يسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله الذي نقد بصائر المهتدين بأنوار معرفته، وعصمهم من الزيغ والانحراف عن طريق محجته، وفقهم لاتباع طريق أنبيائه وأهل رسالته، وجعلهم متبعين لما أنزل عليهم من فرقانه وإبانته، وحماهم عن قلب الحقائق المعنوية والصورية بالأغاليط المتوهمة الظنية. من كل ماش مكب على وجهه، وعاقب من اتخذ إلهه هواه في سيره وسيرته، وأضله على علم، وختم على سمعه وبصيرته، بتغير في أبار المهالك والمعاطب من عماوته وحيرته. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، المنفرد بذاته وفردانيته عن جميع مخلوقاته وبريته، الذي أتصف بالصفات وتسمى بالأسماء في قدمه وأزليته وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله الذي بعثه إلى الخلق برحمته وهدايته صلى الله عليه وعلى آله أهل وده وولايته. وبعد: فإن الله تعالى يقول: ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغى بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) [الأعراف 33] ، وقال : ( أفن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صرط مستقيم) [الملك : 22]، فقد حرم علينا أن نقول عليه سبحانه ما لا نعلم كما رضي لنا أن نمشي على صراط مستقيم.
صفحة ٢٩
على بعض، فالخلق محدود مربوب ، يتصرف فيه الباري تعالى بقدرته وإرادته ومشيئته؛ ليس الخلق بعضا من أبعاضه، ولا صفة من صقاته، ولا هو عين ذاته ، بل هو سبحانه ذات منفرد بنفسه، مباين عن جميع خلقه بذاته وصفاته وأسمائه ووجوده؛ فجميع الحركات والسكنات في الخلق صادرة عن مشيئته، وليس هو المتحرك فيها، بل هو المحرك لها، وليس وجودها وجوده، بل لها وجود محدث مفتقر إلى وجوده، كما أن للموجد سبحانه وجود قائم به غير وجودها كما يليق بربوبيته، وللمخلوق وجود قائم به مفتقر كما يليق بعبوديته. فحين جعل الوجود وجودا واحدا ساريا في كل ماهية من الخلق والحق؛ فقد ضل واعتدى ، ومن زعم أن الخلق إنما يمتاز عن الحق بحيثية ما اقتضاه استعداده من قبول الفيض فقط، كان في العدم ثابتا متعددا متنوعا، فقد زاغ عن المحجة الصحيحة والنهج السوي؛ قاتل الله القائلين بهذه المقالة فأنى يؤفكون. والسبب الموجب لنظم هذه الأحرف هو ما وقر في القلوب من ترهات ابن عربي، حيث صار لها شأن في قلوب السالكين، وخطر عند المبتدعين من الطالبين، وما ذلك إلا لقصور فهمهم عن مقاصده، وعجز بصائرهم عن ملاحظة اتحاده في شقائه ، استخرت الله بتعليق كلمات تكون - إن شاء الله تعالى - كشفا لستر مقالته، ومنبها على إلحاده وضلالته مما نقلته من كلامه عن «فصوص الحكم» نقل المسطرة ؛ ليزول بذلك عن الكاشف لستره كل تهمة، وليزن العاقل مقالته على ما دل عليه دين الرسول صعلم فيزنه بالدين الناقد البصير، ليظهر له زيفه وانحرافه وتهوكه وعناده، ولعمري لا يقدر
صفحة ٣٠
فالمشار إليه راسخ في زندقته ، ضائع في سياق ما يلقيه من كفريات الفلسفة ؛ لاحتوائه على فنون كثيرة من العلوم الشرعية والرياضية والفلسفية، فصارت في ذلك عذبة غريبة، ومقاصده فيها غامضة لا يفطن لها إلا كل ناقد يعرف عوره في مقالاته وترتيبه.
