وقوله سلمة بن زيابة
يا لهف زيابة للحارث الصابح فالغانم فالآيب
أى للحارث الذى يغير صبحا فيغنم فيرجع، وزيابة اسم أبيه وقيل اسم أمه، واسم أبيه ذهل حسر أباه وأمه من الحارث ابن همام الشيبانى مخافة أن يغير عليه فيغنم فيرجع وقد قتله أو أسره أو تهكم به أن يطبق الإغارة عليه وغنمه وقتله وأسره. ويجوز أن يراد بالمتقين مؤمنو العرب، وكذا بقوله { الذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } فيكون مدحا لهم، وذما لمن لم يؤمن بالقرآن ولا بغيره، ولأهل الكتاب الذين آمنوا بغير القرآن وكفروا بالقرآن، وقالوا وأيضا على الوجه عاطفة لصفة على أخرى لموصوف واحد. ويجوز أن يراد بذلك كله أهل الكتاب، فيكون العطف كذلك. والله أعلم. والإنزال يختص بالذوات، وهو نقلها من أعلى إلى أسفل، وإنما يستعمل فى غير الذوات بواسطة الذوات بالملك ذات أنزل بالكلام وكذا النزول والتنزيل فنزول القرآن وغيره بنزول الملك بهما. { وبالآخرة } أى الدار المتأخرة عن هذه الدار المتقدمة الدنيا، والمتأخرة الجنة والنار. ويدل على بقاء وصفية الأخرى وكونه نعتا لمحذوف، وقوله تعالى
تلك الدار الآخرة
إلا أنها فى هذه الآية الجنة، وفى آي البقرة الجنة والنار، ويجوز أن يراد بها أيضا هنا الجنة، أى يوقنون أنها للمتقين المؤمنين بما ذكر الفاعلين لما ذكر. ويفهم أنها ليست لغيرهم وتفيد الآيات الأخرى والأحاديث أن لغيرهم النار. ويجوز كونها خارجة عن الوصفية متقلبة عليه الاسمية. وقرأ غير نافع بالآخرة بإسكان اللام وإثبات الهمزة مفتوحة ممدودة بالألف. وأما نافع فالذى نتلوا عن ورش عنه النقل فى جميع القرآن لحركة الهمزة إلى الساكن قبلها وحذفها ومد ما قبلها بما مدت به إن كانت لها مدة. وقدم الآخرة ليكون آخر الآية نونا. وللطريقة العربية فى الاهتمام، وفى ذلك تلويح إلى ذم من لم يوقن بالآخرة من أهل الكتاب وغيرهم حين لم يوقنوا بشىء يعظم شأنه مهول، يهتم به من استعمل نظره. { هم يوقنون } إنما ذكر قوله هم، وأخبر عنه بقوله يوقنون، للتلويح الذى ذكرته آنفا بأن اعتقاد غير من ذكر الله - عز وجل - فى أمر الآخرة غير مطابق لما هو عند الله فيه ولا صادر عن إيقان، كأنه قيل هم لا غيرهم يوقنون. أما غيرهم فنوعان منكر للآخرة أصلا، ومثبت لها على صفة ليست عليها، كوصف النار بأنها لا تمسهم إلا أياما معدودة، ووصف اليهود أن أهلها النصارى وكل من خالفهم. ووصف النصارى أن أهلها اليهود، ووصف اليهود أنها لا يدخلها إلا من كان هودا، ووصف النصارى أنها لا يدخلها إلا من كان نصارى.
وكتشبيه بعض الكفرة نعيم الآخرة بأنه كنعيم الدنيا، وكوصفهم الجنة والنار بأنهما ستفنيان بهما ومن فيهما. وكوصف بعضهم أن أصحاب النار لا يتألمون بها، كما لا يتأذى دود الكنيف أو الخل به. فوصف الله سبحانه وتعالى أولياءه بأنهم يوقنون إيقانا لا يشوبه شىء من هذا الضلالات، فإن اليقين أعلى درجات العلم، وهو إتقان العلم بنفى الشك والشبهة عنه نظرا واستدلالا. ولذلك لا يوصف به العلم القديم والعلم الضرورى، إذ هما ليس بنظر واستدلال، فلا يقال الله متيقين بكذا، فإن علمه قديم لا بنظر واستدلال، ولا يقال تيقنت أن الجزء أعظم من الكل، لأن علم هذا ضرورى لا بنظر واستدلال. وترى أقواما ينتسبون إلى الملة الحنيفة يضاهون اليهود فى قولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودة. وترى أبعضا يقولون بأنه سيفنى أهل الجنة والنار. فما علمهم بالآخرة إلا كعلم من سردنا ذكرهم. والواو الأولى فى يوقنون بدل من ياء أيقن لسكونها بعد ضمة. وأما همزة أيقن فمحذوفة، لأن همزة أفعل تحذف فى المضارع، واسم الفاعل، واسم المفعول، فى الكلام الفصيح. وأما قراءة أبى حية النميرى يؤقنون - بهمزة ساكنة بعد الياء - فليست الهمزة فيها همزة أيقن، بل هى بدل من واو يوقنون المبدلة عن ياء أيقن، إجراء لضم ما قبل الواو مجرى ضم الواو. فأبدلت همزة، كما تبدل الواو المضمومة همزة، كقولك فى وجوه ووقتت ووقود أجوه وأقتت وأقود، كقول جرير
لحب الموقدان إلى موسى وجعدة إذ أضاءهما الوقود
بابدال واو الموقدان وموسى والوقود همزة الأول والثانى لانضمام ما قبلهما والثالث لانضمامه. واللام لام الابتداء وجب فعل ماض بوزن كرم نقلت ضمة بإئه للحاء فأدغمت فى الياء بعدها وحذفت ضمة الياء فأدغمت فتبقى الخاء على فتحها. وإنما دخلت عليه لام الابتداء، لأنه جامد بصيرورته من باب نعم. والموقدان فاعل. وإلى متعلق بحب. وموسى بدل أو بيان من الموقدان بواسطة عطف جعدة وهما أبناء. وإذا متعلق بحب. أو خارجه عن الظرفية بدل اشتمال من الموقدان، أو موسى وجعدة مدحهما بالكرم وإيقاد نار الضيافة، ومعنى إضاءة الوقود لهما إظهاره إياهما بالنور.
