هنا القرآن - بحوث للعلامة اسماعيل الكبسي

Ismacil Kibsi ت. 1437 هجري
93

هنا القرآن - بحوث للعلامة اسماعيل الكبسي

تصانيف

وهكذا تأتي كلمة (نزل) المضعفة في سياق التأكيد على التنزيل الخاص الذي يهم الناس، فالله يقول: (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير) [الحج: 71]. ومثل هذا قال هود لقومه: (قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين) [الأعراف:71].

لعلي بهذا قد أثبت ما أريد أن أوضحه لكم، ولست بحاجة إلى المزيد من الآيات لأترك لكم فرصة التأمل في ما تركته من الآيات ولتصلوا إلى الحقيقة بأنفسكم؛ لكني لن أترك الحقيقة حتى أدعمها بقضية تؤكدها بوضوح، وتدعمها بالخبر الصحيح. استمعوا إلى الحواريين وهم يطلبون المائدة من المسيح: (إذ قال الحواريون ياعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين) [المائدة: 112]. إنهم يطلبون مائدة تتنزل بشكل خاص وبعناية خاصة وإلى فئة خاصة- هم هؤلاء المجموعة من الحواريين- منفردين لا يشاركهم غيرهم؛ ولهذا فإنهم يدعمون هذا الطلب بما يوضحه: (قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين) [المائدة: 113]. وهنا يجد عيسى نفسه محتاجا لما طلبوا فيتوجه إلى ربه سائلا طالبا، ولكن بطريقة مختلفة عن طلبهم: (قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين) [المائدة:114]. لقد استعمل كلمة أنزل بدون تضعيف. لماذا؟. لأنه لا يطلبها للحواريين وحدهم، ولا لمن يعاصره منهم ولكن له ولهم ولمن يلحقهم من المؤمنين أي لأولهم وآخرهم؛ ولهذا وصفها بأن تكون لهم عيدا، أي تعود في كل عام وتنزل على من اتبعه من المؤمنين بشكل عام، وفي وقت محدد من الأعوام؛ لتكون آية من الله ورزقا من خير الرازقين. لقد قدم الطلب بأسلوب مؤدب، وجعل القضية آية من الله لمن آمن بالله وأحب، وعمم الخير لكل المؤمنين به في كل الحقب. وهنا يستجيب الله للطلب؛ ولكنه يتوعد من كفر وكذب؛ بأنه بعذاب خاص سيعذب. (قال الله إني منزلها عليكم). لقد استعمل كلمة (نزل) ليدل على أنه منزلها بعناية واهتمام، وبالصفة التي أرادها المسيح في كل عام. ولكن الله يتوعدهم بقوله: (فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين) [المائدة: 115]. وعلى هذا فإن المائدة لم تنزل، بل لم تنزل؛ لأن شرط المسيح عليه السلام الذي جعلها عيدا، وتهديد الله لهم والوعيد هو الذي ألغى طلب الحواريين وجنبهم عذابا لا يعذبه أحد من العالمين، فسبحان الله القوي المتين، والحمد لله خير الرازقين.

وبعد فلعل القضية قد تكون اتضحت لكم وأصبح الإنزال غير التنزيل، وفهمنا أن كلمة (أنزل) لا تدل على المرة بل على الكثرة بشكل عام، وأن كلمة (نزل) لا تدل على التكرار بل على الخصوصية والاهتمام. لكن قد يسأل سائل عن قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) [القدر:1]. وقوله: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) [الدخان:3]. وقوله: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا(1)قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا(2)ماكثين فيه أبدا(3)وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا(4)) [الكهف: 1-4]. لقد أخبر أنه أنزله على عبده ولكنه استعمل كلمة (أنزل)، وهذا ينقض ما قلت، ولكني أقول أن في الآيات إشارة إلى أن الكتاب أنزل للناس كلهم بلا تحديد إلى الجهة المستهدفة من الإنزال؛ لكنه في سورة الفرقان يقول: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا)[الفرقان:1]. فيستعمل كلمة نزل لأنه ينظر إلى الشخص المنزل عليه الفرقان وهو الرسول خاصة ثم للعالمين من بعده؛ ولهذا قال: (ليكون للعالمين نذيرا) فالتنزيل على واحد مخصوص لينقله إلى العالمين وينذر به من يعون.

