الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ

ابن الجوزي ت. 597 هجري

الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ

محقق

المستشار الدكتور فؤاد عبد المنعم

الناشر

مؤسسة شباب الجامعة

رقم الإصدار

الثانية

سنة النشر

١٤١٢ هـ

مكان النشر

الاسكندرية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ الشَّيْخُ الإِمَامُ الْكَبِيرُ الْحَافِظُ: جَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْجَوْزِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا بِإِنْعَامِهِ عَلَيْنَا خَيْرَ أُمَّةٍ، وَمَنَحَنَا الأَنَفَةَ مِنَ الْجَهْلِ، وَعُلُوَّ الْهِمَّةِ، وَرَزَقَنَا حِفْظَ الْقُرْآنِ وَالْعُلُومِ الْمُهِمَّةِ، وَشَرَّفَنَا بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، نَبِيِّ الرَّحْمَةِ ﷺ، وَعَلَى مَنْ تَبِعَ طَرِيقَهُ وَأَمَّهُ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا مَا اخْتَلَفَ ضَوْءٌ وَظُلْمَةٌ. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللَّهَ ﷿ خَصَّ أُمَّتَنَا بِحِفْظِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، وَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَنَا يَقْرَءُونَ كُتُبَهُمْ مِنَ الصُّحُفِ، وَلا يَقْدِرُونَ عَلَى الْحِفْظِ، فَلَمَّا جَاءَ عُزَيْرٌ فَقَرَأَ التَّوْرَاةَ مِنْ حِفْظِهِ، فَقَالُوا: هَذَا ابْنُ اللَّهِ، فَكَيْفَ نَقُومُ بِشُكْرِ مَنْ خَوَّلَنَا أَنَّ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ مِنَّا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، ثُمَّ لَيْسَ فِي الأُمَمِ مِمَّنْ يَنْقُلُ عَنْ نَبِيِّهِ أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ بِهِ الثِّقَةُ إِلا نَحْنُ، فَإِنَّهُ يَرْوِي الْحَدِيثَ مِنَّا خَالِفٌ عَنْ سَالِفٍ، وَيَنْظُرُونَ فِي ثِقَةِ الرَّاوِي إِلَى أَنْ يَصِلَ الأَمْرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَسَائِرُ الأُمَمِ يَرْوُونَ مَا يَذْكُرُونَهُ عَنْ صَحِيفَةٍ لا يُدْرَى مَنْ كَتَبَهَا، وَلا يُعْرَفُ مَنْ نَقَلَهَا، وَهَذِهِ الْمِنْحَةُ الْعَظِيمَةُ نَفْتَقِرُ إِلَى حِفْظِهَا بِدَوَامِ الدِّرَاسَةِ، لِيَبْقَى الْمَحْفُوظُ، وَقَدْ كَانَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ سَلَفِنَا يَحْفَظُونَ الْكَثِيرَ مِنَ الأَمْرِ، فَآلَ الأَمْرُ إِلَى أَقْوَامٍ يَفِرُّونَ مِنَ الإِعَادَةِ مَيْلا إِلَى الْكَسَلِ، فَإِذَا احْتَاجَ أَحَدُهُم إِلَى مَحْفُوظٍ لَمْ

1 / 31

يَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَلَقَدْ تَأَمَّلْتُ عَلَى الْمُتَفَقِّهَةِ أَنَّهُمْ يُعِيدُونَ الدَّرْسَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، فَإِذَا مَرَّ عَلَى أَحَدِهِمْ يَوْمَانِ نَسِيَ ذَلِكَ، وَإِذَا افْتَقَرَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمُنَاظَرَةِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، فَذَهَبَ زَمَانُ الأَوَّلِ ضَائِعًا، وَيُحْتَاجُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْحِفْظَ لِمَا فِيهِ أَوَّلا، وَالسَّبَبُ أَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْهُ، وَلَمَّا رَأَيْتُ الْكَسَلَ مُسْتَوْلِيًا عَلَى الْمُتَشَاغِلِينَ بِالْعِلْمِ، وَضَعْتُ هَذَا الْكِتَابَ مُحَرِّضًا لَهُمْ عَلَى الاجْتِهَادِ، وَمَدْخَلا عَلَى الْكَسَلِ. وَقَدْ جَعَلْتُ هَذَا الْكِتَابَ سَبْعَةَ أَبْوَابٍ: الْبَابُ الأَوَّلُ: فِي الْحَثِّ عَلَى حِفْظِ الْعِلْمِ. الْبَابُ الثَّانِي: فِي صِفَةِ مَنْ هُوَ أَهْلٌ مِنْ حَيْثُ الْخِلْقةِ وَالْحِلْيَةِ. الْبَابُ الثَّالِثُ: فِي ذِكْرِ الأَدْوِيَةِ الْمُعِينَةِ عَلَى الْحِفْظِ. الْبَابُ الرَّابِعُ: فِي طَرِيقِ إِحْكَامِ الْمَحْفُوظِ. الْبَابُ الْخَامِسُ: فِي ذِكْرِ الأَوْقَاتِ الَّتِي تَصِحُّ فِي تِكْرَارِ الْمَحْفُوظَاتِ. الْبَابُ السَّادِسُ: فِي الإِعْلامِ بِمَا يَنْبَغِي تَقْدِيمُهُ مِنَ الْمَحْفُوظَاتِ. الْبَابُ السَّابِعُ: فِي ذِكْرِ أَعْلامِ الْحُفَّاظِ الْمُبَرِّزِينَ.