فصل
جميع ما يبديه في مصنفاته من الكلام الحق النافع هو ربط واستجلاب لقلوب الطلبة كما يشير إليه في الفتوحات والحكم المربوط وغيرهما؛ فإن الداعي إلى البدعة لا يستجاب له إن لم يكن ذا بصيرة بالدعوة ويستدرج الخلق فيها بلطيف الاستدراج ، بحيث ينقلهم من مرتبة في عقولهم إلى مرتبة أخرى أعلى منها، بحيث تكون تلك المرتبة الأولى ثابتة في العقول، فتسكن العقول في ذلك أولا، ثم يدفق العبارة فتشتاق القلوب إلى حل ذلك أولا؛ فمن العابد ومن المعبود، ومن الشاهد ومن المشهود، كما أنشد: إن قلت عبدا فذلك ميت
أو قلت رب أنى مكلف
فصل
نبدأ أولا - بعون الله تعالى - في حل قاعدة مذهبه قبل نقل كلامه ؛ لتتضح القاعدة أولا في ذهن العاقل، ثم يتفصل عليها جميع ما ننقل عنه من كلامه ، ويستفاد من ذلك أن جميع ما يقوله في جميع كتبه وإن اختلفت عباراتها وتنوعت أنحاؤها وإشاراتها نضما ونثرا فهو مسألة واحدة، وهي- حقيقة القاعدة الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى، فهو يقول ثم يحط عليه فلا
صفحة ٣١
كلامه ويستقرئه إن شاء الله تعالى.
فصل
قاعدة هذا الرجل في اعتقاده وكشفه الباطل هو عند العلماء والعقلاء خيال لا حقيقة له، ووهم فاسد توهمه، وبنى عليه أصوله ودلائله؛ هو أن يجعل المعدوم شيئا ، ويجعل الماهيات بأسرها - من جميع ما علم من الأكوان علوها وملوها في عدمها أشياء ثابتة في أنفسها، لكن ليس لها وجود، فأفاض الحق تعالى عليها وجوده الذاتي، فقبلت الوجود بحسب استعدادها، فظهرت بعين وجود الحق الذاتي، فكان هو الظاهر فيها بحكم الوجود وهي كانت الظاهرة فيه بحكم الأسماء لتنوعها وتعددها ، ويجعل النسب التي بين الذوات والوجود هي أسماءه تعالى، لولاها لم يكن له اسم؛ فإن الوجود لما أفاض على الماهيات الثابتة عنده، قبلت كل ماهية من الوجود بحسب استعدادها، مثلا كان المرزوق والمنتقم منه، والمرحوم مرحوما والجميل جميلا، فقبلت كل ماهية بحسب ما اقتضاه استعدادها من ذلك الوجود المطلق، فظهر بذلك الاسم: الرزاق والرحيم والمنتقم، ولولا فيض هذا الوجود لم يكن لله تعالى أسماء أصلا، فإن كان شيئا مطلقا لا وجود له يتعين هذا على قواعده واصطلاحاته وتوهماته. ومذهب المسلمين أن الله تعالى لم تزل أسماؤه قديمة موجوده، لم يتجدد له بما أحدث من مخلوقاته شيء لم يكن له في قدمه. وهذا الكلام الذي انتحله هذا الرجل يقتضي أن الله تعالى كان لا وجود له في الظاهر، كان وجوده مطلقا لا يوصف بصفة ولا يسمى باسم، فأراد أن يقرن بنفسه، فتجلى بوجوده على الأعيان، فرأى نفسه فيها، كما قال:
صفحة ٣٢
رأى نفسه ظهرت الأسماء باعتبار النسب التي بين الماهيات والوجود الفائض، فلما أفاض عين وجوده على الماهيات بذلك صار هو موجود في الظاهر، فظهرت الوحدة في الكثرة متكررة فيها لا متعددة لأنها كتكرر الإنسانية في الأشخاص المتعددة ، وهي إنسانية واحدة ، فهو الموجود في الكثرة لا موجود غيره ، والكل هو هذا الظاهر الذي ظهر بوجوده في بريته، وكل موجود له نسبة من وجود الحق لما قبله استعدادا، فتلك النسبة هي عين أسمائه وصفاته، فصار الحق عنده كالإنسانية المطلقة السارية في شخص بالتكرار، وكل واحد إنسان، وبهذا الأشخاص ظهرت الإنسانية في الخارج، ولولاهم كانت شيئا ثابتا في الذهن مطلقة لا حقيقة لها في الحارج متعينة ، فكذلك الرب عنده كان شيئا مطلقا لا ظهور له، فأفاض وجوده على الأكوان كفيض الإنسانية على جنس الإنسان ، فظهر بذلك وجود الحق في الخارج كما ظهرت الإنسانية في الخارج، لتعلقها بالأشخاص