هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

ابن القيم الجوزية ت. 751 هجري
8

هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

محقق

محمد أحمد الحاج

الناشر

دار القلم- دار الشامية

رقم الإصدار

الأولى

سنة النشر

١٤١٦هـ - ١٩٩٦م

مكان النشر

جدة - السعودية

وَمَنِ انْقَطَعَ دُونَهُ كَانَ مِنَ الْهَالِكِينَ. وَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْ أَحَدٍ دِينًا سِوَاهُ، وَلَوْ بَذَلَ فِي الْمَسِيرِ إِلَيْهِ جَهْدَهُ وَاسْتَفْرَغَ قُوَاهُ، وَأَظْهَرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ حَتَّى طَبَقَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَسَارَ مَسِيرَ الشَّمْسِ فِي الْأَقْطَارِ. وَبَلَغَ إِلَى حَيْثُ انْتَهَى اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَعَلَتِ الدَّعْوَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَارْتَفَعَتْ غَايَةَ الِارْتِفَاعِ وَالِاعْتِلَاءِ. بِحَيْثُ صَارَ أَصْلُهَا ثَابِتًا وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ فَتَضَاءَلَتْ لَهَا جَمِيعُ الْأَدْيَانِ، وَخَرَّتْ تَحْتَهَا الْأُمَمُ مُنْقَادَةً بِالْخُضُوعِ وَالذُّلِّ وَالْإِذْعَانِ، وَنَادَى الْمُنَادِي بِشِعَارِهَا فِي جَوِّ السَّمَاءِ بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَارِخًا بِالشَّهَادَتَيْنِ، حَتَّى بَطَلَتْ دَعْوَى الشَّيَاطِينِ، وَتَلَاشَتْ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ، وَاضْمَحَلَّتْ عِبَادَةُ النِّيرَانِ، وَذَلَّتِ الْمُثَلِّثَةُ عُبَّادُ الصُّلْبَانِ، وَتَقَطَّعَتِ الْأُمَّةُ الْغَضَبِيَّةُ فِي الْأَرْضِ كَتَقَطُّعِ السَّرَابِ فِي الْقِيعَانِ، وَصَارَتْ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ هِيَ الْعُلْيَا، وَصَارَ لَهَا فِي قُلُوبِ الْخَلَائِقِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، وَقَامَتْ بَرَاهِينُهُ وَحُجَجُهُ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، وَبَلَغَتْ مَنْزِلَتُهُ فِي الْعُلُوِّ وَالرَّفْعَةِ الْغَايَةَ الْقُصْوَى، وَأَقَامَ لَهُ وَلَيُّهُ وَمُصْطَفَاهُ أَعْوَانًا وَأَنْصَارًا نَشَرُوا أَلْوِيَتَهُ وَأَعْلَامَهُ، وَحَفِظُوا مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ حُدُودَهُ وَأَحْكَامَهُ، وَبَلَّغُوا إِلَى نُظَرَائِهِمْ كَمَا بَلَّغَ إِلَيْهِمْ مَنْ قَبْلَهُمْ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ، فَعَظَّمُوا شَعَائِرَهُ، وَعَلَّمُوا شَرَائِعَهُ، وَجَاهَدُوا أَعْدَاءَهُ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، حَتَّى اسْتَغْلَظَ وَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ وَيَغِيظُ بِهِمُ الْكُفَّارَ، وَعَلَا بُنْيَانُهُ الْمُؤَسَّسُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ، إِذْ كَانَ بِنَاءُ غَيْرِهِ مُؤَسَّسًا عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ. فَتَبَارَكَ الَّذِي رَفَعَ مَنْزِلَتَهُ، وَأَعْلَى كَلِمَتَهُ، وَفَخَّمَ شَأْنَهُ، وَأَشَادَ بُنْيَانَهُ، وَأَذَلَّ مُخَالِفِيهِ وَمُعَانَدِيهِ، وَكَبَتَ مَنْ يُبْغِضُهُ وَيُعَادِيهِ، وَوَسَمَهُمْ بِأَنَّهُمْ شَرُّ الدَّوَابِّ، وَأَعَدَّ لَهُمْ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْهِ أَلِيمَ الْعَذَابِ وَالْعِقَابِ، وَحَكَمَ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا مِنَ الْأَنْعَامِ، إِذِ اسْتَبْدَلُوا الشِّرْكَ بِالتَّوْحِيدِ، وَالضَّلَالَ بِالْهُدَى، وَالْكُفْرَ بِالْإِسْلَامِ، وَحَكَمَ سُبْحَانَهُ لِعُلَمَاءِ الْكُفْرِ وَعِبَادِهِ حُكْمًا يَشْهَدُ ذَوُو الْعُقُولِ بِصِحَّتِهِ وَيَرَوْنَهُ شَيْئًا حَسَنًا، فَقَالَ تَعَالَى:

1 / 224