وإذا عرفنا أن الغاسق هو هذا النوع الكافر المنافق من الناس، وتأكد لنا ذلك بدون إلباس؛ فإن من الغريب أن الزمخشري يورد في كشافه رواية فقال: "وعن عائشة رضي الله عنها: [أخذ رسول الله بيدي فأشار إلى القمر فقال تعوذي بالله من شر هذا فإنه الغاسق إذا وقب]. هكذا وردت. لا شك أن هذا من روايات المنافقين الغاسقين الواقبين، الذين جعلوا القرآن عضين، وحولوه عن قصده المبين إلى الخرافات والبهتان المبين، فسبحان الله رب العالمين؛ أنى يراد بالغاسق هذا المخلوق الجميل والآية الجليلة ؟.
وكم من الروايات المظلمة التي تحول القرآن إلى حكايا مبكية؛ ولعل من المفيد أن لا نشغل أنفسنا بهذه التخرصات التي تقلق، وأن نعود إلى آيات سورة الفلق، فلقد جاء بعد ذلك قوله تعالى: (ومن شر النفاثات في العقد). لنعد إلى الزمخشري لنرى ماذا يحشر في التفسير من مفهوم بشري لا يليق بالله العلي العظيم: "قال: النفاثات: النساء أو النفوس أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها ويرقين" ثم قال: "والنفث : النفخ مع ريق". إن هذا التفسير سقوط بالقرآن إلى أدنى دركات جهل الإشارة، وإساءة إلى الرحمن الذي خلق الإنسان، علمه البيان. ولو سردنا إضافة إلى ذلك من التخرصات؛ لاشتركنا معه في تحريف الآيات، ولكنا نحاول أن نفهم معنى الآية الكريمة كما يريده الله، وبما يتسق مع ما قدمناه.
فالنفث هو فعلا كما قال الزمخشري: النفخ مع ريق، ولكن لا يراد به هنا النفخ الحقيقي والريق الحقيقي، ولكنه معنى ينبثق مما سبقه وينطلق من ظلمة الغاسق الواقب، ومن شر الكافرين الذين هم شر ما خلق الله رب العالمين.فالأشرار يتآمرون في الغسق ضد الأبرار، ويقبون في خفاء ومكر مشين ضد أهل القرآن المؤمنين، وإذا لم يستطيعوا التأثير بشرورهم وفسادهم وكفرهم، انتقلوا إلى التآمر الغاسق، وإلى الأسلوب الماكر المنافق، فإذا لم يتضرر المؤمنون بهذا العمل الفاسق، ولم يتفرقوا عن الهدى بهذا الوقب الغاسق انتقل الأشرار إلى النفث في مفاصل الإخاء، وفي عقد اللقاء، عسى أن ينفرط عقد الإيمان الأقوى، وأن تتراخى العروة الوثقى، وينتقض عهد الوفاء بين الله وبين هؤلاء الأتقياء.