المتعينين. فأحل الله الشكوى مما انتحلته هذا الطائفة المبطلة التي قلبت الحقائق وشنعت على ضعفاء هذه الأمة عقولها، وفرقت الربوبية كل ممزق، وقلبت صورة الشريعة ومسختها، فاستهلك الإيمان والإسلام في صورة ما انتحلوه كاستهلاك الإنسانية في القرد الممسوخ، مسخهم الله كما مسخوا دينه، وقلبهم في النار كما قلبوا شريعته وبالله المستعان. فمذهب هذا الرجل: أن الأعيان كانت ثابتة، فهي غذاؤه بالأحكام. يعني يتغذى بها الحق لظهور أحكام أسمائه فيها، وذلك يقتضي افتقاره إليها لأن من يتغذى بالشيء كان مفتقرا إليه، ولذلك أفاض عليها وجوده
صفحة ٣٣
أسماؤه، فصارت غذاء له، وكذلك عنده هو غذاء لها أيضا بالوجود، لأن بوجوده ظهرت ، إذ لولا وجوده الفائض لكانت عدما في حال ثبوتها في عدمها، فلما فاض وجوده الذاتي عليها ظهرت به ، فهي غذاؤه وهو غذاؤها بالوجود. وزيادة بيان لمذهبه البعيد على اصطلاحه: يتصرفون في ربهم لما قبلوه من الوجود بحسب استعدادهم، فالرب تعالى عنده ليس له اختيار في مقادير استعداد كل موجود فيما قبله من الوجود له اختيار بحسب ما اقتضاه استعداده . يدل على ذلك ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى من كلامه ، وكذلك عنده أن الرب تعالى كما تصرفوا هم فيه يتصرف هو أيضا فيهم في إفاضة وجوده عليهم فقط لا غير ذلك، فكان الحاصل من مجموع هذه الحالة أن الرب تعالى على زعمه كان وحدة مطلقة لا يرى نفسه و لا يعرف إياه ولا يوصف باسم ولا بصفة، حتى رأى نفسه متجلية في الماهيات ، فكان المرآة له رأى وجوده فيها، ولزم من ذلك ظهور الأسماء، ومن قبل كان لا اسم له ولا صفة، بل شيئا مطلقا، لأن الأسماء والصفات هي من لوازم الظهور والوجود، وتعلق الوجود بالموجودات، فباعتبار تعلق كل موجود بالوجود يكون للوجود أسماء بحسبه، فلما أراد سبحانه وتعالى أن يكون له ظهور أفاض وجوده على الماهيات الثابتة في العدم، فظهر بوجوده، فكان هو الظاهر حيث وجوده، وكانت الماهيات هي الظاهرة من حيث أسماؤه.
صفحة ٣٤
فصل
فيمن وفقه الله تعالى، وفهم هذه القاعدة وحققها في ذهنه الصحيح وعقله الراجح، ونور الله قلبه بنور الإسلام، فعرف أن هذا وهم فاسد، وخيال باطل في زخرف من القول وزور، لما دل عليه الكتاب والسنة من قدم الباري تعالى بذاته المقدسة وجميع أسمائه وصفاته، وكان موجودا بوجود قديم يختص به يعلم نفسه ويرى وجوده، وأن وجود الأكوان ليس هو عين وجوده، بل هو وجود محدث لم يفض عليه من ذات وجود الحق شيء، لأن وجود الحق لا يفيض على مخلوق، وهو وجود قائم به سبحانه وتعالى لا ينتقل إلى غيره ولا يحل في سواه، وهو - سبحانه وتعالى - بهذا الأكوان بهذا الوجود المحدث الذي يليق بالأكوان، وهو خلق من خلقه لا من فيض وجوده الذاتي يريد إمداده، فيكون كما قال الله تعالى : (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) [النحل:40]، وليس عين ذلك الذي يجده من الوجود سبحانه وتعالى لم يحدث له لإظهار الكون اسم لم يكن له في قدمه ولا صفة يوصف بها في أزله ، فظهور الأكوان ووجودها لم يزد به سبحانه وتعالى مثقال ذرة من اسم ولا صفة كما أنه لو لم يظهرها لم ينقض بذلك ولم تخف أسماؤه ولا صفاته تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. وها نحن إن شاء الله تعالى ننقل من كلامه نقل المسطرة بلا زيادة ولا نقصان، ليستدل بذلك على صحة ما بينا من مذهبه ليتفطن له العقلاء والنبلاء الطالبون، ونفرق بين ما يقوله، وبين ما يفسره من كلامه بفاصل يتميز به عنه إن شاء الله تعالى.
