بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
قال الشيخ، الإمام، قدوة الإسلام، وواضح الدلائل، الإمام، أبو بكر الطرطوشي، رحمه الله تعالى ورضي عنه:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، ورسول رب العالمين.
هذا كتاب أردنا أن نذكر فيه جُمَلا من بدع الأمور ومحدثاتها، التي ليس لها أصل في كتاب الله، ولا سنة، ولا إجماع، ولا غيره، فألفيت ذلك ينقسم إلى قسمين:
قسم يعرفه الخاصة والعامة أنها بدعة محدثة؛ إما محرمة، وإما مكروهة.
وقسم يظنه معظمهم - إلا من عصم الله - عبادات، وقربات، وطاعات، وسننا.
فأما القسم الأول؛ فلم نتعرض لذكره؛ إذ كُفينا مؤنة الكلام فيه؛ لاعتراف فاعله أنه ليس من الدين.
1 / 21
وأما الثاني؛ فهو الذي قصدنا جمعه، وإيقاف المسلمين على فساده ووبال عاقبته.
أعلم أن ما حدث في سائر أقطار بلاد أهل الإسلام من هذه المنكرات والبدع لا مطمع لأحد في حصرها؛ لأنها خطأ وباطل، والخطأ لا تنحصر سبله، ولا تتحصل طرقه؛ فاخط كما شئت! وإنما الذي تنحصر مداركه وتنضبط مآخذه؛ فهو الحق؛ لأنه أمر واحد مقصود، يمكن إعمال الفكر والخواطر في استخراجه.
وما مثل هذا إلا كالرامي للهدف؛ فإن طرق الإصابة تنحصر وتتحصل من إحكام الآلات، وأسباب النزع، وتسديد السهم.
فأما من أراد أن يخطئ الهدف؛ فجهات الأخطاء لا تنحصر ولا تنضبط؛ إلا أن نذكر من ذلك حسب الإمكان. وأحصر ذلك في أربعة أبواب:
الباب الأول: فيما انطوى عليه الكتاب العزيز من الأمور التي ظاهرها سِلْمٌ جرَّت إلى هُلْكٍ.
والباب الثاني: فيما اشتملت عليه السنة من النهي عن محدثات الأمور.
والباب الثالث: في أساليب الصحابة في كيفية ضبطهم للقانون الذي به تُحفظ قواعد الدين وتموت البدع.
والباب الرابع: في نقل ما حدث من ذلك في الإسلام، وتنصيص العلماء على تحريمها وكراهتها.
1 / 22
الباب الأول
فيما انطوى عليه الكتاب العزيز من الأمور التي ظاهرها سِلْمٌ جرَّت إلى هُلْكٍ
* فأما الباب الأول؛ فيكفي الأمة منه قصة أصحاب السبت التي حكاها الله تعالى في كتابه.
وكان مالك بن أنس يحتج بها على من خالفه في مسألة الذرائع: قال الله تعالى: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ﴾ ... إلى قوله: ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ .
وذلك أن الله تعالى حرَّم الصيد على اليهود يوم السبت، وأطلقه لهم في سائر الأيام، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا - يعني: في مشارع
1 / 23
المياه إلى أبواب بيوتهم، وقيل: شوارع ظاهرة على الماء كثيرة - ولا تأتيهم في سائر الأيام، فعمد رجال منهم يوم الجمعة، فحفروا الأنهار، ووضعوا آلات الصيد، فدخل الحيتان فيها، فأخذوها يوم الأحد، وكان يوما يجوز فيه الصيد ... إلى أن فشا ذلك فيهم، فذمَّهم الله تعالى، ومسخهم قردة وخنازير.
وقال ابن زيد: " وأول من أخذ منهم رجل حوتا في يوم الأحد، فشواه، فوجد جاره ريح الحوت، فقال له: إني أرى الله سيعذبك. فلما لم يعجل عليه بالعذاب؛ سار معه، فأخذ في السبت الآخر اثنان، فلما لم يعاجلهما العذاب؛ تتابعوا فيه، فأخذوا وأكلوا، وكانوا نحوا من سبعين ألفا في قرية يقال لها: أيلة، بين مدين والطور.