فالأشرار يلجأون إلى النفث الخفي في عقد التلاقي بين المؤمنين ليفكوا هذا العقد الوثيقة، ويدمروا هذه العهود الصادقة. إن هؤلاء الأشرار يكرهون كل جمال وخصب وأثمار، ويخافون الفلق والأنوار، ويحاربون الحياة الحرة الطاهرة، ويقلقهم نمو المجتمعات الحية الناضرة، والأمم المؤمنة المتضافرة؛ التي برضوان ربها ظافرة، فهم ضدها بالنفث في العقد الخفية والظاهرة، ليدمروا هذه البنية النامية المتآزرة.وكيف لا والحياة كلها تقوم على العقد والمفاصل، بل إن العقد هي سر الحياة والحركة والتواصل. فالأشجار لا ينبثق منها غصن إلا من عقدة متدفقة وافرة، ولا يبسم فيها زهر ولا ينجم منها ثمر إلا من عقدة مخضرة، ولا ينتشر لها ظل إلا من عقد ظاهرة ومضمرة. فإذا يبست هذه العقد وجفت هذه المفاصل فصلت منافذ العطاء والجمال، وسقطت الثمار وانكمش الظلال، وتقطع معين الاتصال، وتعطل منبع الاخضلال، فإذا الحياة قاع عاطل قاحل، ولظى لاهب وجسم ناحل متآكل، والموت عليه حوام صائل، والجو مكفهر الإصباح والأصايل، فيا لها من حياة معطلة العقد، نفخها الريح الصرصر، وبدد ونفث فيها القر بأنيابه وشدد، وهكذا كل عناصر الحياة المعطية الرخية، الأرضية والسماوية؛ لها عقد هي سر حركاتها وتفاعلها وعطائها ومحط التقائها وافتراقها في مسيرة العطاء والجمال المتدفق منها، والإنسان له عقد في جسمه وفي علاقاته مع أبناء جنسه، فلولا مفاصل الكعوب في الأقدام، وعقد الركب بين الساق والأفخاذ؛ لما استطاع أن يسير ولا يتحرك إلى خلف وإلى الأمام، ولولا عقد الخصر والقوام لما انحرف ولا التفت لعمل ولا رهام، ولولا فقرات العنق وفقرات العمود الفقري في الظهر التي تعمل بانسجام؛ لما استطاع أن يقوم ولا أن ينام، ولا أن يجلس ولا ينهض بسلاسة وسهولة على الدوام.
إن العقد في جسمه وسيلة لنموه، وحركته وسعيه لما يهمه؛ ولولا ذلك لتصلبت الحركة وتيبست الحياة وأصبح كالصخرة الصماء؛ (ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون) [يس:67]. فالعقد هي سر الحياة والنمو في الأجسام وهي منابع التفوق ومناجم القوة التي تيسر ما يشق. نعم لقد خلق الإنسان في كبد؛ ثم هو يظن أن لن يقدر عليه أحد، وينسى أنه معاذ بالله الأحد، فبه يستعين ويحمد، لكنه رغم ذلك ألحد، وها هو ينفث في العقد. نعم إن للمجتمعات كذلك عقدا منها تنطلق الحركة وتنشط. إن اختلاف اللغات والبلدان، والأعمال والألوان، والشعوب والقبائل والأوطان؛ يجب أن يكون وسيلة للتعاون والتعارف بين الإنسان. فالاختلاف ينفلق منه الإبداع، واستمرار الحياة وتدفق النماء ينطلق من تنوع الطباع ووفرة الغلات والثمار، وتواصل الخبرات والخيرات منبعه تعدد الشعوب والبقاع، وتعدد الألوان والأنواع .بهذه العقد المتلافية المتفارقة تكون الحياة الرغدة غدقة؛ لكن شر ما خلق الله من البشر هم الذين يحاولون تعطيل هذه النقاط والمفاصل المثمرة، وتدمير هذه العقد المخضرة المتحضرة، وتحويلها إلى نقاط متنافرة متناحرة، وإلى عقد متشاجرة، إن الأشرار الفاسقين في كل بلد ينفثون في العقد ويريدون أن يفرقوا بين الجماعات والأمم، وأن يدمروا ما بينها من أسباب اللقاء المؤمن المحترم.
إنهم ينفخون في كل عقد الأمان والإيمان، ويحاولون أن ينفثوا السموم في قلوب وعقول حملة القرآن ليتفرق الناس ويتحول التعاون إلى عدوان، والتعارف إلى خصام وطعان، واللقاء السليم الودود، إلى جفاء عنود، والسلام بين الأمم، إلى حروب تشتعل وتضرم، وتدمر كل جمال، وتبكي كل عين وتطفئ كل اخضلال، فلا نجاة من النفاثات في العقد، إلا الاستعاذة بالله الصمد، ولا خلاص من النفاثات في منابع الحياة التي تتدفق، إلا بالاستعاذة برب الفلق، وهذا هو سبيل حامل القرآن، الذي يريد الخير والسلام للإنسان، ويدعو إلى الله ذي الجلال والإكرام، على بصيرة وعلى طريق نعمة الإسلام.