صفحة ٣٥
قال: فسمى هذا المذكور إنسانا وخليفة؛ فأما إنسانيته : فلعموم نشأته، وحصره الحقائق كلها. قوله : لعموم نشأته وحصره الحقائق. يعني به آدم هو العالم الأصغر، قد جمع وحوى جميع ما في العالم لأكبر. ثم قال: وهو للحق تعالى بمنزلة إنسان العين من العين الذي يكون به النظر، وهو المعبر عنه بالبصير، فلهذا سمي إنسانا. لأنه من الحق بمثابة إنسان العين، وكفى بهذا كفرا وزندقة، لمن نظر وأنصف. ثم قال: فإنه به نظر الحق قعالى إلى خلقه فرحمهم ، فهو الإنسان الحادث الأزلي، والنشء الدائم الأبدي. قوله: به نظر الحق تعالى إلى خلقه.
صفحة ٣٦
لأنه كان ثابتا في العدم والنشء الدائم الأبدي ، لأنه صار بالوجود الدائم الأبدي. قال في الكلمة الشيثية: ومن هؤلاء من يعلم أن علم الله [به] في جميع أحواله هو ما كان عليه في حال ثبوت عينه قبل وجودها، ويعلم أن الحق لا يعطيه إلا ما أعطاه بمنه من العلم به، وهو ما كان عليه في حال ثبوته، فيعلم علم الله من أين حصل، وما ثم صنف من أهل الله أعلى وأكشف من هذا الصنف، فهم الواقفون على سر القدر. وهذا الذي قاله يقتضي أن ثم قوما يعلمون علم الله بهم من أين يحصل ؟ فيطابق علمهم علم الله بهم من جميع الوجوه ! وهذا لم يثبت في الشرع أنه جعل للأنبياء؛ لأنهم ما كانوا يعلمون من علم الله إلا ما علمهم الله تعالى، وما خفي عنهم منه أكثر مما علموه، فكيف يدعي مدع أنه يكون في الأمة من يعلم علم الله من أين حصل ! وهذا هو الضلال المبين. ثم قال: ثم نرجع إلى الأعطيات فنقول: أما ذاتيته وأما أسمائيه، فأما المنح والهبات والعطايا الذاتية فلا تكون أبدا إلا عن تجل إلهي، والتجلي من الذات لا يكون إلا بصورة استعداد المتجلى له ، وغير ذلك لا يكون ؛
صفحة ٣٧
ولا يمكن أن يراه مع علمه أنه رأى سوى صورته في مرآة الحق. فإنه بفيض الوجود رأى نفسه، ولولا فيض الوجود لما رأى نفسه. قوله : ولا رأى الحق. أي أنه مطلق شائع ، والمطلق لا يرى حقيقته إلا متعينا، فلذلك ولا يمكن أن يراه مع علمه بأنه ما رأى وجود نفسه الثابتة في العدم لا بوجود الحق الفائض عليه، فكان وجوده مرآة نفسه فيها. ثم ساق الكلام إلى أن قال: فهو مرآتك في رؤيتك نفسك، وأنت مرآته في رؤية أسمائه وظهور أحكامها. ثم قال: ولست سوى عينيه فاختلط الأمر وانبهم؛ فمنا من جهل في علمه، فقال: العجز عن درك الإدراك إدراك. وهذا مثل ضربه في الصديق رضي الله عنه، فإنه نقل إنه قال: العجز عن درك الإدراك إدراك.
