هنا القرآن - بحوث للعلامة اسماعيل الكبسي

Ismacil Kibsi ت. 1437 هجري
39

هنا القرآن - بحوث للعلامة اسماعيل الكبسي

تصانيف

أفهمتم أيها الناس ماذا تعني كلمة شفعاء عند الله ، إنه سب لله الجليل وإنه عدوان وظلم وويل ، وإنه لشرك وضلال جهول إذا صح أن الشفعاء يوصلون إلى الله ما لا يعلم من شؤون الخلق

فقد ادعى الناس ما يهدم الخلق ، ويمحو الحق لقد جئتم شيئا إدا،، (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا) مريم 90 وكيفلا وها هو يقول (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) مريم 93 فالكل محتاج إليه فقير ، والكل لا يعلم من الخلق قدر قمطير ولا يدري من الأمر قدر نقير ، فكيف يكون شيء من الخلق ندا للعليم القدير ، وكيف يكون شريكا للطيف الخبير إن هذا هو الضلال الكبير.

والآن لنعد إلى بداية سورة يونس ، فإن فيها التأييد الأقوى الموضح لكم أمر الشفاعة في الدنيا يقول تعالى(إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش) يونس 3

بماذا استوى ، وما هو الإستواء ، ها هو البيان (يدبر الأمر) إنه المدبر لا سواه ، لكل أمر ، وهو المقدر وحده ، لكل شأن وهو المسير لا غيره لكل الأشياء ، ولا شريك له ولا ند أبدا وهذا هو معنى قوله (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) إن هذه الجملة تأتي جواب لسؤال كان أحد الغافلين يسأل هل تدبير الأمر كامل شامل ، وهل الشفعاء ليس لهم طائل مع أن لنا إليهم وبهم إليه الوسائل ، فجاء الجواب قاطف كل شيء باطل (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) فإذا ظننت أن مالا ينفع ، أو جبلا يمنع ، أو دواء ينفع ، أو طعاما يشبع أو ماء يروي ، أو شمسا تضيء ، أو سحابا تهمي ، أو رجلا أو حزبا يقي أو ملكا أو رئيسا يجدي ، أو يشفع مما يؤذي إذا ظننت هذا فأنت غافل ، وأنت بربك جاهل بعيد عن الحق في مراحل وفي ظلمات من الباطل ، إن الله هو المدبر بلا ند ولا شريك ، وهو ذو العرش المجيد ، الفعال لما يريد ، وكل شيء سواه مقهور ضعيف ، وهو الواحد القهار ، إذا فهو الرب الذي يفيد ، في كل أمر وشأن وهو الولي الذي يستنصر ، في كل زمان ومكان ، وهو القريب لمن دعاه في كل حال ، وهو المجيب للسؤال ، القدير على الوفاء بلا مطال فاتخذه وليا بلا جدال ، ولتتجه إليه بالآمال ، ولهذا قال في ختام الآية (ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون) يونس 3 هكذا إذا يوجهنا الله ، إن كل الشفعاء والأسباب محكومه منه مسيرة بإذنه ، مقدره بقدرته ، مدبره بتدبيره ، فلا شأن ولا أمر يجري إلا بعلمه وتدبيره ، ولا حال يكون إلا بإذنه وتقديره ، فهو الله الرب الذي يعبد ويحمد ويرجى ويدعى ويطاع ويخشى ، وإليه تتوجه الوجوه وبحكمة ترضى ، وله تستسلم القلوب وبذكره تطمئن ، وبه تزكو النفوس وبطاعته تأمن ، وله تنشرح الصدور وتستنير ، وعلى حكمه كل شيء يسير ، وبعلمه يستقيم المسير ، وبغيره يضل ويبور ،فلنكن من المتذكرين ، إنما يذكر أولوا الألباب ، ولنكن له عابدين لننال عطائه الأرحب ، ولنكن له محببين لنكون ممن أحب ،ولنعتمد عليه بلا شفعاء ، لنكون عنده من المقربين السعداء ، ولنقدره حق قدره لنسموا في مقام الأنبياء ، ولنكن على يقين بأن إلية الرجعى ليجزي كل نفس بما تسعى ، فإن له الأولى والأخرى ، (إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) يونس 4 .