1 / 32

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْبَابُ الأَوَّلُ فِي الْحَثِّ عَلَى حِفْظِ الْعِلْمِ أَمَّا الْمَنْقُولاتُ فِي حِفْظِ الْعِلْمِ فَكَثِيرَةٌ، وَيَكْفِي مِنْهَا قَوْلُهُ: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: ١١] وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ» . وَيَكْفِي مِنَ الْمَعْقُولاتِ: أَنَّ الْعِلْمَ يَدَّعِيهِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَيَنْفِرُ مِنَ النُّسْبَةِ إِلَى الْجَهْلِ، وَالْجَاهِلُ،،لا يَخْفَى أَنَّ ارْتِفَاعَ قَدْرِ الْعَالِمِ بِمِقْدَارِ عِلْمِهِ، فَإِنْ قَلَّ قَلَّتْ رِفْعَتُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: " يُقَالُ لِقَارِئِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْقَ، فَمَنْزِلُكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا "، وَلَيْسَ مَنْ حَفِظَ نِصْفَ الْقُرْآنِ كَمَنْ حَفِظَ

1 / 33

الْكُلَّ، وَلا مَنْ حَفِظَ مِائَةَ حَدِيثٍ كَمَنْ حَفِظَ أَلْفًا. وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ الْعِلْمُ إِلا مَا حُصِّلَ بِالْحِفْظِ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ: كُلُّ عِلْمٍ لا يَدْخُلُ مَعَ صَاحِبِهِ الْحَمَّامَ فَلا تَعُدُّهُ، وَأَنْشَدَ: لَيْسَ بِعِلْمٍ مَا حَوَى الْقِمَطْرُ ... مَا الْعِلْمُ إِلا مَا حَوَاهُ الصَّدْرُ وَأَنْشَدَ: رُبَّ إِنْسَانٍ مَلا أَسْفَاطَهُ ... كُتُبَ الْعِلْمِ يَعُدُّ وَيَحُطْ وَإِذَا فَتَّشْتَهُ عَنْ عِلْمِهِ ... قَالَ عِلْمِي يَا خَلِيلِي فِي السَّفَطْ فِي كَرَارِيسَ جِيَادٍ أُحْرِزَتْ ... وَبِخَطٍّ أَيِّ خَطٍّ أَيِّ خَطْ فَإِذَا قُلْتَ لَهُ: هَاتَ إِذَنْ ... حَكَّ لَحْيَيْهِ جَمِيعًا وَامْتَخَطْ