صفحة ٣٨
أعطاه العلم السكوت. معاشر العلماء تدبروا هذا الكلام، وتفهموا محطه؟ قال : فهو مراتك في رؤيتك نفسك. هل تفهمون معناه ؟ أنه لما أفاض وجوده الذاتي عليك كالمرآة فيه، رأيت بثبوتك في عدمك موجود، فكان وجود الحق مرآتك رأيت فيه نفسك . ثم قال: وأنت مرآته في رؤية أسمائه وظهور أحكامها. معناه : لولاك ما ظهرت. هذا نص صريح واقع في القاعدة التي قررناها أولا من مذهبه، مطابقة لها لمن فهم وعقل زندقته. ثم قال: وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل، وخاتم الأولياء، وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة [الولي] الخاتم، حتى إن الرسل لا يرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فإن الرسالة والنبوة، أعني نبوة التشريع ورسالته تنقطعان، والولاية لا تنقطع أبدا، فالمرسلون من حيث كونهم أولياء لا يرون
صفحة ٣٩
الأولياء وأن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به الرسل من التشريع، فذلك لا يقدح في مقامه [ولا يناقض ما ذهبنا إليه]، فإنه من وجه يكون أنزل كما أنه من وجه يكون أعلى، وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيد ما ذهبنا إليه في فضل عمر في أسارى بدر بالحكم فيهم، وفي تأبير النخل، فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شيء
صفحة ٤٠
والأنبياء لا يرون العلم بالله إلا من مشكاة خاتم الأولياء. فهذا عنده محمد صلى الله عليه وسلم وموسى وعيسى عليهما السلام لا يرون العلم بالله تعالى إلا من مشكاة خاتم الأولياء الآتي في آخر الزمان ؛ ليت شعري وبأي حجة أم بأي دليل أم بأي آية أم بأي خبر أم بأي معقول ! ثم انظر إلى قضية عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكونه صلى الله عليه وسلم مر على قوم يلقحون النخل، فقال : «لو تركتم هذا لصلح»، فتركوه فصار شيصا، فقال : «أللهم أنتم أعلم بأمر دنياكم، وأنا أعلم بأمر دينكم» . أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فأنى لمن أكذب على الله معاشر العقلاء . فهل قضية عمر رضي الله عنه حجة على ما قال ؟ هل كان صلى الله عليه وسلم يرى العلم
صفحة ٤١
هل يلزم من ذلك يكون جميع الأنبياء والرسل يرون العلم بالله جميعه من مشكاة خاتم الأولياء ؟ وهل في قضية التأبير دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم وجد العلم من مشكاة أهل النخل ! نعم الرسول بعثه الله تعالى بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله ولم يبعثه بالفلاحة والتأبير والزراعة، فكون القوم كانوا أعلم بأمر دنياهم ، هل في ذلك دلالة على أن جميع الأنبياء والرسل يرون العلم من مشكاة خاتم الأولياء ؟ ! تعقلوا رحمكم الله ما يقول هذا الضال، واستدلوا على بعض كلامه ببعض، تفهموا انحلاله، بل تعرفوا خبطه، وتعتبروا وهمه وخياله، وأنه - وإن كان ملتزما لشيء من الشريعة في مقاله - فإن ذلك ربط يربط به القلوب واستدراج لها، (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) [النور: من الآية 40] تم انظروا - رحمكم الله تعالى - كيف قلب الحقائق وأعيانها في الكلمة النوحية فقال : لو أن نوحا جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه، فدعاهم جهارا، ثم دعاهم إسرارا، ثم قال لهم : ( أستغفروأ ربكم إنه كان غفارا )) [نوح: من الآية 10] ، وذكر عن قومه أنهم تصامموا عن دعوته لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته، فعلم العلماء بالله أنهم [إنما] لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، والأمر قرآن لا فرقان، ومن أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان، وإن كان فيه، فإن القرآن يتضمن الفرقان، والفرقان لا يتضمن القرآن، ولهذا ما اختص القرآن إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الأمة التي هي خير أمة قد أخرجت للناس.