ولأنه يدبر الأمر في السماء والأرض ، وفي قلب الإنسان وفي قلب الأكوان ، فإنه يقول : (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون) يونس 5 أليس هذا التقدير والتدبير دليل ، على أن كل شفيع إليه يعود ، فها هي الشمس المعبودة مسيرة ، وها هو القمر المعبود مقدر ، فكيف غفل الناس عن هذا الرب الأقدر ، كيف جهلوا قربه من كل صغير وكبير ، ومن كل ذرة في الأرض أو في السماء ، وعلمه محيط بكل شيء في أعماق الحجار ، وعروق الأشجار وظلمات البحار وفي بروج النجوم والأقمار ، فهو الرب المدبر والمسير ، بلا ند ولا شريك ، ولا ولي ولا عضد ابدا (ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا) الكهف 26 أسمعتم آخر الآية! بل وأولها (ما لهم من دونه من ولي)

فهو الولي الذي يرجى ويدعى ويستنصر ويخشى وهو الذي يدبر ويسير ، وهو الذي يحكم ويقدر ، ويعلم بما حكم وقدر ويستمر متابعا فيما حكم به ، وكلا فلا يشترك أحد معه في التقدير والتدبير ، ولا في الحكم ، ولهذا قال (ولا يشرك في حكمه أحدا) فمن ذا الذي يتطاول أو يقدر أو يتكبر أو يدبر دون الله المدبر المتكبر ومن ذا الذي يشفع وينفع ويدفع سوى الله الذي يعلم كل خفي ويسمع

ولا يخفى عليه شيء في الأرض والسماء ، ولا يعزب عنه ولا يعجزه شيء ، ولا يفوته ولا يسبقه حي أو شيء ، الكل له عايدون عبيدا والكل له محتاج فقير (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ?93? لقد أحصاهم وعدهم عدا) مريم 93/94.

والآن وقد عرفنا معنى الشفيع ، وتأكد لنا أنه السبب ، وعلمنا أن الأسباب لا تنفع ولا تدفع ولا تشفع ، إلا بإذن الله المدبر المقدر ، وحتى ولو كان هذا السبب إنسانا نبيا من الأنبياء ، أو ملكا من الملائكة ، فإنه لا ينفع ولا يقطع ، إلا بإذن ربه.إذا عرفنا وعلمنا ذلك بلا خفاء ولا غموض ، فإن من المناسب أن ننتقل إلى آية أخرى تؤكد ذلك الأمر ، وتلك الحقيقة ، وتدعم اليقين بأن الله هو الشفيع الحق ، والولي الفعال ، (الم ?1? تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ?2? أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون) السجدة 1-3 إنه رب العالمين ، فهو يعلم كل شيء في الأرض والسماء ، ويعلم ما يعمله الناس في كل حال وحين ، ولهذا فإن تنزيل الكتاب منه بلا ريب لأنه وحده الذي يعلم الغيب ، وكيف لا وهو رب العالمين ولأنه يعلم كل شيء فإنه يدري أن الناس غافلين ، يقولون أن القرآن مفترى لأنهم يظنون أن الله بعيد في السماء ، لا يعلم ما يجري في الأرض ولا يدري ما جرى ، ولكن الله يقول (بل هو الحق من ربك) فالله هو الحق وهو الرب الحق ، ولهذا لا بد أن يدعو إلى الحق ويهدي إليه عباده ولأجل هذا أرسل الرسول إليهم وأنزل الكتاب عليهم (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) أليس أن الله يعلم أن هؤلاء القوم لم ينذروا من قبل هذا الرسول ولهذا أرسله رحمة بهم (لعلهم يهتدون) نعم لعلهم فإن الهدى هو الرخاء ، الذي يجب أن يسعى إليه الإنسان فإذا اهتدى فقد نجى ، وقد نال الخير والحب من ربه الأعلى الذي يعلم السر واخفى ، ويعلم ما يحتاجه الإنسان من عطاء ، ولأن الإنسان الغافل قد يستغرب ويقول كيف يمكن أن يرسل الله العلي العظيم رسولا ، وكيف يمكن أن يدنو الله إلى هذا الرجل ويؤتيه بالعلم ، ويوحي إليه بالذكر والهدى ، وهو بشر مثل الناس الذين يعيشون في الأرض بعيدين عن الله الساكن في السماء وحوله الملائكة والملأ الأعلى ، وهم بالإرسال الأولى ، فلماذا يرسل الله رجلا ، ولماذا يبعث بشرا رسولا ، وحوله الملائكة وهم من الله الأقرب والأدنى ، هكذا يفكر الغافلون وهكذا يتصور الله الجاهلون ، وهكذا له يجسدون ويتصورون (ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ?74? الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير ?75?) الحج 74/75 لعل هذه الآيات تفصح عن قدرة الله وعزته وعلمه وقدرته وقربه من كل الخلق بعلمه ورحمته ، وأن إليه وحده ترجع الأمور ، وله وحده الاختيار لما يشاء ، وكيفلا وهو الله السميع البصير.

