7
والوفاء بالشرط المتفق عليه في كل حالة من هذه الحالات فريضة مؤكدة بنصوص القرآن الكريم، ونصوص الأحاديث النبوية، تقدمت بها الأمثلة في معاهدات النبي - عليه السلام - ومعاهدات خلفائه رضوان الله عليهم، وأشهرها عهد الحديبية قبل فتح مكة وعهد بيت المقدس بعد فتح الشام.
فالنبي - عليه السلام - قد اتفق على عهد الحديبية بعد هجرته من مكة بست سنوات، وكان يريد الكعبة معتمرا مع طائفة من صحبه فتصدى له المشركون وحالوا بينه وبين البيت الحرام، فقال النبي - عليه السلام - لرسولهم: «إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد حموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي وينفذن الله أمره.» ثم أنفذت قريش رسولها سهيل بن عمرو العامري، فاتفق مع النبي - عليه السلام - على أن يرجع النبي وصحبه فلا يدخلوا مكة تلك السنة، فإذا كانت السنة القادمة دخلوها فأقاموا فيها ثلاثا بعد أن تخرج منها قريش، وتهادنوا عشر سنين لا حرب فيها ولا أغلال ولا أسلال، ومن أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده إليهم، ومن أتى قريشا من المسلمين لم يردوه، واستكثر المسلمون هذا الشرط فقال - عليه السلام: «نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم فيجعل الله له فرجا ومخرجا، ومن أحب منهم أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.»
ثم أخذ النبي - عليه السلام - في إملاء العهد وابتدأه «بسم الله الرحمن الرحيم»، فأبى سهيل بن عمرو أن يبدأ العهد بهذه الفاتحة الإسلامية وقال: «بل يكتب: باسمك اللهم.» فأجابه النبي إلى ما طلب ومضى يملي قائلا: «هذا ما قاضى عليه رسول الله.» فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك ولا قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.
وبينما هم يكتبون العهد لم يفرغوا منه أقبل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في القيود، فرمى بنفسه بين المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه. وأخذ بتلابيب ولده، فقال النبي لأبي جندل: «يا أبا جندل! قد لجت القضية بيننا وبينهم ولا نغدر.» ومضى النبي وصحبه على رعاية عهدهم حتى نقضته قريش وأمدت بني بكر بالسلاح والأزواد في حربهم لخزاعة، فأصبح المسلمون في حل من نقض ذلك العهد، وعمدوا إلى مكة فاتحين ففتحوها بعد ذلك بقليل.
أما عهد بيت المقدس فذلك هو العهد الذي كتبه الخليفة عمر بن الخطاب لأهل إيلياء، وهو أشهر العهود في صدر الإسلام بعد عهد الحديبية، وفيه يقول الخليفة العظيم: «إنه أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، وإنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينقض منها ولا من صلبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وأن يخرجوا منها الروم واللسوت، ومن خرج منهم فهو آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام معهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية ... ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بينه وبين صلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم.»
وقد حدث في أثناء التعاهد على هذا الصلح حادث كحادث أبي جندل عند كتابة صلح الحديبية، فحان موعد الصلاة والخليفة العظيم في كنيسة بيت المقدس، ولا مانع عند المسلم من إقامة الصلاة في الكنائس أو في معابد الأديان غير الإسلام؛ إذ أينما تكونوا فثم وجه الله، ولكنه أشفق أن يقيم الصلاة في مكان فيحرص المسلمون بعده على احتجاز ذلك المكان الذي صلى فيه أمير المؤمنين؛ فخرج من الكنيسة وصلى في جوارها ولم يبح لنفسه أن يورط أتباعه في ذريعة يتعللون بها لمخالفة عهد من عهوده.
وكلا العهدين - عهد مكة وعهد بيت المقدس - يفند زعم الزاعمين أن الإسلام يعتمد على الإكراه في نشر دعوته. وثانيهما - وهو عهد الصلح في الشام بعد هزيمة دولة الروم - واضح في بيان الشروط التي يعرضها الإسلام على المعاهدين بعد الحرب التي ينتصر فيها؛ فمن أحب أن يقيم في مكانه فله أن يقيم وهو آمن على نفسه ودينه وحريته، ومن أحب أن يرحل إلى بلاد الدولة المنهزمة فله أن يرحل كما أراد وهو آمن في طريقه، ومن دان بالإسلام فهو مقبول في زمرة المسلمين، ومن بقي على دينه فليس عليه إلا أن يؤدي الجزية فتحميه الدولة مما يحمى منه سائر رعاياها، وله ما لهم وعليه ما عليهم إلا الحرب، فإنها لا تطلب منه في خدمة دين غير دينه.
وشرع الإسلام القتال على درجات، فلم يشرع حالة إلا وضع لها حدودها وبين للمسلمين ما يجب عليهم فيها، وتم له في نحو عشرين سنة قانون دولي كامل لأحوال الحرب مع المقاتلين على اختلافهم، فأتم في القرن السادس ما بدأت فيه أوروبا في القرن السابع عشر، ولم يزل قاصرا عن غايته مهملا في ساعة الحاجة إليه.
بدأ النبي - عليه السلام - دعوته واستجاب له من استجاب من قومه وهو لا يأذن بقتال، فلما اشتد به وبأصحابه ما أصابهم من أذى المشركين فعذبوهم وفتنوهم وأخرجوهم من ديارهم كان ذلك بداءة الإذن بمقاتلة المعتدين في الحد الذي يكفي لدفع العدوان - كما تقدم - ولا يبقي بعده أثرا للضغينة والانتقام:
صفحة غير معروفة