فصارت القرية أثلاثا: ثلثا نهوا - وكانوا اثني عشر ألفا - وثلثا قالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾، وثلثا هم أصحاب الخطيئة، فلما لم ينتهوا؛ قال المسلمون: لا نساكنكم. فقسموا القرية بجدار: للمسلمين باب، وللمعتدين باب، فلعنهم داود، فأصبح الناهون يوما في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس لشأنا، فنظروا على
1 / 24
الجدار، فإذا هم قردة، فقالوا: أي عباد الله! قرودا - والله - تعاوي!
ففتحوا الباب، فعرفت القردة أنسابها من الإنس، ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة، فجعلت القردة تأتي أنسابها من الإنس، فتشم ثيابه وتبكي، فيقول: ألم ننهكم؟ ! فتقول برأسها: نعم ".
قال قتادة: " صار شبابهم قرودا، والشيوخ خنازير، فما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم ".
واختلف العلماء في الفرقة الذين قالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ﴾؛ أكانت من الناجية أم من الهالكة؟
فأما ابن عباس؛ فقال: " هم ثلاث فرق: الواعظة، والموعوظة، والذين قالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا﴾، فالواعظة نجوا، والموعوظة هلكوا، ولا أرى الآخرين ذُكروا، فيا ليت شعري! ما فعل بهم ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها شيئا؟ ! ".
قال عكرمة: " فقلت له: جعلني الله فداك! ألا تراهم كرهوا ما هم عليه، وخالفوهم، فقالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ﴾، فلم أزل به حتى عرفته أنهم نجوا، فكساني حلة ".
وأيضا فإن الواعظين قالوا لهم: انتهوا عن هذا العمل السيئ قبل أن ينزل بكم العذاب؛ فإنا قد علمنا أن الله منزل بكم بأسه إن لم تنتهوا. فقالت لهؤلاء الفرقة الأخرى: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ إذ علمتم أن الله معذبهم عذابا شديدا، فلا تعظوهم؛ فإن الله مهلكهم.
وقال جماعة من العلماء: بل هذا الفريق من الهالكين؛ لأنهم منعوا
1 / 25
الناهين، فأخطؤوا، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عليهم، وإن كان التقدير غالبا؛ لأنهم وإن كانوا قد علموا بعذابهم، فلم يسقط عنهم فرض الأمر بالمعروف، وإن كان ما قالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ﴾؛ رضًى بالمنكر، لكن لأنهم اعتقدوا أنهم هالكون.
* ومن ذلك قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا﴾ .
وذلك أن المسلمين كانوا يقولون: يا رسول الله! راعنا وأرعنا سمعك.
وهي بالعبرانية كلمة سب من الرعونة، فكانت اليهود تقولها للنبي ﷺ يقصدون سبه، فمنع الله المسلمين أن يقولوها - وإن كانت جائزة -؛ لئلا يتذرع اليهود بذلك إلى ما لا يجوز.
وهذا في الحقيقة منع جائز في الظاهر؛ لما كان يتطرق به إلى باطن ممنوع.
* ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ .
فمنع الله سائر المسلمين من سب آلهة الكفار، وهو مباح؛ لئلا يصير
1 / 26
طريقا لهم إلى سب إله العالمين ﷾.
* ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾ .
فمنع الله تعالى النساء أن يضربن بأرجلهن، وهو فعل جائز في الظاهر؛ لئلا يتذرعن إلى ما لا يجوز من الدعاء إلى أنفسهن.
* ومما يدخل في هذا الباب والتحذير من الزيادة في دين الله تعالى والنقصان منه: قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ ... إلى قوله: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ﴾ .
قال أهل التأويل: طؤطئ لهم الباب؛ ليخفضوا رؤوسهم، فيدخلوا سجدا منحنين متواضعين، ويقولوا: حِطَّة؛ معناه: حط عنا خطايانا، فقالوا: حنطة.
