هميان الزاد إلى دار المعاد

اطفيش ت. 1332 هجري
196

هميان الزاد إلى دار المعاد

تصانيف

{ أفتؤمنون ببعض الكتاب } المراد بالكتاب التوراة، وبعضه الذى آمنوا به هو لزوم الفداء المفروض عليهم فيه. { وتكفرون ببعض } هو تحريم القتال والإخراج من الديار والمعاونة فى ذلك بلا وجه شرعى. { فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزى فى الحياة الدنيا } قال الكلبى المراد بالخزى الإخراج من الديار والقتل أخرجت النضير وقتلت قريظة، يا بن آدم كما تدين تدان، وقال الحسن الخزى الجزية، ولعل ذلك منهما تمثيل، والمراد ما يعم ذلك وغيره، فقد قتلت قريظة وأسرت وسبت، وأخرجت النضير وضربت الجزية على غيرهم، ولما أخرجت النضير سكنت أريحاء وأذرعات من أرض الشام، وتلك الجزية هى أصل الجزية إلى آخر الدهر، ولفظ الخزى الفضيحة والعقوبة، فهو عام يحتمل على عمومه، وأصله ذل يستحى منه، ولذلك فسره بعضهم هنا بغلبة العدو، والحياة مصدر نائب عن اسم الزمان، أى فى وقت الحياة التى هى دانية، أى قريبة الزوال أو قريبة الأطراف، فهى غير طويلة، والدنيا مؤنثة لاسم تفضيل، وهو الأدنى باق على الوصفية وباؤه عن واو أبدلت فرقا بين الأسماء والصفات. { ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب } هو عذاب النار الدائم أو عذابها والحشر بحال قبيحة يستحيون منها، والتشديد عليهم والتضييق فى المحشر والنداء على رءوس الأشهاد بقبائحهم ردوا إلى أشد العذاب، لأن عصيانهم من أشد العصيان. وقرأ عاصم فى رواية المفاضل شذوذا تردون بالمثناة الفوقية. { وما الله بغافل عما تعملون } بالياء المثناة التحتية عند نافع وابن كثير وأبى بكر، وقرأ الباقون بالفوقية قاله أبو عمرو الدانى وقال القاضى قرأ بالتحتية نافع ويعقوب، والباقون بالفوقية، فالتحتية فى يردون ويعملون بالنظر إلى من فى قوله من يفعل، والفوقية على طريق الخطاب السابق فى الناقضين، وإنما صدق واحدا وعلى طريق الالتفات إلى الخطاب عن الغيبة التى فى قوله من يفعل، والجملة تأكيد للوعيد، كأنه قيل إن الله سبحانه وتعالى لبالمرصاد لا يغفل عما تعملون، فهو مجازيكم بكل ما فعلتم من صغير أو كبير، والكلام فى ذلك كله لليهود فقط، وإنما يدخل غيرهم بالمعنى فقط، إذ كل مكلف كذلك، ويحتمل أن يكون قوله { وما الله بغافل عما تعملون } بالفوقية خطابا لقريش ونحوهم، أى لا يغفل عنكم كما لم يغفل عن اليهود، وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال إن بنى إسرائيل قد مضوا وأنتم الذين تعنون بهذا يا أمة محمد، يريد أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم مكلفون بذلك الذى كلف به بنو إسرائيل، ومعاقبون إن توفوا كما عوقبت بنو إسرائيل حين لم يوفوا، وليس مراده أن الآية خطاب لهذه الأمة، وأول ما ظهر هذا العقاب الظهور الفاحش الشنيع بخراسان من المشرق، وبالأندلس من المغرب، شاع الجور والمعصية فعوقبوا بأيدى الروم.

وفى الأثر عنه صلى الله عليه وسلم من الحديث القدسى

" إذا عصانى من يعرفنى سلطت عليه من لا يعرفنى "

وهذه المعرفة مراتب فانظر كيف سلط الله على الموحدين لما عصوه الروم، وسلط المخالفين على الإباضية الوهبية وسلط عوام الإباضية الوهبية على خواصهم لما عصت الخواص.

