الله وله الحمد تتثبت تحرجًا عند الغضب، وتمتن تطولًا بالنعم، وتستبقي المعروف عند الصنائع، تفضلًا بالعفو، فإني الآن كالذي وجد عليه عبد الملك بن مروان فجفاه واطرحه، ثم دعا به ليسأله عن شيء، فرآه شاحبًا ناحلًا، فقال له: منذ متى اعتللت؟ قال: ما مسني سقم، ولكني جفوت نفسي، إذ جفاني أمير المؤمنين، وآليت ألا أرضى عنها حتى يرضى أمير المؤمنين عني! فأعاده إلى حسن رأيه فيه.
ولن أكف شافعًا في نفسي، ودافعًا براحة رجائي في صدر يأسي، أو ألحق بمشيئة الله شأو رجل من أهل الكوفة دخل على أبي جعفر المنصور، يشفع في مسخوط عليه، فشفعه فيه، فقال: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في تقبيل يدك، فإنها أحق يد بالتقبيل، لعلوها في المكارم، وطهورها من المآثم، وإنك يا أمير المؤمنين، لقليل التثريب، كثير الصفح عن الذنوب، فمن أرادك بسوء فجعله الله حصيد سيفك، وطريد خوفك؛ فأُعجب به المنصور وقربه.
ومولانا أيد الله أمره أسجح طباعًا، وأفسح في الفضائل باعًا، ما زال يشرف احترامًا واصطناعًا، ويعرف إحسانًا وإقناعًا، وحق لمن عول على عدله المأمون، وتوسل بفضله المضمون، ثم بنجله المبارك الميمون، أن يجتلي وجه القبول المأمول سافرًا، ويطمئن مقيمًا بما انزعج مسافرًا، فإنما دعا
1 / 47
للتوب قابلًا، وللذنب غافرًا، وسعى للعود بالخلاص الدائب، من ظفر الحادث وناب النائب ظافرًا، لا زالت أهاضيب نواله دائمة السفوح والهتون، وأحاديث كماله صحيحة الأسانيد والمتون، ودام ولي عهده، وخلاصة مجده، المهنأُ بمعالي الأمور، والمهيأُ لأفتتاح المعمور، وهده ونجده، نظام الدين والدنيا، الأمير الأسعد الأعلى، الأظهر الأرضى، أبو يحيى، يقتفي مذاهبه، ويصطفي مناقبه، حتى يفرع النجم جلالًا جليًا، ويرفع العلم مكانًا عليًا؛ وهذا ابتداء المقصود، وإنجاز الموعود.
1 / 48
تراجم الكتاب
مروان بن الحكم
كتب لعثمان ﵁، واستولى عليه؛ وكان عثمان يولي بني أمية، فيجيء منهم ما ينكر، ويستعتب فيهم فلا يعزلهم؛ فلما شكا أهل مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح وتظلموا منه، عزله واستعمل مكانه محمد بن أبي بكر الصديق، فعثر في طريقه، هو وأصحابه، بعد مسيرة ثلاث، على غلام يخبط بعيره، كأنه هارب أو طالب، ووجهه إلى مصر، أخبرهم مرةً أنه لعثمان، وأخرى لمروان، ولم يجدوا معه إلا إداوةً قد يبست، فيها شيء
1 / 49
يتقلقل، فشقوها فإذا كتاب إلى ابن أبي سرح بالقرار على عمله وبإبطال كتاب محمد بن أبي بكر، والإحتيال لقتله ومن معه؛ فرجعوا إلى المدينة، وعرفوا عثمان، فحلف ما كتب الكتاب ولا أمر به، ولا علم؛ وعرفوا أنه خط مروان، فسألوه أن يدفعه إليهم ليمتحنوه وينظروا في أمره، فأبى عثمان أن يخرج مروان، وخشي عليه القتل، فكان ذلك سبب حصاره.