1 / 34

الْبَابُ الثَّانِي فِي صِفَةِ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْحِفْظِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ وَالْحِلْيَةِ وَمَنْ لَيْسَ أَهْلا مَتَى كَانَ شَكْلُ الرَّأْسِ غَيْرَ مُسْتَقِيمٍ دَلَّ عَلَى رَدَاءَةٍ فِي الدِّمَاغِ، وَإِذَا كَانَ الرَّأْسُ صَغِيرًا: دَلَّ عَلَى رَدَاءَةِ هَيْئَةِ الدِّمَاغِ. وَإِنْ كَانَ كَبِيرَ الرَّأْسِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى جَوْدَةِ الدِّمَاغِ مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ جَوْدَةُ الشَّكْلِ، وَإِذَا كَانَتِ الرَّقَبَةُ غَلِيظَةً دَلَّتْ عَلَى قُوَّةِ الدِّمَاغِ وَوُفُورِهِ، وَإِنْ قَصُرَتْ وَدَقَّتْ فَبِالضِّدِّ. وَمَنْ بِنْيَتُهُ غَيْرُ مُتَنَاسِبَةٍ حَيَى رَدِيئًا حَتَّى فِي فَهْمِهِ وَعَقْلِهِ مِثْلَ الرَّجُلِ الْعَظِيمِ الْبَطْنِ، الْقَصِيرِ الأَصَابِعِ، الْمُسْتَدِيرِ الْوَجْهِ، الْعَظِيمِ الْقَامَةِ، الصَّغِيرِ الْهَامَةِ، اللَّحِيمِ الْجَبْهَةِ. وَإِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ مُرْتَدَّةٌ، فَصَاحِبُهَا كَسْلانُ بَطَّالٌ. وَالْحَدَقَةُ السَّوْدَاءُ دَلِيلٌ عَلَى كَسَلٍ وَبَلادَةٍ. وَإِذَا كَانَ أَنْفُهُ غَلِيظًا مُمْتَلِئًا، فَهُوَ قَلِيلُ الْفَهْمِ. وَمَنْ كَانَ نَحِيفَ الْوَجْهِ فَهُوَ فَهِمٌ، وَلَطَافَةُ الْبَطْنِ تَدُلُّ عَلَى جَوْدَةِ الْعَقْلِ. وَالْغَبَاوَةُ وَالْغَفْلَةُ فِي الطُّولِ أَكْثَرُ، وَاللُّطْفُ فِي النِّحَافِ وَالضِّعَافِ أَظْهَرُ، وَمَتَى تَنَاسَبَتِ الأَعْضَاءُ، وَاعْتَدَلَ الْقَوَامُ كَانَ الْعَقْلُ تَامًّا، وَالْفَهْمُ

1 / 35

وَافِرًا، وَالتَّهَيُّؤُ لاكْتِسَابِ الْعُلُومِ مُمْكِنًا. وَقَدْ يَحْصُلُ هَذَا ثُمَّ يَغْلِبُ الْمِزَاجُ فَيُؤْذِي. فَإِنَّهُ مَتَى غَلَبَتِ السَّوْدَاءُ بَطُلَ الْحِفْظُ، فَإِذَا غَلَبَتِ الصَّفْرَاءُ لَمْ يُضَرَّ الْحِفْظُ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: صَاحِبُ السَّوْدَاءِ لا يَحْفَظُ شَيْئًا، إِنَّمَا يَحْفَظُ صَاحِبُ الصَّفْرَاءِ. وَمَتَى كَانَ الْمِزَاجُ بَارِدًا، كَانَ صَاحِبُهُ بَلِيدًا، قَلِيلَ الْفَهْمِ. وَمِنْ عَلامَةِ رَدَاءَةِ الْمِزَاجُ بُرُودَةُ اللَّمْسِ، وَابْيِضَاضُ اللَّوْنِ، وَقِلَّةُ الشَّعْرِ مَعَ بَيَاضِهِ. وَمَتَى كَانَ الْمِزَاجُ حَارًّا يَابِسًا، دَلَّ عَلَى الذَّكَاءِ وَالذِّهْنِ وَالشَّجَاعَةِ، وَعَلامَتُهُ كَثْرَةُ الشَّعْرِ وَجُعُودَتُهُ وَسَوَادُهُ. وَالْمِزَاجُ الْمُعْتَدِلُ هُوَ الْكَامِلُ، وَصَاحِبُهُ الْفَطِنُ الْفَهِمُ، الْعَاقِلُ الشُّجَاعُ الْمُتَوَسِّطُ فِي الأُمُورِ وَعَلامَتُهُ: أَنْ يَكُونَ مَلْمَسُهُ مُعْتَدِلا، فِي الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَيَكُونَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْهُزَالِ وَالسِّمَنِ. فَصْلُ الْحِفْظُ يَبْدَأُ مُنْذُ الصِّغَرِ ومتى اعْتَدَلَ الْمِزَاجُ، وَتَكَامَلَ الْعَقْلُ، أَوْجَبَ ذَلِكَ يَقَظَةُ الصَّبِيِّ مِنْ حَالِ صِغَرِهِ، فَتَرَاهُ يَطْلُبُ مَعَالِيَ الأُمُورِ، فَإِنْ طَلَبَ رِفْعَةَ الدُّنْيَا دَلَّ