[2.86]

{ أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة } أى أخذوا الحياة الدنيا بدل الآخرة اختيارا لها على الآخرة، وذلك الشراء هو كسبهم المعاصى، فإن الجمع بين لذات الدنيا والآخرة غير ممكن، فالاشتغال بالمعاصى الموجبة للنار هو ترك للآخرة وبيع لها. { فلا يخفف عنهم العذاب } عذاب الآخرة بنقص بعض أو قوته بتركه فى مدة. { ولا هم ينصرون } لا يدفع عنهم العذاب ولا ينقذون منه، ويجوز أن يكون معنى { لا يخفف عنهم العذاب } لا يخفف عنهم عذاب الدنيا بنقص الجزية أبدا، أو فى مدة، ولا يخفف عذاب الآخرة كذلك، ومعنى { ولا هم ينصرون } لا يدفع عنهم عذاب الآخرة ولا الجزية أبدا ويجوز أن يكون المعنى لا يخفف عنهم عذاب الدنيا ولا ينقذون من عذاب الآخرة.

[2.87]

{ ولقد آتينا موسى الكتاب } التوراة نزلت عليه بمرة، واللام فى قوله لقد لام ابتداء عند بعض، ولام جواب قسم محذوف عند بعض، ورجحه كثير ومعناه التوكيد على القولين، قال السهولى موسى مفعول ثانى والكتاب مفعول أول، ووجهه عندى أن همزة آتينا للتعدية، صيرت الفاعل مفعولا وهى مزيدة على أتى الثلاثى للتعدية والمفعول الذى أصله فاعل هو الذى يسمى مفعولا أولا، والمعنى ولقد جعلنا الكتاب آتيا موسى بالغا إليه، وقال غيره موسى مفعول أول والكتاب مفعول ثان، ووجهه عندى أنه ضمن آتينا معنى أعطينا، فكان موسى آخذا فهو الفاعل فى المعنى فهو المفعول الأول. { وقفينا من بعده بالرسل } تشديد قفينا للتأكيد والياء للتعدية قائمة مقام الهمزة التى للتعدية، ويجوز كون التشديد للتعدية لا للتأكيد، والرسل مفعول به والياء زائدة فيه، والمعنى اتبعنا الرسل بعضها بعضا أى صيرنا بعضها يتبع بعضا. قفى زيد عمرا أى جعله قافيا إياه، أى تابعا له وذلك من القفا ويقال أيضا قفيت فلانا فلانا إذا جئت به من جهة قفاه، وقفوته بالتخفيف تبعته، وقفوته ببكر أى تبعته به، ويقال ذنبته بالتشديد أى صيرته ذنبا، والمعنى اتبعنا الرسل الكثيرة بعد موسى بعضا خلف بعض، وهم يوشع وإسمؤيل وشمعون وداود وسليمان وشعيا وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم، كما ذكره الزمخشرى، وكلهم يحكمون بالتوراة حتى بعث الله عيسى بن مريم وأنزل عليه الإنجيل وخالف بعض الإنجيل بعض التوراة، فقال بعضهم الإنجيل هو المراد بالآيات البينات فى قوله عز وجل { وآتينا عيسى بن مريم البينات } أى الآيات الواضحات الدالة على الأحكام الشرعية، وهى الآيات التى تتلى فى الإنجيل، وقال الكلبى البينات المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار بالغيب بإذن الله، وقيل الحجج التى يحتج بها فى كلامه، ويجوز أن يراد ذلك كله، وعيسى بالسريانية وهى العبرية يشوع بالشين المعجمة، ويقال أيضا بالمهملة ومريم علم لأمه رضى الله عنها، وأصل هذا اللفظ بالعبرية صفة بمعنى الخادم، سميت به وتلقيت عليه الاسمية، وقيل المريم فى لسان العرب موجود بمعنى المرأة التى تحدث الرجال وتميل إليهم، كالزئر بكسر الزاء بعده همزة وهو الرجل الذى يحب محادثة النساء ومجالستهن، قال رؤبة يمدح السفاح أو المنصور

قلت لزير لم تصله مريم قليل أهوى الصبى تندسى

وهذه فى لغة العرب، وليست هذه الصفة فى مريم إلا أن أحبت محادثة الأنبياء والعلماء، ووزن مريم بالمعنى العربى، مفعل فميم زائدة والياء أصل من رامه يرميه إذا فارقه أو لازمه يستعمل بالمعنيين، وليس وزنه فعيل بأصالة الميم وزيادة الياء لأن هذا غير موجود فى الأبنية، بل الموجودة فعيل بضم الفاء كعليب وفعيل بكسرها كعثير.

صفحة غير معروفة