وحكى الجاحظ قال: قال يزيد بن عياض: لما نقم الناس على عثمان، خرج يتوكأ على مروان وهو يقول: لكل أُمة آفة، ولكل نعمة عاهة، وإن آفة هذه الأمة عيابون طعانون، يظهرون لكم ما تحبون، ويسرون ما تكرهون، طغام مثل النعام، يتبعون أول ناعق. لقد نقموا علي ما نقموا على عمر، ولكن قمعهم ووقمهم؛ والله إني لأقرب ناصرًا، وأعز نفرًا؛ فضل فضل من مالي، فمالي لا أفعل في الفضل ما أشاء..
وشهد مروان يوم الدار، ثم يوم الجمل، وولي المدينة لمعاوية مرتين، ثم بويع له بالشام، بعد معاوية بن يزيد بن معاوية.
1 / 50
زياد بن أبي سفيان
كتب للمغيرة بن شعبة، ثم لأبي موسى الأشعري، في استعمالهما على الكوفة. وذكر حويرثة بن أسماء أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر ﵁ أن المال كثر من يأخذه، فلسنا نحصيه إلا بالأعاجم، فاكتب إلينا بما ترى؛ فكتب إليه عمر: لا تعيدوهم في شيء سلبهم الله إياه، واخشوهم على دينكم، وأنزلوهم حيث أنزلهم الله، وتعلموا فإنما هي الرجال؛ فاستكتب زيادًا.
ويروى أن عمر استقدم أبا موسى، فاستخلف زيادًا على عمله، فقال له: استخلفت غلامًا حدثًا! فقال: يا أمير المؤمنين، إنه ضابط لما ولي، خليق بكل خير؛ فكتب عمر إلى زياد يأمره بالقدوم عليه، وباستخلافه على
1 / 51
العمل من يقوم به؛ فاستخلف زياد عمران بن حصين، وقدم عليه، فقال عمر: لئن كان أبو موسى استخلف حدثًا، لقد استخلف الحدث كهلًا! ثم دعا بزياد فقال له: ينبغي أن تكتب إلى خليفتك بما يجب أن يعمل به؛ فكتب إليه كتابًا، ودفعه إلى عمر، فنظر فيه، ثم قال: أعد! فكتب غيره، فقال: أعده! فكتب الثالث، فقال عمر: لقد بلغ ما أردت في الكتاب الأول، ولكني ظننت أنه قد روى فيه، ثم بلغ في الثاني ما أردت، فكرهت أن أُعلمه ذلك، وأردت أن أضع منه لئلا يدخله العجب فيهلك!
ولما عزله عمر عن كتابة أبي موسى قال له: أعن عجز أم خيانة يا أمير المؤمنين؟ قال: لا عن واحد منهما، ولكن كرهت أن أحمل على الناس فضل عقلك.
ثم كتب لعبد الله بن عامر، وهو الذي قال له، وقد حصر على منبر البصرة، فشق ذلك عليه: أيها الأمير، إنك إن أقمت عامة من ترى، أصابه أكثر مما أصابك! وكتب أيضًا لعبد الله بن عباس، ذكر ذلك أبو عمر بن عبد ربه في كتاب العقد الفريد من تأليفه؛ ثم ولي لعلي ﵁ فارس، وكان من كبار
1 / 52
أصحابه، إلى أن استلحقه معاوية، وولاه الكوفة والبصرة، وهو أول وال جمع له العراق.
يحيى بن يعمر
روى ابن أبي خيثمة في تاريخه، عن أبي سفيان الحميري، قال: كان يحيى بن يعمر من عدوان، وكان كاتب المهلب بخراسان، قال: فجعل الحجاج يقرأ كتبه فيعجب، فقال: ما هذا؟ فأُخبر، فكتب فيه، فقدم، فرآه فصيحًا جدًا، فقال: أين ولدت؟ فقال: بالأهواز، فقال: فما هذه الفصاحة؟ قال: كان أبي نشأ بتوج، فأخذت ذلك عنه؛ قال: أخبرني عن عنبسة بن سعيد يلحن؟
1 / 53
قال: كثيرًا! قال: فأنا ألحن؟ قال: لحنًا خفيفًا، قال: أين؟ قال: تجعل إِنّ أَنّ وأَنّ إِنّ ونحو ذلك.. قال: لا تساكني ببلدة، أُخرج!..