1 / 36

عَلَى قُصُورِ فَهْمِهِ، لأَنَّ مَنِ اسْتَحْضَرَ عَقْلَهُ، دَلَّهُ عَلَى خَالِقٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ وَامْتِثَالُ أَوَامِرِهِ، فَطَلَبَ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لا يَقْرُبُ إِلا بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَجَدَّ فِي تَحْصِيلِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ آمِرٍ، وَلا مُحَرِّضٍ فَتَرَاهُ يَطْلُبُ الْغَايَةَ فِي الْعِلْمِ ثُمَّ يَخْرُجُ بِهِ الأَمْرُ إِلَى الزُّهْدِ فِي الْفَانِي، وَتَحْصِيلِ كُلِّ مَا يُمْكِنُ مِنَ الْفَضَائِلِ، ثُمَّ يَتَرَقَّى إِلَى مَحَبَّةِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَمَنْ كَمُلَ وُفِّقَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٥١] . فَهَذِهِ صِفَةُ الْغَايَةِ، وَذَلِكَ لا يَحْتَاجُ إِلَى مُحَرِّضٍ؛ لأَنَّ هِمَّتَهُ تَمْشِي بِهِ، وَهُوَ قَاعِدٌ، ثُمَّ يَتَفَاوَتُ الصِّبْيَانُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى مُحَرِّضٍ، وَهُمُ الأَكْثَرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تُنَبِّهُهُ بِأَيْسَرَ تَنْبِيهٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْعَبُ مَعَهُ الرَّائِضُ، وَجَبْلَتُهُ لا تَقْبَلُ الرِّيَاضَةَ. فَصْلُ تَرْبِيَةُ الصَّبِيِّ عَلَى الْحِفْظِ وَمَتَى اعْتَدَلَ الْمِزَاجُ وَتَكَامَلَ الْعَقْلُ، أَوْجَبَ ذَلِكَ يَقَظَةَ الصَّبِيِّ، فَمَنْ رُزِقَ وَلَدًا، فَلْيَجْتَهِدْ مَعَهُ، وَالتَّوْفِيقُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَوِّدَهُ النَّظَافَةَ وَالطَّهَارَةَ مِنَ الصِّغَرِ، وَيُثَقِّفَهُ بِالآدَابِ فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَ سِنِينَ أَخَذَهُ بِحِفْظِ الْعِلْمِ، وَسَنُبَيِّنُ فِيمَا بَعْدُ تَرْتِيبَ الْمَحْفُوظَاتِ، فَإِنَّ الْحِفْظَ فِي الصِّغَرِ نَقْشٌ فِي حَجَرٍ، وَمَتَى بَلَغَ الصَّبِيُّ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ هِمَّةٌ تَحُثُّهُ عَلَى اكْتِسَابِ الْعِلْمِ بَعْدُ فَلا فَلاحَ لَهُ.

1 / 37

الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الأَدْوِيَةِ الْمُعِينَةِ عَلَى الْحِفْظِ اعْلَمْ أَنَّ نِسْيَانَ الْمَحْفُوظِ مِنْ أَمْرَاضِ الدِّمَاغِ، وَذَلِكَ يَكُونُ غَالِبًا مِنْ سُوءِ مِزَاجٍ بَارِدٍ رَطْبٍ، يُرَطِّبُ الدِّمَاغَ، وَذَلِكَ يَكُونُ مِنْ كُلِّ مَا يُوَلِّدُ خَلْطًا بَلْغَمِيًّا وَفِيهِ تَبْخِيرٌ، وَيَتَوَلَّدُ كَثِيرًا مِنْ أَكْلِ الْبَصَلِ وَاللَّحْمِ، وَكَثْرَةِ أَكْلِ الْفَوَاكِهِ. وَسَبَبُ فَسَادِ الذِّكْرِ الْبَرْدُ فَإِنْ كَانَ مِنْ رُطُوبَةٍ فَصَاحِبُهُ لا يَحْفَظُ مَا يُطْبَعُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ يَبُوسِهِ فَإِنَّهُ لا يَحْفَظُ الأُمُورَ الْمَاضِيَةَ دُونَ الْحَادِثَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ يُبْسٍ مَعَ حَرٍّ كَانَ مَعَ اخْتِلاطِ الذِّهْنِ، وَأَكْثَرُ مَا يُعَرِّضُ النِّسْيَانَ عَنْ بَرْدٍ وَرُطُوبَةٍ. وَقَدْ يَكُونُ عَنْ يُبْسٍ مُفْرِطٍ يُخَفِّفُ الدِّمَاغَ وَيَجْعَلُهُ كَالصَّخْرَةِ الَّتِي لا تَقْبَلُ أَنْ يَنْطَبِعَ فِيهَا شَيْءٌ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: يَقُولُ إِبْلِيسُ: مَا لَقِيتُ مِنْ أَصْحَابِ النِّعَمِ يَنْسُونَ الْمَعْبُودَ. وَقَدْ يُورِثُ النِّسْيَانَ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ لِخَاصَّتِهَا مِثْلُ الْحِجَامَةِ فِي النُّقْرَةِ، وَأَكْلِ الْكُزْبَرَةِ الرَّطِبَةِ، وَالتُّفَّاحِ الْحَامِضِ، وَالْمَشْيِ بَيْنَ جَمَلَيْنِ مَقْطُورَيْنِ، وَكَثْرَةِ الْهَمِّ وَقِرَاءَةِ أَلْوَاحِ الْقُبُورِ، وَالنَّظَرِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَالْبَوْلِ فِيهِ، وَالنَّظَرِ إِلَى الْمَصْلُوبِ، وَنَبْذِ الْقَمْلِ، وَأَكْلِ سُؤْرِ الْفَأْرِ. قَالَ