إذن فالنفاثات في العقد هي التي تدمر بالأقوال الكاذبة، علامات القلوب المتحابة، وتفكك بالتخرصات الواهمة، عرى العلاقات المسلمة السالمة، وتنفث في نقاط اللقاء الإنساني، أحقاد الخفاء العدواني، وتبدد بالأقوال الضالة الكافرة، الحياة المؤمنة المزدهرة، وتحول حياة الأحياء البررة، إلى قبور مبعثرة، وعلاقات مدمرة. فنعوذ بالله الأحد من شر النفاثات في العقد. ولو عدنا إلى آيات القرآن لوجدنا هذا النوع من النفث الحقود موجودا في كل العهود، ومع كل نبي ورسول يدعو الناس إلى الله الودود، ليكون لهم الرب المعبود، فهو الذي بيده ملكوت كل شيء موجود، وما عنده لا ينفد وليس له حدود. ولا نستطيع أن نوردها الآن، ولكن الذين يقرأون القرآن يستطيعون معرفة ذلك بوضوح وبيان. ولهذا فإنا سننتقل بهم إلى الآية الأخيرة من السورة، وهي قوله تعالى: (ومن شر حاسد إذا حسد).
نعم إن الكافرين الذين هم شر ما خلق رب الفلق، يبدأون في حرب أهل القرآن بالشر الواضح المحارب، فإذا فشلوا عدلوا إلى الفسق الواقب، وإلى التآمر في الظلام والغياهب، فإذا لم يؤثر هذا في أهل الإيمان ولم يضرهم؛ لجأ الأشرار إلى النفث في أسباب اللقاء والإخاء عسى أن يمكنهم من أغراضهم؛ فإذا رجعوا بغيظهم ولم ينالوا خيرا من نفثهم؛ انطووا على شرهم وظلامهم ونفثهم في لظى الحسد واصطلوا مع شرهم وغسقهم وحقدهم بنار حسدهم المحرق فأكلهم ومحق؛ لأن المؤمنين مستعيذون برب الفلق. فكيف للحسد المحترق المتأكل في لظى الماحق، أن يؤثر في المؤمن المستعيذ برب الفلق!! كلا إن المؤمن هو المنتصر؛ لأنه صاحب الحق، وإن الحاسد هو الخاسر لأنه لنفسه أرهق فوقب وأخفى التآمر في الغسق، ونفث حاقدا بالباطل في العقد، الصالحة فانسحق، وهلك بما أنفق وبغيظه تمزق، وبحسده احترق؛ لأن الإيمان المحسود محروس برب الفلق.
إن هذا الحسد لمستمر من أهل الكفر لأهل الإيمان، ومن حملة الجهل لحملة القرآن؛ ذلك أن العاطل من الأمان والطمأنينة، الفاقد الطهر والسكينة؛ يحسد الآمن المطمئن، ويحاول أن يخرج الناس من الطهر والسكينة؛ ليكونوا معه ومثله في حقد وضغينة. ولقد أكد الله ذلك بآيات مبينة؛ فلقد خاطب المؤمنين بقوله: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) [البقرة:105]. بل لقد صرح بالحسد وأوضح بقوله للمؤمنين: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير) [البقرة:109].
إن أمر الله لقادم بلا تأخير؛ لأنه على كل شيء قدير، وإنه لينصر الحق؛ لأنه رب الفلق، فلتستعذ به حتى يأتي أمره الذي يدمر من كذب وفسق. بل إن الكافرين والمنافقين يحسدون المؤمنين على كل نصر وغنيمة، ويتمنون أن ينالوا ذلك بلا جهاد ولا عزيمة. فالله يقول عن هؤلاء مخاطبا المؤمنين: (فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا(72) ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ياليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما(73)) [سورة النساء]. (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا).إنهم يتهمون المؤمنين بأنهم يحسدونهم؛ لكن الواقع أن الحسد إنما هو منهم للمؤمنين؛ لأن الله يرعاهم وينصرهم في كل حين؛ ولهذا يختم الله الآية بقوله: (بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا) [الفتح:15].
صفحة غير معروفة