قال: وعدوان من قيس.
وروي أن الحجاج بعث به إلى خراسان، وبها يزيد بن المهلب، فكتب إلى الحجاج: إنا لقينا العدو، ففعلنا وفعلنا، فاضطررناهم إلى عرعرة الجبل فقال الحجاج: ما لابن المهلب وهذا الكلام! ويقال إنه قال: ليس يزيد بأبى عذر هذا الكلام! فقيل له. إن ابن يعمر قال ذلك، قال: ذلك إذًا!.
وذكر يونس بن حبيب النحوي قال: قال الحجاج لابن يعمر: أتسمعني ألحن على المنبر؟ قال: الأمير أفصح من ذلك؛ فألح عليه، فقال: حرفًا، قال: أيًا؟ قال: في القرآن، قال: ذلك أشنع له فما هو؟ قال: تقول: " قل إِنْ كانَ آباؤُكم وأبناؤُكم إلى قوله ﷿ أحبَّ " فتقرؤها: أحبُّ
1 / 54
بالرفع، والوجه أن تقرأ بالنصب، على خبر كان، قال: لا جرم لا تسمع لي لحنًا أبدًا؛ فألحقه بخراسان، وعليها يزيد بن المهلب، قال: فكتب يزيد إلى الحجاج: إنا لقينا العدو، فمنحنا الله أكتافهم، فأسرنا طائفةً، وقتلنا طائفةً، واضطررناهم إلى عرعرة الجبل، وأثناء الأنهار. فلما قرأ الحجاج الكتاب قال: ما لابن المهلب ولهذا الكلام! حسدًا له، فقيل له: إن ابن يعمر هناك، فقال: فذاك إذًا!.
وعكس أبو العباس المبرد في الكامل مساق هذا الخبر، فجعل كتاب يزيد بن المهلب سببًا في إشخاص ابن يعمر إلى الحجاج، فقال في تفسير قول الشاعر:
قتل الملوك وسار تحت لوائه ... شجر العرى وعراعر الأقوام
الواحدة عرعرة، وعرعرة كل شيء أعلاه، ومن ذلك كتاب يزيد بن المهلب إلى الحجاج بن يوسف: إن العدو نزل بعرعرة الجبل، ونزلنا بالحضيض! فقال الحجاج: ليس هذا من كلام يزيد، فمن هنالك؟ قيل: يحيى بن
1 / 55
يعمر، فكتب إلى يزيد بأن يشخصه إليه. قال: وزعم التوزي قال: قال الحجاج ليحيى بن يعمر يومًا: أتسمعني ألحن؟ قال: الأمير أفصح من ذلك، قال: فأعاد عليه القول، وأقسم عليه؛ فقال: نعم، تجعل أنّ مكان إنّ فقال له: ارحل عني ولا تجاورني.
وحكى ابن عبد ربه: أن الحجاج بعث فيه فقال: أنت الذي تقول: إن الحسين بن علي ابن رسول الله ﷺ؟ والله لتأتين بالمخرج أو لأضربن عنقك! فقال له: فإن أتيت فأنا آمن؟ قال: نعم، قال له: اقرأ " وتِلك حُجَّتُنا آتَيْنَاها إِبراهيمَ على قَوْمه، نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشاءُ إلى قوله تعالى وَمِنْ ذُرّيَّته داودَ وسليمانَ وأيّوبَ ويُوسُف وَمُوسى وهَرُونَ وكذلك نجزي المحسنين وزَكرِيّا وَيحيى وعِيسى وإليْاسَ كلٌ مِنَ الصّالحين " فمن أقرب: عيسى إلى إبراهيم، وإنما هو ابن بنت بنيه، أو الحسين إلى محمد؟ فقال الحجاج: فوالله لكأني ما قرأت هذه الآية قط! وولاه قضاء بلده، فلم يزل بالبصرة قاضيًا حتى مات.