لا تلوموني على هذا الإستقراء ، ولكن قولوا إذا كان هذا هو شأن الله ،، لنقرأ معا كيف يوضح لنا علمه المحيط ، وتدبيره الذي بلا وسيط وليس فيه شريك ، ولا ند ولا عضد ، فيما يريد كلا بل هو الولي والشفيع الذي يعلم كل قريب وبعيد ، ما لي أسرح وأسبح وأطلق العنان لقلمي ولساني ، ولماذا أتقدم وأستبق البيان الرباني ، فاعذروني أيها القراء ، وها هي الآيات أمامكم يا إخواني (الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش) السجدة 4 هكذا يبدأ البيان لمن جهل ربه ، من بني الإنسان فهو الخالق السماوات والأرض ، والخالق ما بينهما من كل نراه ، وما لا نراه ، ثم هو المدبر لكل ذلك ، ويعلم حاجة كل شيء ، وما سأله يؤتاه وهذا هو معنى (ثم استوى على العرش) إن كلمة ثم لا تعني التراخي الزمني كما هو شأنها في حروف العطف ، ولكن تعني أن الخلق كان بعض الشأن وأن الإستواء على العرش شأن أهم وأسمى ، لأنه يعني التدبير والتسيير لكل الخلق في الأرض والسماء ، ولكل نجم وقمر ، وكل نملة وحبة تبذر ، وكل شمس تضيء وتشع ، وكل ثمر ينفع ، وكل كوكب سبح ، وكل عطر نفح ، وكل زهر تفتح ، وكل فكرة تسير وكل خاطرة تدور ، وكل ما في أعماق الأقمار والشموس ، وكلما في خفايا النفوس وكلما في السحاب ، من ماء وبروق ، وكل دم في العروق ، وكلما في الأجواء يتقلب من ليل ونهار ، وزمن يدور ، وكلما تفكر به القلوب التي في الصدور ، نعم هكذا هو المعنى الأعم ، وهذا هو الاستواء على العرش ،

ولهذا قال بعد ذلك موجها خطابه إلينا لنعلم أننا في الخلق مدبرون ومسيرون ، وأننا عليه معتمدون ، فإذا قال استمعوا وعوا (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع) السجدة 4 أسمعتم ليس هناك أحد إلا الله ، وليس هناك معتمد ومتكل سواه فلنكن على علم بذلك ولنتجه إليه بانتباه (أفلا تتذكرون) السجده 4 فلتكن من المتذكرين فذلك هو شأن الإنسان العاقل (إنما يتذكر أولوا الألباب) الرعد 19إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور) فاطر 28 ولكي يؤكد الله لنا ما أعلن من أنه الشفيع والولي في السر والعلن أردف الآية بآية أخرى ، فيها البيان الأوفى فقال (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) السجدة 5 فهو المدبر لا سواه ، في السماء وفي الأرض ، وهو الذي يرجع إليه الأمر ويعرج فلا يفوته شيء ، ولا يعزب عنه شيء ، مهما تمادى به الزمن وطال ، ومهما تقدم به في الماضي ، أو كان في الاستقبال ، فكل شيء وحال ، يدبره الله ذو الجلال ، ولذلك أعقب الآية بما يقطع الجدال فقال(ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم) السجدة 6 فهو عالم كل غيب ، وهو عالم كل شهادة ، وهو الرحيم الوهاب وهو الغني الغلاب ، فأين ومن أين يمكن أن يكون من دونه لنا شفيع أو ولي ،.. كلا فلا شيء ، ولا حي ، يعلم الغيب إلا الله العليم القوي ،،

صفحة غير معروفة