وعليه: فإن المعنى في الآيات الواردة لا يتناقض ؛ لأن الكلمة تستعمل بالنظر إلى الجهة المستهدفة من الإنزال أو التنزيل؛ فإن كانت الآيات ناظرة إلى فرد مخصوص أو حالة مخصوصة؛ استعمل كلمة نزل، وإن كانت ناظرة إلى جماعات مستهدفة وحالات عامة؛ استعملت كلمة أنزل، وهذا يلحظه من يتدبر الآيات ويتأمل. ولتأكيد هذا المعنى تعالوا معي إلى ما يقوله لرسوله أمام المعاندين المطالبين بالآيات والمعجزات. يقول: (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) [الأنعام:7]. فالآية هنا ناظرة إلى الرسول فإنه المقصود بالتنزيل المشار إليه ليستدل به على نبوته أمام من كذب به، فكان لا بد من استعمال كلمة (نزل) المضعفة. لكنه جاء بعدها: (وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون) [الأنعام:8]. فالآية هنا ناظرة إليهم، إلى المكذبين المعاندين، فهم يطلبون إنزال ملك إلى الرسول ليكون معه نذيرا لهم ليصدقوه تماما كما قالوا في سورة الفرقان: (لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) [الفرقان:7]. فهم المقصودون بالإنزال هنا لا الرسول بخصوصه، ثم لنقرأ آية أخرى:

(وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا) [الفرقان:21]، فهم المقصودون هنا بالإنزال ولهذا أردفوا إنزال الملائكة برؤيتهم لربهم، ولأنهم هم المستهدفون بالطلب للإنزال؛ فإن الله يقول عنهم: (لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا) [الفرقان:21]. ثم قال: (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا) [الفرقان:22]. فهم هم المستهدفون للإنزال العام وليس الرسول هو المستهدف بما طلبوه من الإنزال، ولهذا استحقوا هذا التهديد وهذا الخطاب الشديد، لكن حين يكون المستهدف هو الرسول؛ فإن الخطاب يتوجه إلى الرسول عقب الطلب.

وتستعمل كلمة (نزل) في هذا المقام وهو الاستعمال الأنسب، (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا(32)ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا(33))[الفرقان:32-33]. ألم يوجه الخطاب مباشرة إلى الرسول وأهمل المكذبين في الخطاب؟. وفي سورة النمل: (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون(101) قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين(102))[النحل:101-102].فالخطاب هنا مباشرة يتوجه إلى الرسول، المستهدف من التنزيل والمستهدف من التكذيب، ولهذا استعملت كلمة (نزل). وهكذا فإن التأمل إلى جهة الخطاب وإلى المستهدف من السياق يرفع الإشكال في استعمال الكلمتين ويكشف اللبس الذي أورده التساؤل المفترض، ممن قد يعترض.

والآن وقد أخذنا حظنا من معنى كلمة (نزل) بالتضعيف، فإني سأورد في الصفحات التالية بعون الله بعض المواضع التي وردت فيها كلمة (أنزل) بلا تضعيف. إن الملاحظ أن كلمة (أنزل) استعملت كثيرا في سياق الحديث عن إنزال المطر أو بالأصح إنزال الماء من السماء، وهو تأكيد لمعنى الكلمة؛ إذ لا يمكن أن يكون إنزال الماء من السماء إلا بشكل عام، ولا يخص فردا أو فئة خاصة بل لمن يشاءه الله من عباده بشكل عام. ولهذا فالله حين يخاطب الناس أجمعين بهذه النعمة فإنه يقول: (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون(21)الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون(22)) [البقرة: 21-22]. وفي سورة الحجر التي وردت فيها (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر:9]. وقوله: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) [الحجر:21]. جاءت بعدها قوله تعالى: (وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين) [الحجر:22]. إن حزائن كل شيء عنده، وإن التنزيل بقدر معلوم هو الذي يتولاه حين تحدث عن هذا وبهذا الأسلوب؛ فإنه استعمل كلمة (نزل) فقال: (وما ننزله) فهو تنزيل خاص وباهتمام خاص. لكنه حين تحدث عن الماء بعد ذلك قال: (فأنزلنا من السماء) فهو إنزال لكل الناس وهو شيء معتاد وسنة معهودة فلا تحتاج إلى الخصوصية والاهتمام. وبالمناسبة فلقد وردت كلمة (فأسقيناكموه) وقد يسأل سائل: ما المناسبة؟ والجواب هو: تأملوا لماذا لم يقل: "فسقيناكموه" بدون الهمزة؟! وما الفرق بين "أسقيناكم" و"سقيناكم" بالهمزة وبدون همزة؟!