1 / 39

الزُّهْرِيُّ: التُّفَّاحُ يُورِثُ النِّسْيَانَ. فَصْلٌ فِي ذِكْرِ مَطَاعِمَ تُسْتَعْمَلُ لِلْحِفْظِ قَالَ عَلِيٌّ ﵁: عَلَيْكُمْ بِالرُّمَّانِ الْحُلْوِ فَإِنَّهُ صُلُوحُ الْمَعِدَةِ، وَشَكَا إِلَيْهِ رَجُلٌ النِّسْيَانَ فَقَالَ: عَلَيْكَ «بِاللُّبَانِ» فَإِنَّهُ يُشَجِّعُ الْقَلْبَ وَيُذْهِبُ النِّسْيَانَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَلْقُ الْقَفَا يَزِيدُ فِي الْحِفْظِ. وَقَالَ أَيْضًا: خُذْ مِثْقَالا مِنْ كُنْدُرٍ، وَمِثْقَالا مِنْ سُكَّرٍ، فَدُقَّهُمَا جَيِّدًا ثُمَّ اقْمَحْهُمَا عَلَى الرِّيقِ فَإِنَّهُ «جَيِّدٌ» لِلنِّسْيَانِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: عَلَيْكَ بِالْعَسَلِ فَإِنَّهُ جَيِّدٌ لِلْحِفْظِ. وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَحْفَظَ الْحَدِيثَ فَلْيَأْكُلِ الزَّبِيبَ. وَقَالَ الْجِعَابِيُّ: كُنْتُ بَلِيدَ الْحِفْظِ فَقَالَ لِي الأَطِبَّاءُ: كُلِ الْخُبْزَ

1 / 40

بِالْحِلابِ، فَأَكَلْتُهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا بِالْغَدَايَاتِ وَالْعَشَايَاتِ لا آكُلُ غَيْرَهُ، فَصَفِيَ ذِهْنِي، وَصِرْتُ حَافِظًا حَتَّى صِرْتُ أَحْفَظُ فِي يَوْمٍ ثَلاثَ مِائَةِ حَدِيثٍ. وَمِمَّا وَصَفَهُ الْمُطَبِّبُونَ لِلْحِفْظِ: وَجٌّ وَعُودٌ وَإِهْلِيلَجٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ. وَقَدْ نَقُولُ فِي حَقِّ مَنْ يوثق بِرُطُوبَاتِهِ وَبَرْدِهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ زَنْجَبِيلَ وَمَصْطَكًا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ثُلُثُهُ يُدَقُّ وَيُعْجَنُ بِرَطْلِ عَسَلٍ. صِفَةٌ أُخْرَى: فُلْفُلٌ أَبْيَضُ، وَزَعْفَرَانُ، وَمراجرا سَوَاءَ يُعْجَنُ، وَيُتَنَاوَلُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمٍ. صِفَةٌ أُخْرَى: ثَلاثُونَ دِرْهَمًا كُنْدُرًا، وَعَشَرَةٌ فُلْفُلا: يُدَقَّانِ، وَيُقْمَحُ كُلُّ يَوْمٍ مِنْهُمَا مِثْقَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا.