ويقال: إنهم قالوا: هطا سمقايا؛ يعنون حنطة حمراء؛ استخفافا بأمر الله، فأرسل الله تعالى عليهم رجزا ظلمة وطاعونا، فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون ألفا، فلقوا من البلاء ما لقوا - وإنما زادوا حرفا في الكلمة -؛ يعرفهم أن الزيادة في الدين والابتداع في الشرع عظيم الخطر.
قال علماؤنا ﵃: إذا كان تغيير كلمة في باب التوبة - وذلك
1 / 27
أمر يرجع إلى المخلوق- يوجب كل ذلك العذاب؛ فما ظنك بتغيير ما هو خبر عن صفات المعبود؟ !
* ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ .
قال ابن عباس: " قوله: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾: هي الأهواء المختلفة ".
وقال غيره: ما فيه الناس من الاختلاف.
﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾: يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب.
واختلف في المراد بهذه الآية:
فقال مجاهد وأبو العالية وغيرهم: " هي لأمة محمد ﷺ ".
فروى خالد بن زيد الخزاعي: «أن النبي ﷺ صلى، ثم قال: سألت الله تعالى فيها ثلاثا، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألت الله تعالى ألا يصيبكم بعذاب أصاب به من قبلكم فأعطانيها، وسألته ألا يسلط عليكم عدوا يستبيح بيضتكم فأعطانيها، وسألته ألا يُلبسكم شيعا فمنعنيها» .
1 / 28
قال أبو العالية " [عن أبي بن كعب؛ قال]: هن أربع: ظهر اثنتان بعد وفاة النبي ﷺ بخمس وعشرين سنة، فألبسوا شيعا، وأذيق بعضهم بأس بعض، وبقيت اثنتان، فهما ولا بد واقعتان: الخسف من تحت أرجلهم، والرجم والمسخ من فوقهم ".
وهذا تأويل ابن مسعود.
وعن ابن عباس: " ومِنْ فَوْقِكُم: أئمة السوء. ومِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ: خدم السوء ".
1 / 29
الباب الثاني
فيما اشتملت عليه السنة
من التحذير من الأهواء والبدع
قال رسول الله ﷺ: «بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء.
قيل: من هم يا رسول الله؟
قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس» .
وفي لفظ آخر: «النُّزَّاع من القبائل» .
وفي لفظ آخر: «أناسٌ صالحون قليلٌ في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» .
1 / 31
ومعنى هذا الحديث: أنه لما جاء الله بالإسلام، فكان الرجل إذا أسلم في قبيلته وحيه غريبا فيهم، مستخفيا بإسلامه، قد جفاه الأهل والعشيرة، فهو بينهم ذليل حقير خائف يتغصص بجرع الجفاء والأذى، ثم يعود غريبا؛ لكثرة الأهواء المضلة، والمذاهب المختلفة، حتى يبقى أهل الحق غرباء في الناس؛ لقلتهم وخوفهم على أنفسهم.
وقال ابن مسعود: «خط لنا النبي ﷺ خطا، ثم خط إلى جانبه خطوطا، ثم قال للخط الأول: هذا سبيل الله يدعو إليه، وقال للخطوط: هذه سبل الشيطان، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾» .
فحذر من البدع ومحدثات الأمور.
ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم: أن النبي ﷺ قال: «لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم.
قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟
قال: فمن؟ !» .
وروى أبو داود في " السنن " عن أبي هريرة ﵁ قال: قال
1 / 32
رسول الله ﷺ: «افترقت اليهود على إحدى - أو اثنتين - وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على إحدى - أو اثنتين - وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» .
ورواه معاوية بن أبي سفيان؛ قال: «قام النبي ﷺ فقال: ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة: اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله» .
واعلم أن هذا الحديث قد طاشت فيه أحلام الخلق، وفي معرفة هذه الفرق، وهل كملوا بعد أم لا؟ !
١ - فصل في تحقيق القول فيه
اعلم أن علماءنا ﵃ قالوا: أصول البدع أربعة، وسائر الأصناف الثنتين وسبعين فرقة عن هؤلاء تفرقوا وتشعبوا، وهم: الخوارج - وهي أول فرقة خرجت على علي بن أبي طالب ﵁ والروافض، والقدرية، والمرجئة.