صفحة ٤٢
في أمر واحد، فلو أن نوحا عليه السلام أتى بهذه الآية لفظا أجابوه، فإنه شبه ونزه في آية واحدة، ونوح عليه السلام دعا قومه ليلا من حيث عقولهم وروحانيتهم فإنها غيب، ونهارا دعاهم أيضا من حيث ظاهر صورهم وجسمهم، وما جمع في الدعوة مثل ليس كمثله شيء، فنفرت بواطنهم لهذا الفرقان فزادهم فرارا، ثم قال عن نفسه : دعاهم ليغفر لهم لا ليكشف لهم، وفهموا ذلك، جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم، وهذه كلها صورة الستر الذي دعاهم إليها، فأجابوا دعوته بالفعل لا بلبيك. ففي ليس كمثله شيء إثبات ونفي، وقال عن نفسه صلى الله عليه وسلم إنه أتي جوامع الكلم، فما دعا محمد صلى الله عليه وسلم قومه ليلا ونهارا، بل دعاهم ليلا في نهار، ونهارا في ليل. فقال نوح عليه السلام في حكمته لقومه (يرسل السماء عليكم مدرارا ) [هود : من الآية 52] ، وهي المعارف العقلية في المعاني والنظر الاعتباري ( ويمددكم بأموال) [نوح : من الآية 12] ، أي بما يميل بكم إليه ؛ فإذا مال بكم إليه رأيتم صورتكم فيه، فمن تخيل منكم أنه رآه فما عرف، ومن عرف منكم أنه رأى نفسه، فهو العارف. ثم ساق الكلام إلى أن قال: فقالوا في مكرهم: (لا تذرن إلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق وشرا) [نوح : من الآية23] ، فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه ويجهله من جهله. في المحمديين، ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) [الإسراء : من الآية 23] ، أي
صفحة ٤٣
التفرقة والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير الله في كل معبود، فالأدنى من تخيل فيه الألوهية، فلولا هذا التخيل ما عبد الحجر ولا غيره. ثم ساق الكلام إلى أن قال: والأعلى العالم يقول: إنما إلهكم إله واحد فله أسلموا حيث ظهر. فقوله: ما عبد غير الله في كل معبود. أي أن عباد الأصنام كان فيهم خاصة وعامة، عارفون ومحجوبون فالعامة المحجوبون تخيلوا أن في الأصنام ألوهية، وأما العلماء والعارفون من عباد الأصنام يقول العارف منهم: إنما إلهكم إله واحد، فله أسلموا، حيث ظهر أسلم وعبده ، حيث الحق فيه بوجوده الفائض عليه ! افهموا رموزه تعقلا. ثم قال : ( وبشر المخبتين) [الحج : من الآية34] ، الذين خبت نار طبيعتهم بدل نار طبعهم، فقالوا: إلها، ولم يقولوا طبيعة، ( وقد أضلوا كثيرا) نوح: من الآية24]، أي حيروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب، ( ولا تزد الظالمين) [نوح : من الآية64] لأنفسهم ، ( المصطفين ) (ص : من الآية47]، الذين أورثوا الكتاب أول الثلاثة، فقدمه على المقتصد والسابق ، (إلا ضلالا ) [نوح : من الآية24] ، إلا حيرة المحمدي، زدني فيك تحيرا. ثم ساق الكلام والتخليط إلى أن قال:
صفحة ٤٤
العلم بالله، وهو العلم بالله؛ ( فأدخلوأ نارا ) (نوح : من الآية25] ، في عين الماء ، [في المحمديين ( وإذا البحار سجرت ) (التكوير : 6] ، سجرت التنور إذا أوقدته]، ( فلم يجدوا لهم من دون ألله أنصارا) [نوح: من الآية 25]، فكان الله عين أنصارهم، فهلكوا فيه إلى الأبد، فلو خرجوا إلى السيف، سيف الطبيعة لنزل بهم عن هذه الدرجة [الرفيعة]، وإن كان الكل لله وبالله بل هو الله. ثم ساق الكلام الخبط إلى أن قال : ( إنك إن تذرهم) [نوح : من الآية27] ، أي تدعهم وتتركهم ( يضلوا عبادك ) [نوح : من الآية 27] ، أي يحيروهم ويخرجوهم من العبودية إلى ما هم فيه من أسرار الربوبية، فينظرون أنفسهم أربابا بعد ما كانوا عند أنفسهم عبيدا، فهم العبيد الأرباب.