الفرق مثل الصبح واضح، فكلمة "أسقى" تعني إنزال الماء أو إطلاق الماء للناس سواء شربوا أو لم يشربوا، فهو مبذول لهم في كل حين، تقول: "أسقيت فلانا النهر أو الغدير" أي: مكنته منه سواء شرب أو لم يشرب، المهم أنك مكنته من الماء وأطلقته له وهو حر، والخيار أمامه؛ أما حين تقول: "سقيتك الماء" فإن المراد أنك سقيته بيدك وجعلته يشرب، فليس مجرد إطلاق أو تمكين بل تقريب وتحقيق، فالمسقي قد شرب من يدك أو من كأسك بصور ة مباشرة، فأنت قد قربت إليه الماء باهتمام ومبادرة وهو استجاب وأقبل على الشرب برغبة ظاهرة. فالفرق بين "أسقى" و"سقى" واضح بلا خفاء. ولهذا يقول الله عن الأبرار وهم في نعيم الجنة: (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) [الإنسان:21]. ويقول إبراهيم عن ربه: (والذي هو يطعمني ويسقين) [الشعراء:79]. إن "يسقيني" بفتح الياء يعني أنه من "سقى" لا من "أسقى". تقول: سقى، يسقي. وأسقى يسقى، وعليه فإن "أسقى" معناها مثل أنزل في الدلالة على العموم بل عدم الاختصاص فيها مفهوم. ولهذا يقول الله في سورة الفرقان: (وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا(48)لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا) [الفرقان:48-49]. فلقد تضمنت الآيتان كلمة "أنزل" الدالة على العموم و"أسقى" الدالة على العموم، ولقد عللت كلمة "أنزل" بأنها لإحياء البلدة الميتة ولإسقاء أنعام وأناس كثيرة فكلا الكلمتين في الآية "أنزل وأسقى" تدعم الأخرى وتؤكد معناها. فالإنزال عام لأنه لإسقاء الناس والأنعام وهكذا هو الحديث عن الماء، غالبا ما تستعمل له كلمة أنزل ولست بحاجة لإيراد المزيد من الآيات.

غير أني أنبه إلى أن قولي "غالبا" يشير إلى أنه قد ترد كلمة نزل بالتضعيف في حالة الحديث عن الماء ولكن بسبب خاص في السياق ولمعنى يوحي به السياق، ولنتأمل مثلا قوله تعالى في سورة الزخرف: (والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون ) [الزخرف: 11]. فالذي أوجب ورود كلمة "نزل" بالتضعيف هو إما السياق خطاب خاص في موضوع هام هو إقناع الناس بأن الله هو ربهم القريب منهم الملابس لما أنعم به عليهم بل هو معهم في كل ما يهمهم فالآيات تبدأ هكذا: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم(9)الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون(10)) [سورة الزخرف]. ثم قوله: (والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا) [الزخرف: 11]. فالخطاب مباشر للناس وتدليل على شيء يجهله الناس وهو أن الله هدى الناس، ثم للتدليل على شيء آخر هام متعلق بالأول وهو قوله في ختام الآية : (كذلك تخرجون(11)). فكما ينشر الله بالماء بلدة ميتة التراب، كذلك سينشر الناس ويخرجهم يوم القيامة للحساب. فالموضوع خطاب هام وتدليل وبرهان فلا بد من استعمال (نزل) الدال على القرب والاهتمام ثم العلم بحال الخلق وحاجاتهم وإتيانهم بما يحتاجون وتصلح به حياتهم.

وهكذا يجب أن نفهم سياق المواضيع التي ترد فيها الكلمتان لنعرف سر إيراد هذه هنا وتلك هناك وسر اختيار أحدهما في هذا السياق وتركها في سواه، إن لذلك أسبابا وأسرارا لا يدركها إلا من عرف أسرار اللغة وغاص في بحورها ليصيد جواهرها وليعرف غثها من سمينها وإذا كان ذلك هو المطلوب في كل من يتعامل مع اللغة العربية فهو واجب محبوب لمن يتعامل مع القرآن وآياته البينة، فلنكن على استعداد لهذا المقام الرفيع الأسنى والله معنا يسمع ويرى ويزيد المهتدي هدى بل هو الله المعين المنزل القرآن المبين هدى ورحمة وبشرى للمسلمين فالحمد لله رب العالمين في كل حال وحين وسلام على المرسلين أجمعين وعلى محمد خاتم النبيين.. آمين.

صفحة غير معروفة