ولم يرد علماؤنا أن أصل كل بدعة من هؤلاء الأربع تفرعت وتشعبت على
1 / 33
مقتضى أصل البدع، حتى كملت ثلاثة وسبعين فرقة؛ فإن ذلك لعله لم يدخل في الوجود إلى الآن، وإنما أرادوا أن كل بدعة وضلالة لا تكاد توجد إلا في هذه الأربع فرق، وإن لم تكن البدعة الثانية فرعا للأولى وشعبة من شعبها، بل هي بدعة مستقلة بنفسها، ليست من الأولى بسبب.
وبيان ذلك بالمثال: أن القدر أصل من أصول البدع، ثم اختلف أهله في مسائل من شعب القدر، وفي مسائل لا تعلق لها بالقدر، فجميعهم متفقون أن أفعال العباد خلق لهم من دون الله تعالى، ثم اختلفوا في فرع من فروع القدر:
فقال أكثرهم: لا يكون فعل بين فاعلين!
وقال بعضهم - وهو المِرْدَار -: يجوز بين فاعلين مخلوقين على التولد. وأحال مثله بين القديم والمحدث.
ثم اختلفوا فيما لا يعود إلى القدر في مسائل كثيرة؛ كاختلافهم في الصلاح والأصلح:
فقال البغداديون منهم: يجب على الله - تعالى عن قولهم - فعل الأصلح لعباده في دينهم ودنياهم، ولا يجوز في حكمته تبقية وجه ممكن به الصلاح العاجل والآجل؛ إلا وعليه فعل أقصى ما يقدر عليه في استصلاح عباده.
قالوا: وواجب على الله - تعالى - ابتداء الخلق الذين علم أنه يكلفهم،
1 / 34
ويجب عليه إكمال عقولهم وأقدارهم، وإزاحة عللهم!
وقال البصريون منهم: لا يجب على الله - تعالى - إكمال عقولهم، ولا أن يؤتيهم أسباب التكليف.
وقال البغداديون منهم: يجب على الله - تعالى عن قولهم - عقاب العصاة إذا لم يتوبوا، والمغفرة من غير توبة سفه من الغافر!
وأبى البصريون ذلك.
وابتدع جعفر بن مبشر من القدرية بدعة، فقال: " من استحضر امرأة ليتزوجها، فوثب عليها، فوطئها بلا ولي ولا شهود ولا رضىً ولا عقدٍ؛ حل له ذلك "!
وخالفه في ذلك سلفه، وخالفه خلفه.
وقال ثمامة بن أشرس: " إن الله - تعالى - يصير الكفار والملحدين وأطفال المشركين والمؤمنين والمجانين ترابا يوم القيامة؛ لا يعذبهم، ولا يعوضهم "!
وقوله هذا في الكفار والملحدين خرق لإجماع الأمة؛ من أهل الإثبات، وأهل القدر، وغيرهم.
وهكذا ابتدعت كل فرقة من هذه الفرق بدعا تتعلق بأصل بدعتها التي هي معروفة بها، وبدعا لا تتعلق بها.
1 / 35
فإن كان أراد رسول الله ﷺ بتفرق أمته أصول هذه البدع التي تجري مجرى الأجناس للأنواع، والمعاقد للفروع؛ فلعلهم - والعلم عند الله - ما بلغوا هذا العدد إلى الآن؛ غير أن الزمان باق، والتكليف قائم، والخطوات متوقعة، وكل قرن عصر لا يخلوا إلا وتحدث فيه البدع.
وإن كان أراد النبي ﷺ بالفرق كل بدعة في دين الإسلام؛ مما لا يلائم أصول الإسلام، ولا تقبلها قواعده؛ من غير التفات إلى التقسيم الذي ذكرنا؛ سواء كانت البدع أنواعا لأجناس، أو كانت متغايرة الأصول والمباني - وهذا هو الذي أراده، والعلم عند الله -؛ فقد وجد من ذلك عدد كثير، أكثر من اثنين وسبعين.