صفحة ٤٥
النوحية، وما يلزم منها في قوله في حق نوح عليه السلام أنه خيرهم حيث دعاهم ليلا ونهارا، وكان الواجب أن يدعوهم ليلا في نهار ونهارا في ليل. وفي قوله: فإذا مال بكم إليه رأيتم صورتكم فيه. ومن قوله: والعالم يعلم من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة الروحانية، فما عبد غير الله في كل معبود. ثم ذكر الأدنى يقول كذا، والأعلى يقول: إنما إلهكم إله واحد فله أسلموا حيث ظهر. وقوله: أي حيروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب. فقد جعل الكون وتفرقته من وحدة الحق كالأعضاء في الصورة
صفحة ٤٦
قوله : حيروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب، أي الأمر شيء واحد لكنه متعدد بالوجوه والنسب والإضافات الأسمائية التي لزمت من ظهور الذوات الثابتة في العدم بفيض الوجود عليها؛ وعلل قول الكفار من قوم نوح عليه السلام في قولهم ( وقالوأ لا تذرت آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا) [نوح : من الآية 23]، وإنهم إذا تركوا ؛ جهلوا من الحق على قدر ما تركوا، فإن الحق في كل معبود؛ فأقام عذرهم في عبادتهم الأصنام، ومهد لهم دينهم ودين كل من عبد وثنا أو صنما وغير ذلك، فما أبقى هذا للكفار عيبا في قولهم (ما نعبدهم إلا ليقريونا إلى الله زلفى) [الزمر: من الآية 3]، وجميع ذلك يقرر ما نبهناك عليه أولا في بيان قاعدته في مذهبه لمن عقله وفهم مراده، وبالله المستعان. وجملة ما يشير إليه هو أن وجود الحق الذاتي سار في كل متعين، قبل منه كل متعين على قدره وحده، أعطى كل شيء حسب ما يناسب، كالماء في أواني الزجاج المتلونة، فإنه يكون الماء في الأحمر أحمر، وفي الأخضر أخضر، وفي الأسود أسود، والماء شيء واحد، لكن يكون في كل أنية بحسب ما يستمده ، وتلك النسب الموجودة من حمرته وصفرته وخضرته وسواده هي الماء. كذلك لما فاض وجود الحق على الماهيات صار الوجود في كل ماهية بحسب ما تستمده تلك الماهية إنسانا وجملا وفرسا وحمارا وقطا وفارا وكلبا وخنزيرا وقردا ونجاسة، والوجود وحده مطلقة، فلما فاض المطلق على الماهيات قبلت منه بحسب ما تستمده كل ماهية، وذلك هو ظهور الحق المطلق المغيب إلى الوجود في عالم الحس ، وتلك النسب المتعددة
صفحة ٤٧
للوجود المطلق اسم، فظهرت الموجودات في الخلق كما كانت في عدمها ثابتة لم تنتقل ولم تتغير، بل هي الآن كما كانت فيه علما وثبوتا، فهي الآن فيه وجودا، وهو الجامع لها. يدل عليه قوله: وان التفرقة والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة ، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير الله في كل معبود. ومثال الآخر : تكرر الكلام، وتكرر الأمثلة لتظهر هذه الشبهة التي قد فتن بها كثير من السالكين ، واغتر بها كثير من الجاهلين ؛ أوعية مختلفة الأشكال مثل مثلثه ومربعه ومخمسه ومسدسه ومسبعه ومثمنه مثلا أفاض عليها ماء، فإن الماء يتشكل على شكل كل إناء، يكون في المثلث مثلثا، وفي المربع مربعا، وهلم جرا. وهذا المثل إنما يستقيم من حيثية الاستعداد الكائن في الأشكال المختلفة لا من حيثية الوجود ؛ لأن الوجود سبب لظهور الأشكال التي هي محل الوجود، لأنها كانت ثابتة في العدم، والوجود هو الذي أظهرها بفيضه عليها، لكن نقول من حيثية استعداد كل محل، فكذلك عنده وجود الحق لما أفاض على الماهيات تشكلت كل ماهية بوجودها بحسب استعدادها وقبولها. فأفهموا ذلك - معاشر الألباب - تنحل عنكم شبهة هؤلاء الزنادقة القرامطة الذين مذهبهم هذا المذهب الخبيث، وهو عين مذهب النصيرية والإسماعيلية ، لكن تختلف فيه العبارات والإشارات، والمقصود شيء واحد، وبالله المستعان.
صفحة ٤٨