1 / 41

الْبَابُ الرَّابِعُ فِي بَيَانِ طَرِيقِ أَحْكَامِ الْمَحْفُوظِ الطَّرِيقُ فِي أَحْكَامِهِ كَثْرَةُ الإِعَادَةِ، وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَثْبُتُ مَعَهُ الْمَحْفُوظُ مَعَ قِلَّةِ التَّكْرَارِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لا يَحْفَظُ إِلا بَعْدَ التَّكْرَارِ الْكَثِيرِ. فَيَنْبَغِي لِلإِنْسَانِ أَنْ يُعِيدَ بَعْدُ الْحِفْظَ، لِيَثْبُتَ مَعَهُ الْمَحْفُوظُ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَشَدَّ تَفَصِيًّا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ مِنْ عُقُلِهَا» . وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: يُعِيدُ الدَّرْسَ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَإِنْ كَانَ إلكيا يُعِيدُ سَبْعِينَ مَرَّةً. وَقَالَ لَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ

1 / 43

الْفَقِيهُ: لا يَحْصُلُ الْحِفْظُ إِلَيَّ حَتَّى يُعَادَ خَمْسِينَ مَرَّةً. وَحَكَى لَنَا الْحَسَنُ: أَنَّ فَقِيهًا أَعَادَ الدَّرْسَ فِي بَيْتِهِ مِرَارًا كَثِيرَةً، فَقَالَتْ لَهُ عَجُوزٌ فِي بَيْتِهِ قَدْ وَاللَّهِ حَفِظْتُهُ أَنَا. فَقَالَ: أَعِيدِيهِ فَأَعَادَتْهُ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ. قَالَ: يَا عَجُوزُ، أَعِيدِي ذَلِكَ الدَّرْسَ، فَقَالَتْ: مَا أَحْفَظُهُ. قَالَ: إِنِّي أُكَرِّرُ عَدَّ الْحِفْظِ لِئَلا يُصِيبَنِي مَا أَصَابَكِ.

1 / 44

الْبَابُ الْخَامِسُ فِي ذِكْرِ الأَوْقَاتِ الَّتِي يُكَرَّرُ فِيهَا الْمَحْفُوظَاتُ يَنْبَغِي لِمَنْ يُرِيدُ الْحِفْظَ أَنْ يَتَشَاغَلَ بِهِ فِي وَقْتِ جَمْعِ الْهَمِّ، وَمَتَى رَأَى نَفْسَهُ مَشْغُولَ الْقَلْبِ تَرَكَ التَّحَفُّظَ، وَيَحْفَظُ قَدْرَ مَا يُمْكِنُ فَإِنَّ الْقَلِيلَ يَثْبُتُ وَالْكَثِيرُ لا يَحُصُلْ. وَقَدْ مُدِحَ الْحِفْظُ فِي السَّحَرِ لِمَوْضِعِ جَمْعِ الْهَمِّ، وَفِي الْبَكَرِ، وَعِنْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَلا يَنْبَغِي أَنْ يُحْفَظَ عَلَى شَاطِئِ نَهْرٍ وَلا بِحَضْرَةِ خَضْرٍ لِئَلا يَشْتَغِلَ الْقَلْبُ وَالأَنَاظِرُ الْعَالِيَةُ أحمد مِنَ السَّافِلَةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُرِيحَ نَفْسَهُ مِنَ الْحِفْظِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ لِيَكُونَ ذَلِكَ كَالْبِنَاءِ الَّذِي يُرَاحُ لِيَسْتَقِرَّ.

1 / 45

الْبَابُ السَّادِسُ فِي الإِعْلامِ بِمَا يَنْبَغِي تَقْدِيمُهُ مِنَ الْمَحْفُوظَاتِ أَوَّلُ مَا يَنْبَغِي تَقْدِيمُهُ مُقَدِّمَةٌ فِي الاعْتِقَادِ تَشْتَمِلُ عَلَى الدَّلِيلِ عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَيُذْكَرُ فِيهَا مَا لا بُدَّ مِنْهُ، ثُمَّ يَعْرِفُ الْوَاجِبَاتِ ثُمَّ حِفْظَ الْقُرْآنِ ثُمَّ سَمَاعَ الْحَدِيثِ. وَلا بُدَّ مِنْ حِفْظِ مُقَدِّمَةٍ فِي النَّحْوِ يَقُومُ بِهَا اللِّسَانُ، وَالْفِقْهُ عُمْدَةُ الْعُلُومِ، وَجَمْعُ الْعُلُومِ مَمْدُوحٌ إِلا أَنَّ أَقْوَامًا أَذْهَبُوا الأَعْمَارَ فِي حِفْظِ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِهَا غَرِيبُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَمَا يُفَضَّلُ عَنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ غَيْرَ أَنَّ غَيْرَهُ أَهَمُّ مِنْهُ. وَإِنَّ أَقْوَامًا أَذْهَبُوا أَزْمَانَهُمْ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ فَاشْتَغَلُوا بِمَا غَيْره أَصْلَح مِنْهُ مِنَ الشَّوَاذِّ الْمَهْجُورَةِ، وَالْعُمْرُ أَنْفَسُ مِنْ تَضْيِيعِهِ فِي هَذَا. وَإِنَّ أَقْوَامًا أَذْهَبُوا أَعْمَارَهُمْ فِي طُرُقِ الْحَدِيثِ، وَلَعَمْرِي إِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ إِلا أَنَّ تَقْدِيمَ غَيْرِ ذَلِكَ أَهَمُّ. فَنَرَى أَكْثَرَ هَؤُلاءِ الْمَذْكُورِينَ لا يَعْرِفُونَ الْفِقْهَ الَّذِي هُوَ أَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَتَى أَمْعَنَ طَالِبُ الْحَدِيثِ فِي السَّمَاعِ وَالْكِتَابَةِ ذَهَبَ زَمَانُ الْحِفْظِ، وَإِذَا عَلَتِ السِّنُّ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحِفْظِ الْمُهِمِّ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ شَرَفَ الْفِقْهِ فَانْظُرْ إِلَى مَرْتَبَةِ الأَصْمَعِيِّ فِي اللُّغَةِ، وَسِيبَوَيْهِ فِي النَّحْوِ، وَابْنِ مَعِينٍ فِي

