وكان الخليفة الحاكم بأمر الله بلغه خبره، وما هو عليه من الإتقان لهذا الشأن، فتاقت نفسه إلى رؤيته، ثم نقل له عنه أنه قال: «لو كنت بمصر لعملت فى نيلها عملا يحصل به النفع فى كل حالة من حالاته، من زيادة ونقص، فقد بلغنى أنه ينحدر من موضع عال وهو فى طرف الإقليم المصرى» فازداد الحاكم إليه شوقا، وسير إليه سرا جملة من المال ورغبه فى الحضور، فسار نحو مصر. ولما وصلها خرج الحاكم للقائه، والتقيا بقرية على باب القاهرة تعرف بالخندق، وأمر بإنزاله وإكرامه، فأقام ريثما استراح، وطالبه بما وعد به من أمر النيل. فسار ومعه جماعة من الصناع المتولين للعمارة بأيديهم؛ ليستعين بهم على هندسته التى خطرت له.
ولما سار إلى الإقليم بطوله، ورأى آثار من تقدم ما ساكنيه من الأمم الخالية، وهى على غاية من إحكام الصنعة وجودة الهندسة، وما اشتملت عليه من أشكال سماوية ومثالات هندسية، وتصوير معجز، تحقق أن الذى يقصده ليس بممكن؛ فإن من تقدمه لم يعزب عنهم علم ما علمه، ولو أمكن لفعلوا، فانكسرت همته ووقف خاطره.
ووصل إلى الموضع المعروف بالجنادل (الشلال) قبلى مدينة أسوان وهو موضع مرتفع ينحدر منه ماء النيل، فعاينه وباشره واختبره من جانبيه، فوجد أمره لا يمشى على مراده، وتحقق الخطأ فيما وعد به، وعاد خجلا منخذلا، واعتذر بما قبل الحاكم ظاهره ووافقه عليه.
وولاه الحاكم بعض الدواوين فتولاها رهبة لا رغبة وتحقيق الغلط فى الولاية؛ فإن الحاكم كان كثير الاستحالة، مريقا للدماء بغير سبب أو بأضعف سبب من خيال يتخيله، فأجال فكره فى أمر يتخلص به فلم يجد طريقا إلى ذلك إلا إظهار الجنون والخيال، فاعتمد ذلك وشاع عنه فأحيط على موجوده بين الحاكم ونوابه، وجعل برسمه من يخدمه ويقوم بمصالحة، وقيد وترك فى موضع من منزله ولم يزل على ذلك، إلى أن تحقق وفاة الحاكم، وبعد ذلك بيير أظهر العقل وعاد إلى ما كتن عليه، وخرج من داره واستوطن قبه على باب الجامع الأزهر، مشتغلا بالتتصنيف والإفادة إلى أن مات بالقاهرة فى حدود سنة 340 - أو بعدها بقليل.
صفحة ٣٠