ووجه تصحيح الحديث - على هذا - أن يخرج من الحساب غلاة أهل البدع، ولا يعدون من الأمة ولا في أهل القبلة؛ كنفاة الأعراض من القدرية؛ لأنه لا طريق لحدوث العالم وإثبات الصانع إلا بثبوت الأعراض، وكالحلولية، والمنصورية، وأشباههم من الغلاة.
1 / 36
وسنذكر عند تمام الفصل أن البدعة تكون في الأفعال؛ كما تكون في الأقوال.
ومن ذلك ما رواه أبو داود في " السنن " عن العرباض بن سارية قال: «صلى بنا النبي ﷺ ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذا موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال:
أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبد حبشي استعمل عليكم؛ فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» .
وروى أبو داود أيضا أن معاذ بن جبل كان لا يجلس مجلسا للذكر إلا قال: " الله حكم قسط، هلك المرتابون، إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن؛ حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير،
1 / 37
والحر والعبد، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمُتَّبِعيَّ حتى ابتدع لهم غيره. فإياكم وما ابتُدع؛ فإنما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، ويقول المنافق كلمة الحق ".
روى أنس قال: قال النبي ﷺ: «أهل البدع هم شر الخلق والخليقة» .
وروى البخاري عن أبي واقد الليثي قال: «خرجنا مع النبي ﷺ قِبَلَ خيبر ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم؛ يقال لها: ذات أنواط. فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال النبي ﷺ: الله أكبر! هذا كما قالت بنو إسرائيل: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾، لتركبن سَنَنَ من قبلكم....» .
فانظروا - رحمكم الله - أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس
1 / 38
ويعظمون من شأنها ويرجون البرء والشفاء من قبلها وينوطون بها المسامير والخرق؛ فهي ذات أنواط؛ فاقطعوها.
وروى مسلم في " صحيحيه " أن النبي ﷺ قال: «لا يجعل أحدكم للشيطان عليه حقا؛ يرى إذا صلى ألا ينصرف إلا عن يمينه» .
وروى مالك في " موطئه " عن واسع بن حبان قال: " انصرفت من الصلاة من قبل شقي الأيسر، فقال لي عبد الله بن عمر: ما منعك أن تنصرف عن يمينك؟ قلت: رأيتك فانصرفت إليك. قال: أصبت. إن قائلا يقول: انصرف عن يمينك، وأنا أقول: انصرف كيف شئت عن يمينك أو عن يسارك ".
وروى البخاري في " صحيحيه ": «أن النبي ﷺ نهى أن يصام يوم الجمعة؛ إلا أن يصله بصيام قبله أو بعده» .
وروى مسلم في " صحيحيه ": «أن رسول الله ﷺ نهى عن صيام يوم الجمعة وعن قيام ليلتها» .
٢ - فصل [في تعريف البدعة]
فإن قيل لنا: فما أصل البدعة؟
1 / 39
قلنا: أصل هذه الكلمة من الاختراع، وهو الشيء يحدث من غير أصل سبق، ولا مثال احْتُذِيَ، ولا ألف مثله.
ومنه قوله تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وقوله: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾؛ أي: لم أكن أول رسول إلى أهل الأرض.
وهذا الاسم يدخل فيما تخترعه القلوب، وفيما تنطق به الألسنة، وفيما تفعله الجوارح.
والدليل على هذا ما سنذكره في أعيان الحوادث من تسمية الصحابة وكافة العلماء بدعا للأقوال والأفعال.
1 / 40
الباب الثالث
منهاج الصحابة في إنكار البدع
وترك ما يؤدي إليها
* فمن ذلك ما روى البخاري في كتاب الصلاة عن أم الدرداء؛ قالت: دخل علي أبو الدرداء مغضبا، فقلت له: ما لك؟ فقال: والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعا.
وروى مالك في " الموطإ " عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال: " ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة ".
يعني: الصحابة.
وذلك أنه أنكر أكثر أفعال أهل عصره، ورآها مخالفة لما أدرك من أفعال الصحابة.
وكذلك أبو الدرداء أنكر ما أدرك بعد موت النبي ﷺ ولم يعرفه من أحوال رسول الله ﷺ.
وقال الزهري: " دخلت على أنس بدمشق وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: ما أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد
1 / 41