1 / 47

مَعْرِفَةِ الرِّجَالِ، كَمْ بَيْنَ ذَلِكَ وَمَرْتَبَةِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْفِقْهِ. ثُمَّ لَوْ حَضَرَ شَيْخٌ مُسِنٌّ لَهُ إِسْنَادٌ لا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ الْفِقْهِ بَيْنَ يَدَيْهِ شَابٌّ مُتَفَقِّهٌ فَجَاءَتْ مَسْأَلَةٌ: سَكَتَ الشَّيْخُ، وَتَكَلَّمَ الشَّابُّ، وَهَذَا يَكْفِي فِي فَضْلِ الْفِقْهِ. وَلَقَدْ تَشَاغَلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ بِعُلُومِ الْحَدِيثِ، وَأَعْرَضُوا عَنِ الْفِقْهِ، فَلَمَّا سُئِلُوا عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الأَحْكَامِ افْتُضِحُوا. أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، أَخْبَرَنَا الْخَطِيبُ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرْقَانِيَّ يَقُولُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الأَبْهَرِيُّ الْفَقِيهُ: كُنْتُ عِنْدَ يَحْيَى بْنِ صَاعِدٍ فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: أَيُّهَا الشَّيْخُ مَا تَقُولُ فِي بِئْرٍ سَقَطَتْ فِيهَا

1 / 48

دَجَاجَةٌ فَمَاتَتْ؟ هَلِ الْمَاءُ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ؟ فَقَالَ يَحْيَى: وَيْحَكِ كَيْفَ سَقَطَتِ الدَّجَاجَةُ فِي الْبِئْرِ؟ قَالَتْ: لَمْ تَكُنْ مُغَطَّاةً، فَقَالَ: أَلا غَطَّيْتِهَا حَتَّى لا يَقَعَ فِيهَا شَيْءٌ. قَالَ الأَبْهَرِيُّ: قُلْتُ: يَا هَذِهِ إِنْ كَانَ الْمَاءُ تَغَيَّرَ وَإِلا فَهُوَ طَاهِرٌ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى عَلِيِّ بْنِ دَاوُدَ وَهُوَ يُحَدِّثُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ مِقْدَارُ أَلْفِ نَفْسٍ، فَقَالَتْ: بِصدقة أزاري فَقَالَ: بِكَمِ اشْتَرَيْتِهِ. قَالَتْ: بِاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا. فَلَمَّا مَرَّتْ قَالَ: آه، آه أَمَرْنَاهَا بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَلَوِ اتَّسَعَ الْعُمُرُ لأَمَرْتُكَ بِاسْتِقْصَاءِ كُلِّ عِلْمٍ إِذِ الْكُلُّ مَمْدُوحٌ، فَلَمَّا قَصُرَ الْعُمُرُ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْمُهِمِّ وَالأَفْضَلِ.

