غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

محمد بن أحمد السفاريني ت. 1188 هجري
82

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

الناشر

مؤسسة قرطبة

رقم الإصدار

الثانية

سنة النشر

١٤١٤ هجري

مكان النشر

مصر

تصانيف

التصوف
وَالْأَهْوَاءِ. قَالَ الْحَسَنُ: إنَّهُمْ وَإِنْ هَمْلَجْت بِهِمْ الْبِغَالُ، وَطَقْطَقْت بِهِمْ الْبَرَاذِينُ، فَإِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ لَفِي قُلُوبِهِمْ، أَبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: النَّاسُ يَطْلُبُونَ الْعِزَّ فِي أَبْوَابِ الْمُلُوكِ وَلَا يَجِدُونَهُ إلَّا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَقَدْ وَالَاهُ فِيمَا أَطَاعَهُ فِيهِ، وَمَنْ عَصَاهُ عَادَاهُ فِيمَا عَصَاهُ فِيهِ. وَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ: إنَّهُ لَا يُذَلُّ مِنْ وَالَيْت، وَلَا يُعَزُّ مَنْ عَادَيْت. (السَّادِسَةُ) أَنَّهُ يُورِثُ الْقَلْبَ سُرُورًا وَفَرْحَةً أَعْظَمَ مِنْ الِالْتِذَاذِ بِالنَّظَرِ، وَذَلِكَ لِقَهْرِهِ عَدُوَّهُ وَقَمْعِهِ شَهْوَتَهُ وَنُصْرَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَفَّ لَذَّتَهُ وَحَبَسَ شَهْوَتَهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَفِيهِمَا مَضَرَّةُ نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، أَعَاضَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَسَرَّةً وَلَذَّةً أَكْمَلَ مِنْهُمَا، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: وَاَللَّهِ لَلَذَّةُ الْعِفَّةِ أَعْظَمُ مِنْ لَذَّةِ الذَّنْبِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّفْسَ إذَا خَالَفَتْ هَوَاهَا أَعْقَبَهَا ذَلِكَ فَرَحًا وَسُرُورًا وَلَذَّةً أَكْمَلَ مِنْ لَذَّةِ مُوَافَقَةِ الْهَوَى بِمَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا. وَهُنَا يَمْتَازُ الْعَقْلُ مِنْ الْهَوَى. (السَّابِعَةُ) أَنَّهُ يُخَلِّصُ الْقَلْبَ مِنْ أَسْرِ الشَّهْوَةِ، فَلَا أَسْرَ أَشَدُّ مِنْ أَسْرِ الشَّهْوَةِ وَالْهَوَى، قَدْ سَلَبَ الْحَوْلَ وَالْقُوَّةَ، وَعَزَّ عَلَيْهِ الدَّوَاءُ، فَهُوَ كَمَا قِيلَ: كَعُصْفُورَةٍ فِي كَفِّ طِفْلٍ يَسُومُهَا ... حِيَاضَ الرَّدَى وَالطِّفْلُ يَلْهُو وَيَلْعَبُ (الثَّامِنَةُ) أَنَّهُ يَسُدُّ عَنْهُ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، فَإِنَّ النَّظَرَ بَابُ الشَّهْوَةِ الْحَامِلَةِ عَلَى مُوَاقَعَةِ الْفِعْلِ، وَتَحْرِيمُ الرَّبِّ تَعَالَى وَشَرْعُهُ حِجَابٌ مَانِعٌ مِنْ الْوُصُولِ، فَمَتَى هَتَكَ الْحِجَابُ تَجَرَّأَ عَلَى الْمَحْظُورِ، وَلَمْ تَقِفْ نَفْسُهُ مِنْهُ عِنْدَ غَايَةٍ، لِأَنَّ النَّفْسَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا تَقْنَعُ بِغَايَةٍ تَقِفُ عِنْدَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ لَذَّتَهُ فِي الشَّيْءِ الْجَدِيدِ. فَصَاحِبُ الطَّارِفِ لَا يُقْنِعُهُ التَّلِيدُ، وَإِنْ كَانَ أَحْسَنَ مِنْهُ مَنْظَرًا أَوْ أَطْيَبَ مَخْبَرًا. فَغَضُّ الْبَصَرِ يَسُدُّ عَنْهُ هَذَا الْبَابَ، الَّذِي عَجَزَتْ الْمُلُوكُ عَنْ اسْتِيفَاءِ أَغْرَاضِهِمْ فِيهِ، وَفِيهِ غَضَبُ رَبِّ الْأَرْبَابِ. (التَّاسِعَةُ) أَنَّهُ يُقَوِّي عَقْلَهُ وَيُثَبِّتُهُ وَيَزِيدُهُ، فَإِرْسَالُ الْبَصَرِ لَا يَحْصُلُ إلَّا مِنْ قِلَّةٍ فِي الْعَقْلِ، وَطَيْشٍ فِي اللُّبِّ، وَخَوَرٍ فِي الْقَلْبِ، وَعَدَمِ مُلَاحَظَةٍ لِلْعَوَاقِبِ، فَإِنَّ خَاصَّةَ الْعَقْلِ مُلَاحَظَةُ الْعَوَاقِبِ، وَمُرْسِلُ الطَّرْفِ لَوْ عَلِمَ مَا تَجْنِي عَوَاقِبُ طَرْفِهِ عَلَيْهِ لَمَا أَطْلَقَ بَصَرَهُ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: وَأَعْقَلُ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ سَبَبًا ... حَتَّى يُفَكِّرَ مَا تَجْنِي عَوَاقِبُهُ

1 / 89