1 / 56
يزيد بن أبي مسلم
تقلد للحجاج ديوان الرسائل، وكان غالبًا عليه، أثيرًا لديه، يعوده في مرضه؛ ويقال إنه كان أخاه من الرضاعة؛ فلما توفي الحجاج في آخر أيام الوليد ابن عبد الملك، ولى مكانه يزيد هذا، فاكتفى وجاوز، حتى قال الوليد: مات الحجاج بن يوسف، فوليت مكانه يزيد بن أبي مسلم، فكنت كمن سقط منه درهم فأصاب دينارًا! وقال ليزيد: قال لك الحجاج: أنت جلدة ما بين عيني، وأنا أقول لك: أنت جلدة وجهي كله! ولما أُدخل في نكبته على سليمان بن عبد الملك، وهو موثق في الحديد، ازدراه، ونبت عينه عنه، وكان دميمًا، وقال: ما رأيت كاليوم قط! لعن الله امرأً أجرك رسنه، وحكمك في أمره! فقال: يا أمير المؤمنين، ازدريتني لما رأيتني والأمر عني مدبر، ولو رأيتني والأمر علي مقبل، لأستعظمت مني ما استصغرت، ولأستجللت ما استحقرت! فقال سليمان: صدقت ثكلتك أمك، إجلس! فجلس، فقال له: عزمت عليك يا بن أبي مسلم لتخبرني عن الحجاج، أتراه يهوي في نار جهنم، أم قربها؟ قال: يا أمير المؤمنين، لا تقل هذا في
1 / 57
الحجاج، وقد بذل لكم النصيحة، وأخفر دونكم الذمة، وأمن وليكم، وأخاف عدوكم، وكأني به يوم القيامة على يمين أبيك ويسار أخيك، فاجعله حيث شئت!.
وفي رواية: قال سليمان: أترى الحجاج بلغ قعر جهنم بعد؟ قال: يا أمير المؤمنين، يجيء الحجاج يوم القيامة بين أبيك وأخيك، قابضًا على يمين أبيك وشمال أخيك، فضعه من النار حيث شئت! فقال له سليمان: اغرب إلى لعنة الله! فخرج؛ فالتفت سليمان إلى جلسائه فقال: قاتله الله ما أحسن بديهته وتنزيهه لنفسه ولصاحبه! ولقد أحسن المكافأة لحسن الصنيعة، خلوا عنه؛ فذكر يزيد ابن المهلب لسليمان عفته عن الدينار والدرهم، فهم بأن يستكفيه مهمًا من أُموره، فصرفه عن ذلك عمر بن عبد العزيز؛ فلما ولي بعده يزيد بن عبد الملك، استعمله على إفريقية.
ومنحى يزيد بن أبي مسلم مع سليمان بن عبد الملك، نحا بعض الكتاب، وقد دخل على أمير بعد نكبة نالته، فرأى من الأمير بعض الازدراء، فقال له: لا يضعني عندك خمول النبوة وزوال الثروة، فإن السيف العتيق إذا مسه كثير الصدأ، استغنى بقليل الجلاء، حتى يعود حده، ويظهر فرنده،
1 / 58
وما أصف نفسي عجبًا، بل شكرًا، وقد قال ﷺ: أنا سيد ولد آدم ولا فخر! فجهر بالشكر، وترك الاستطالة بالكبر.
كاتب آخر للحجاج
روى العتبي في كتاب الجواهر له، عن إسماعيل بن أبي أُويس، ما تلخيصه وإيجازه: أن كاتبًا للحجاج ولم يسمه علق جارية كانت تقف عليه، وتمر بين يديه، وعلقته، فكانت تسلم عليه بحاجبها إذا غفل الحجاج، فكتب يومًا بين يديه كتابًا إلى عامل له، ومرت الجارية ولم تسلم، خوفًا أن يفطن الحجاج، فأحدثت في نفس الكاتب ما أذهله، حتى كتب عند فراغه من الكتاب: مرت ولم تسلم! وختمه بخاتم الحجاج على العادة، فلما ورد الكتاب على العامل أجاب عن فصوله كلها ولم يدر ما معنى قوله مرت ولم تسلم وكره أن يدع الجواب عنه، ثم رأى أن يكتب: دعها ولا تبال! وأنفذه إلى الحجاج، فأنكر ذلك لما وقف عليه، ودعا الكاتب فقال: لا أدري!؛ وكان إذا صدق لم يعاقب بشدته، فقال: أينفعني عندك الصدق أيها الأمير؟ قال: نعم، فأخبره الخبر، ودعا الحجاج بالجارية فسألها، فصدقته أيضًا ووافقته، فعفا عنهما، ووهبها له.