[2.5]
{ أولئك على هدى من ربهم } هذه الجملة مستأنفة استئنافا نحويا بيانيا هو نحوى بلا عكس فإن البيانى تكوين الجملة جواب لسؤال يقتضيه المقام كأنه قيل ما السبب فى اختصاص المتقين الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله، والذين يؤمنون بما أنزل إلى سيدنا محمد ومن قبله - صلى الله عليه وسلم - ويوقنون بالآخرة، يكون القرآن هدى لهم؟ فأجاب بأن السبب فى اختصاصهم يكون القرآن هدى لهم التوفيق من الله واللطف عليهم بالهدى، ولا يقال هذا نفس قوله هدى للمتقين فيلزم تحصيل الحاصل لأنا نقول معنى قوله هدى للمتقين زيادة هدى لهم، أو صالح لأن يهتدوا به. ثم قال أولئك الموصوفون بتلك الصفات غير بعيد أن يختصموا بكون القرآن زيادة هدى لهم، أو بكونه هدى موصلا لهم إلى تلك الصفات. وإن شئت فقل إن جملة أولئك على هدى من ربهم، ليست بيانا للعلة، بل إخبار بأن الهدى الحاصل لهم من القرآن إنما جاءهم من فضل الله. وهذا على أن معنى هدى للمتقين أنه هداهم بالفعل، واهتدوا بالصلاحية والإمكان فقط. نقول أحسن زيد إلى شيخه، شيخه حقيق بالإحسان سواء أردت بيان العلة كأنك قلت لأن شيخه حقيق بالإحسان من أجل أنه شيخه، أو أردت مجرد الإخبار بأنه حقيق به ولكن تعليق الحكم بمشتق يؤذن تعليته. والشيخ فى معنى المشتق، والآية من هذا القبيل، فإن أولئك غير مشتق، لكنه إشارة إلى المتصفين بتلك الصفات. فهو فى معنى المشتق فكأنه قيل اتصافهم بالاتقاء والإيمان بالغيب وإقامة الصلاة وما بعد ذلك سبب لزيادة الهدى الحاصلة لهم من توفيق الله وتفضله عليهم، ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة لمجرد الإخبار بأنهم أحقاء بالهدى، بأن تكون الإشارة إلى أنفسهم لا تفيد اعتبار صفة، فضلا عن أن تكون موذنة بالعلية، كقولك أكرم زيدا زيد أهل للإكرام، فإن قولك زيد أهل للإكرام غير متضمن لما هو علة لإكرامه، ولو جعلت العلة تعليلا. وإذا ذكرت الجملة الثانية بصفة ما بنى له الكلام الأول، كانت كمصرحة بالعلة نحو أكرم زيدا صديقك القديم أهل للإكرام، كأنه قيل أكرم زيدا لأنه صديقك الكريم، والصديق الكريم أولى بالإكرام وأهل له. وهذا النوع أحسن وأبلغ لانطوائه على بيان الموجب وهو العلة، وكيفية حمل الآية عليه أن تجعل الإشارة إلى المتصفين بتلك الصفات من حيث إنهم متصفون بها. كأنه قيل المؤمنون بالغيب.. إلخ، أهل لزيادة الهدى الكائن لهم من ربهم، أو أهل لأن يهتدوا بالقرآن ويتأثروا به، أى من علم الله أنهم سيتقون ويؤمنون بالغيب.. إلخ أهل لأن يهتدوا به ويتأثروا به. ويجوز أن يكون الذين الأول مبتدأ والثانى معطوفا عليه.
صفحة غير معروفة