1 / 49

الْبَابُ السَّابِعُ فِي ذِكْرِ الْحُفَّاظِ الْمُبْرَزِينَ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ التَّحْرِيضُ عَلَى الْحِفْظِ لَمْ أَتَشَاغَلْ فِيهِ بِالإِسْنَادِ، وَلَمْ أُطِلْ، وَهَأَنَذَا أَذْكُرُ الْحُفَّاظَ الْمُبْرَزِينَ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فَإِنْ ذَكَرْتُ لأَحَدِهِمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحِفْظِ مُخْتَصَرًا، فَفِي ذِكْرِهِمْ وَالإِشَارَةِ إِلَى مَا حَفِظُوا تَحْرِيضٌ وَحَثٌّ لِلْمُجْتَهِدِ، وَتَوْبِيخٌ لِلْمُتَكَاسِلِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

1 / 51

حَرْفُ الأَلِفِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ أَحْمَدَ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ، قَالَ: كَتَبَ أَبُو حَاتِمٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْوَاعِظُ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَطَّارَ يَذْكُرُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: قِيلَ: لأَبِي زُرْعَةَ: مَنْ رَأَيْتَ مِنَ الْمَشَايِخِ الْمُحَدِّثِينَ أَحْفَظَ؟ قَالَ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حُزِرَتْ كُتُبُهُ الْيَوْمَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَبَلَغَتِ اثْنَيْ عَشَرَ حَمْلا وَعَدْلا، مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ كِتَابٍ مِنْهَا حَدِيثُ فُلانٍ، وَلا فِي بَطْنِهِ حَدَّثَنَا فُلانٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ يَحْفَظُهُ مِنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ.

1 / 52

أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ يَقُولُ: كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَحْفَظُ أَلْفَ أَلْفِ حَدِيثٍ، فَقِيلَ لَهُ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ قَالَ: ذَاكَرْتُهُ، وَأَخَذْتُ عَلَيْهِ الأَبْوَابَ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَلالُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَقُولُ: قَالَ لِي أَبِي: خُذْ أَيَّ كِتَابٍ شِئْتَ مِنْ كُتُبِ وَكِيعٍ، مِنَ الْمُصَنّفِ، فَإِنْ شِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْكَلامِ، حَتَّى أُخْبِرَكَ بِالإِسْنَادِ، وَإِنْ شِئْتَ بِالإِسْنَادِ حَتَّى أُخْبِرَكَ بِالْكَلامِ. أَحْمَدُ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ كِبَارِ الْحُفَّاظِ الْمُتَفَنِّنِينَ، أَخَذَ عِلْمَ النَّسَبِ عَنْ مُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيِّ، وَأَيَّامَ النَّاسِ عَنِ الْمَدَائِنِيِّ، وَصَنَّفَ تَارِيخًا كَبِيرًا كَثِيرَ الْفَوَائِدِ. أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ كَانَ عَالِمًا حَافِظًا. وَقَالَ: طَلَبْتُ الْعَرَبِيَّةَ وَاللُّغَةَ وَلِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً،

1 / 53

وَابْتَدَأْتُ بِالنَّظَرِ فِي حُدُودِ الْفَرَّاءِ، وَسِنِّي ثَمَانِي عَشْرَةَ، وَبَلَغْتُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ وَمَا بَقِيَ عَلَيَّ مَسْأَلَةٌ لِلْفَرَّاءِ، وَلا شَيْءٌ مِنْ كُتُبِهِ إِلا وَقَدْ حَفِظْتُهُ، وَسَمِعْتُ مِنَ الْقَوَارِيرِيِّ مِائَتَيْ حَدِيثٍ. أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَانِئٍ «أَبُو بَكْرٍ الأَثْرَمُ» سَمِعَ عَفَّانَ بْنَ مُسْلِمٍ وَأَبَا نُعَيْمٍ وَغَيْرَهُمَا. وَصَحِبَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، وَأَقْبَلَ عَلَى مَذْهَبِهِ مُشْتَغِلا بِهِ، وَكَانَ غَزِيرَ الْعِلْمِ وَالْحِفْظِ، كَانَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، يَقُولُ عَنْهُ: كَانَ أَحَدَ أَبَوَيِ الأَثْرَمِ جِنِّيًّا، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الأَصْفَهَانِيُّ: الأَثْرَمُ أَحْفَظُ مِنْ أَبِي زُرْعَةَ، وَأَتْقَنُ. أَحْمَدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ «أَبُو عَمْرٍو الْخَفَّافُ» سَمِعَ ابْنَ رَاهُوَيْهِ وَغَيْرَهُ، وَكَانَ يُذَاكِرُ بِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، وَيصدقُ خَمْسَةَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ «أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ» سَمِعَ ابْنَ رَاهُوَيْهِ، وَقُتَيْبَةَ بْنَ سَعْدٍ، وَعَلِيَّ بْنَ حُجْرٍ، وَأَبَا كُرَيْبٍ،

1 / 54