1 / 59
الأبرش الكلبي
ذكر ابن عبدوس أن هشام بن عبد الملك لما أفضت إليه الخلافة بعد أخيه يزيد، وهو في ضيعته بالرصافة، ومعه جماعة من أصحابه، فيهم سعيد بن الوليد الكلبي الأبرش، وكان كاتبًا له وغالبًا عليه، فلما قرأ هشام الكتاب، سجد وسجد من كان معه من أصحابه، خلا الأبرش، فقال له هشام: لم لا تسجد كما سجد أصحابك؟ فقال: وعلام أسجد؟ على أنك كنت معي فطرت فصرت في السماء! قال له: فإن طرنا بك معنا؟ قال: الآن طاب السجود. قال: وأنكر هشام عليه شيئًا بعد ذلك، واشتد غضبه فشتمه، فقال الأبرش: استحييت لك، ليس بينك وبين الله واسطة، وأنت خليفته في عباده وأرضه، تقول يا بن الفاعلة! والله لو قال هذا عبد من عبيدك لآخر مثله لكان قبيحًا!. فاستحيا هشام منه وقال: فاقتص مني وقل لي كما قلت لك، فقال: إذن أكون سفيهًا مثلك! قال له: هبها لي، فقال: قد فعلت، فقال هشام: والله لا أعود إلى مثلها أبدًا.
1 / 60
ومن هذا النحو قول الحجاج وقد ظفر بعمران بن حطان الشاري: اضربوا عنق ابن الفاجرة! فقال: بئس ما أدبك به أهلك يا حجاج! كيف أمنت أن أجيبك بمثل ما لقيتني به، أبعد الموت منزلة أُصانعك عليها! فأطرق الحجاج استحياءً وقال: خلوا عنه! فخرج إلى أصحابه فقالوا: والله ما أطلقك إلا الله، فارجع إلى حربه معنا، فقال: هيهات! غل يدًا مطلقها، واسترق رقبةً معتقها، ثم قال:
أأُقاتل الحجّاج عن سلطانه ... بيدٍ تقرّ بأنّها مولاته
إني إذًا لأخو الدناءة والذي ... عفّت على عرفانه جهلاته
ماذا أقول إذا وقفت موازيًا ... في الصفّ واحتجّت له فعلاته
وتحدّث الأكفاء أنّ صنائعًا ... غرست لديّ فحنظلت نخلاته
أأقول جار عليّ، إني فيكم ... لأحقّ من جارت عليه ولاته
تالله لا كدت الأمير بآلةٍ ... وجوارحي وسلاحها آلاته
1 / 61
ذكر عمران بن حطان في هذه الحكاية وهم؛ وكذا وقعت في زهر الآداب للحصري، وفي غيره، لأن عمران كان من القعدة، ولم يكن يحضر القتال، وإنما هو عامر أخو عمران.
سالم مولى هشام بن عبد الملك
كان يتقلد له ديوان الرسائل، وهو ممن نبه بالكتابة؛ حكى أبو بكر الصولي أن أبا سلمة الخلال، وزير أبى العباس السفاح، أنكر شيئًا بلغه عن أبي العباس في وقت، فأنكر أبو العباس السفاح ذلك، وسكن من أبي سلمة وقال له: إن هشام بن عبد الملك حمل على مولاه وكاتبه سالم، وسعي به إليه، فقال له:
يديرونني عن سالمٍ وأُديرهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم
وأنت جلدة وجهي كله.
1 / 62