قال الأب: «نعم معك حق، لكن إن اشتريتما منزلا مناسبا تعيشان فيه.» لكن المنزل لا يختلف شيئا عن شعر بولين من حيث كونه نقطة حساسة اعتاد إثارتها ولا يمكن أن تضايق أحدا. كان براين وبولين قد ابتاعا منزلا جميلا - وإن كانت إصلاحاته غير مجدية - في أحد شوارع فيكتوريا التي بدأت قصورها القديمة تتحول إلى مبان مقسمة إلى شقق يسيء السكان استخدامها. فكان ذاك المنزل، والشارع الكائن فيه، وأشجار البلوط القديمة المزروعة بعشوائية في المكان - وكذلك عدم اشتمال المنزل على قبو أسفله - من الأشياء التي أثارت سخط والد براين. وعادة ما كان براين يوافق والده، بل ويحاول أن يزيد من هذا الشعور؛ فإذا أشار والده إلى البيت المجاور - الذي يتقاطع أمامه سلم الطوارئ بلونه الأسود - وسأل عن طبيعة الجيران الذين يسكنون هذا البيت، يقول براين: «مساكين للغاية يا أبي؛ يدمنون المخدرات.» وعندما يسأله أبوه عن كيفية تدفئة هذا المنزل، يقول: «بمدافئ الفحم؛ لم يتبق منها الكثير هذه الأيام. ومع أن الفحم ثمنه بخس، فإنه بالطبع قذر كريه الرائحة.»
لهذا، كان ما قاله أبوه الآن عن المنزل المناسب بادرة سلام؛ أو يمكن اعتباره كذلك.
كان براين ابنا وحيدا، يعمل مدرسا للرياضيات، أما أبوه فهو مهندس مدني وشريك في شركة مقاولات؛ ولم يذكر قط أنه تمنى يوما لو أن له ابنا مهندسا يعمل معه في الشركة. وبخصوص ذلك، سألت بولين زوجها عما إذا كان يظن أن انتقاد أبيه لمنزلهما وشعرها والكتب التي تقرؤها قد يكون للتغطية على خيبة أمله الكبرى - أن ابنه ليس مهندسا يشاركه العمل في الشركة - لكن براين قال لها: «كلا، في عائلتي نشكو مما نريد أن نشكو منه، فنحن لا نتميز باللباقة يا سيدتي.»
لكن هذا التساؤل لم يغادر ذهن بولين عندما سمعت أمه تتحدث ذات مرة عن أن المدرسين أحق الناس بالتبجيل في العالم بأسره، وعن أنهم لا يلقون نصف التقدير الذي يستحقونه، ولا تدري كيف نجح براين في عمله بمرور الوقت. وحينها كان أبوه يقول: «هذا حقيقي»، أو «مما لا شك فيه أنني لا أرغب في العمل في هذه الوظيفة؛ فلن يمكنهم دفع ما يكفي من المال.»
فيقول براين: «لا تقلق يا أبي، لن يدفعوا لك الكثير.»
إن حياة براين اليومية جعلته شخصا أكثر درامية بكثير من جيفري؛ إذ كان يسيطر على الفصل الدراسي بدعاباته ونكاته وسلوكياته الغريبة المستمرة، فيما يعد امتدادا للدور الذي لا يفتأ يلعبه مع أبيه وأمه؛ كما تظن بولين. كان يتصرف بشكل أخرق، لا تكسره الإهانات المزعومة، بل ويرد عليها المثل بالمثل؛ كانت له اليد العليا مدافعا عن الحق غير مفسد، مزعجا لكن مرحا.
قال ناظر المدرسة لبولين ذات مرة: «فتاك ترك أثرا لدينا بلا شك. لم يكتف بأن عاش بيننا، وهو الشيء الصعب في حد ذاته، وإنما ترك أثرا لدينا.»
فتاك.
كان براين يسمي تلاميذه بالأغبياء، وكانت نبرة صوته معهم رقيقة ولكن متشائمة. قال إن أباه كان ملك الفلسطينيين القدماء - من سلالة البرابرة الخالصة - وإن أمه كانت جميلة جذابة طيبة القلب ولكن أعياها الزمن. ورغم تجاهله لهما، لم يكن يطيق البقاء وقتا طويلا بعيدا عنهما. وكان يأخذ تلامذته أيضا في رحلات تخييم. وما كان يتخيل الصيف دون قضاء الإجازة مع أبيه وأمه. وكل عام كان يرتعب من فكرة أن ترفض بولين الذهاب معهم، أو أنها - إذا ما وافقت - تبتئس وتشعر بالإهانة مما يقول والده، أو تتذمر من طول الوقت الذي تقضيه مع أمه، وتتجهم لعدم استطاعتهما الانفراد بأنفسهما أبدا. وقد تقرر أن تقضي اليوم كله في كوخهما تقرأ، مدعية أنها تعاني حروقا من أثر الشمس.
كل هذه الأمور حدثت في إجازات سابقة، لكنها بدت مستريحة هذه السنة، وقد أخبرها أنه لاحظ ذلك وممتن لأجله.
صفحة غير معروفة